أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وهل بنا حاجة إلى القول بأن هذا الشرق الأوسط في روحانيته، منذ أقدم عصوره، هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه إلى موسى وعيسى ومحمد
صلى الله عليه وسلم ؟ فلئن كان عرف الكتاب في الغرب قد جرى على تسمية الحضارة الغربية باسم الحضارة المسيحية آنا، والحضارة المسيحية اليهودية آنا آخر، فمن أين جاءتهم الديانتان؟ إنهما جاءتا من مهدهما ومهبط وحيهما؛ الشرق الأوسط. وأقل ما يقال في ذلك هو أنه إن كان من خصائص العقيدتين أن تطبعا العقل بطابع معين في الفكر والعمل، فيستحيل أن يكون ذلك الطابع غريبا على أهل الشرق الأوسط الذين تلقوهما وآمنوا بهما قبل أن ينقلوهما إلى بلاد الغرب.
لقد كانت الإسكندرية حامية للمسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي لأول مرة ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى؛ مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوال العصور الوسطى، وذلك دليل على اجتماع أمرين لأهل هذه البلاد كما زعمنا: القلب والعقل معا، الإيمان والعلم، اللمسة المباشرة ومعها عملية التحليل العقلي، وإنا لنذكر من آباء الكنيسة الإسكندريين رجلا واحدا هو حسبنا دليلا على هذا الذي نقوله، هو «أوريجن» (185-254)، وهو معاصر ل «أفلوطين» الذي أسلفنا لك ذكره منذ حين، وقد بذل «أوريجن» جهدا في تثبيت العقيدة المسيحية عندما كانت لا تزال تتعرض لهجمات المنكرين، ومن أهم ما قاله وأيده بالأدلة هو أن الفلسفة اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصرف، والأناجيل القائمة على الإلهام والوحي الصرف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان، مما يبين أن العقل والنقل يسيران معا ولا يتناقضان، ولا يخفى أن هذا هو الأساس الذي قامت عليه فلسفة العصور الوسطى كلها في الشرق الأوسط الإسلامي وفي الغرب المسيحي على السواء؛ إذ أخذ الفلاسفة في كل منهما يحاولون البرهان على أن الوحي الديني ونتاج العقل الفلسفي اليوناني ينتهيان آخر الأمر إلى نتيجة واحدة.
على أن «أوريجن» حين قال ذلك عن الأناجيل، لم يفته أن يؤكد بأن صحة ما قد ورد فيها ليس مترتبا على صدق الفلسفة اليونانية، بل «الإنجيل يحمل برهان نفسه بنفسه، وهو أقدس من أي برهان أقامه فن الجدل اليوناني»؛ وهكذا يتمثل في الرجل الواحد إيمانه بعقيدته واهتداؤه بعقله في آن واحد، وذلك هو ما أقول عنه إنه روح الشرق الأوسط في شتى عصوره.
الفصل الثاني عشر
سأضع الرأي الذي أعرضه في هذه الرسالة وضعا موجزا واضحا قبل أن أمضي في الحديث: هنالك طرفان من وجهات النظر؛ طرف يتمثل في الشرق الأقصى، مؤداه أن ينظر الإنسان إلى الوجود الكوني نظرة حدسية مباشرة، فإذا الإنسان جزء من الكون العظيم، وهذه نظرة الفنان الخالص؛ وطرف آخر يتمثل في الغرب، مؤداه أن ينظر الإنسان إلى الوجود نظرة عقلية تحلل وتقارن وتستدل، وهذه نظرة العلم الخالص؛ وبين الطرفين وسط يجمع بين الطابعين، وهو الشرق الأوسط، الذي يدل تاريخ ثقافته على مزج بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين خفقة القلب وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل.
ناپیژندل شوی مخ