ولقد قلتها كثيرا وها أنا ذا أقولها مرة أخرى، وهي أن التفرقة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي ليس معناها المفاضلة، بل معناها هو كما يدل عليه اسمها: التفرقة بين شيئين مختلفين، لا بل إنني لو كنت أفاضل بين الحياتين: حياة الفنان الذي يعبر عن نفسه، وحياة العالم الذي يهمل نفسه ليصف الطبيعة الخارجية؛ لما ترددت لحظة في أن أحيا حياة الفنان الذي يدير نشاطه حول ذاته وما تنطوي عليه، لكن الأمر ليس أمر مفاضلة، بل هو أمر تمييز وتفرقة بين نوعين من المعرفة: معرفة تصور الباطن ولا تصلح للمحاجة والمناقشة، فإما أن نستحسنها فنقبلها، أو أن نستقبحها فنعرض عنها؛ ومعرفة تصور الخارج، وهذه وحدها هي التي يصح أن يناقش فيها ويجادل؛ لأنها هي وحدها التي يجوز لنا أن نصفها بالحق أو بالبطلان.
فإذا كنا قد أصررنا وألححنا في مواضع كثيرة أخرى غير هذه الرسالة الصغيرة، بأن الكلام الذي يريد به صاحبه أن ينبئ عن الحقيقة الخارجية لا بد أن يجيء ومعه إمكان تحقيقه بمراجعته على المحسات الخارجية التي يدعي أنه ينبئ عنها، وإلا فهو كلام خلو من المعنى؛ أقول إننا إذا كنا قد ألححنا في توكيد هذا المذهب، فما أرانا إلا أن نقول ما يتفق مع البداهة والإدراك الفطري السليم .
اختر لنفسك إزاء نفسك وإزاء الكون الموقف الذي ترتضيه، لكن كن على وعي بما قد اخترت لنفسك راضيا: فإما أن يكون ركونك في قولك على حدسك، وبذلك تكون فنانا في طبيعتك؛ أو أن تستقي علمك من حواسك وعقلك المنطقي، وبذلك تكون عالما في طبيعتك؛ ولك بطبيعة الحال أن تكون فنانا في نظرتك حينا وعالما حينا آخر، على شرط أن تكون في كل حين مسئولا عما تفعل، فعند الوقفة الفنية تكون مسئولا أمام قواعد النقد الفني، وعند الوقفة العلمية تكون مسئولا أمام قواعد الاختبار العلمي؛ والخطأ كل الخطأ، بل الخطر كل الخطر هو أن تعبر عن ذات نفسك أنت إزاء الأشياء ثم تدعي أنك تنبئ الناس عن حقائق مما يصح أن يناقشوك فيه.
ولقد حاولت أن أبين في هذه الرسالة أن الشرق الأقصى قد وقف إزاء الكون وقفة الفنان الذي يستند إلى حدسه، وأن الغرب قد وقف إزاءه وقفة العالم الذي يرتكن إلى حسه وعقله، وأن ثقافة الشرق الأوسط قد جمعت الوقفتين جنبا إلى جنب؛ فنرى الدين والعلم معا متجاورين، بل ترى الدين نفسه يناقش بمنطق العلم، فتندمج النظرتان في موضوع واحد؛ فلا جناح على من يلتمس حقيقة الوجود في جوهره غير المنظور، نافذا إليه بحدسه، ما دام هو على علم بأنه عندئذ إنما يحتكم إلى الذوق والوجدان، ثم لا جناح على من يلتمس حقيقة الوجود في ظواهره المنظورة، ناظرا إليها بحواسه، ومستدلا من شواهد الحس نتائج يستنبطها العقل بوسائل المنطق، ما دام هو على علم بأنه عندئذ إنما يقتصر على الجانب المحس الذي هو ميدان العلوم، أما أن نخلط بين الأمرين، فنتكلم عن الوجود بلغة الذوق والوجدان، ثم نزعم أننا نرضي منطق العقل، أو نتكلم بلغة الحس والاستنباط مما يدركه الحس، ثم نزعم أننا قد شملنا بالقول كل مجال للحديث؛ فذلك هو الخلط الذي يباعد في الرأي بين الناس إلى حيث لا سبيل إلى التقاء.
ناپیژندل شوی مخ