فأدرك أنها تقول ذلك تدللا فلم يجبها بغير الابتسام، وخرج مسرعا يلتمس جواده ليرجع إلى المعسكر، فمشت ميمونة في أثره حتى إذا أوشك على الوصول إلى باب الخباء سمعته يقول: «مرحبا بالأمير هانئ ألا تزال هنا؟ لماذا لم تدخل إلى الخباء؟» فازدادت ميمونة استغرابا من ذلك الترحاب. •••
فتقدم هانئ وهو يلتف بعباءته وليس في وجهه وجل ولا خجل، وقد أكبر أن يرجع إلى المعسكر رجوع الهارب بعد أن علم عبد الرحمن بوجوده هناك شق عليه أن يفعل ذلك أنفة وكبرا وخصوصا بعد أن علمت مريم به، فلما أوعز إليه غلام عبد الرحمن بالذهاب إلى المعسكر وقف ورجله في الركاب لا يتكلم ولا ينتقل، وخيل له أن مريم تنظر إليه تراقب حركاته فلبث حينا واقفا ثم تحول عن الجواد بغتة ومشى نحو باب الخباء يلتمس لقاء عبد الرحمن فقيل له إنه في خلوة لا يراه فيها أحد، فعزم على انتظاره فجعل يخطر أمام الخباء وعيناه تراقبه. •••
وكانت مريم لما تركها عبد الرحمن مع القهرمانة عادت إلى التفكير في هانئ وخروجه على تلك الحالة، فأرادت أن تستطلع أمره فتحولت إلى جدار الخباء، ونظرت من شق فرأت هانئا يتمشى خارجا وعباءته وسيفه يجران وراءه وهو يلاعب شاربه ولحيته ويتمايل بمشيته كالأسد، فاختلج قلبها في صدرها سرورا برؤيته، وودت لو أنها تخاطبه ولكنها خافت من القهرمانة، فاكتفت بالنظر إليه وتأمل حركاته على غفلة منها، وبعد قليل سمعت ضجة في الخباء فعلمت أن عبد الرحمن خارج، فأحبت أن تعلم ماذا يكون من أمره إذا لقي هانئا، فتحولت بحيث تراهما ولا يراها أحد لاشتغال القهرمانة وسائر أهل الخباء بوداع الأمير، فرأت هانئا يمشي نحو عبد الرحمن حتى التقيا، وسمعت عبد الرحمن يخاطبه مخاطبة الأخ ويعاتبه على تخلفه، وهانئ يدل عليه دلال الابن على أبيه، وعبد الرحمن يبتسم له ويرحب به، وسمعت هانئا يقول وهو يخطر نحوه: «بلغني أنك سألت عني.»
فأجابه عبد الرحمن وهو يقترب منه حتى وضع يده على كتفه: «وهل يسأل المرء إلا عن أخيه أو حبيبه؟» قال ذلك وابتسم وأهل الخباء يسمعون، وأكثرهم سرورا بذلك مريم وأشدهم غيظا ميمونة، ثم مشى عبد الرحمن ويده بيد هانئ فقدموا لهما الأفراس فركبا إلى المعسكر وحولهما الخدم والأعوان. •••
وظلت ميمونة ومريم تنظران إلى ذلك الركب وكل منهما في ناحية وقلبها في ناحية أخرى حتى تواروا، فعادت ميمونة إلى خلوتها وأعملت فكرتها في حيلة أخرى وقد أسفت أسفا لا مزيد عليه لفشلها وذهاب سعيها هباء.
الفصل الثالث والعشرون
المكاشفة
أما مريم فإنها عادت من وراء ذلك الجدار وقد شبت نيران الحب في قلبها، والتمست الخلوة لتسترجع ما دار بينها وبين حبيبها استئناسا بذكراه، ومخافة أن يكون قد بدر منها ما تؤاخذ عليه، جلست في غرفتها هنيهة كأنها في عالم الخيال، ثم انتبهت للقارورة وكانت لا تزال في قبضتها، فنظرت إليها وفتحتها واشتمت رائحتها فطربت لها واستأنست بها؛ لأنها من هانئ، وصبت قليلا من الطيب على كفها دهنت به شعرها ووجهها وكفيها ففاحت رائحة الخباء بطيبها.
وبينما هي في خلوتها دخلت ميمونة وهي تبتسم ابتسام محب معجب بحبيبه، فقابلتها مريم بمثل ابتسامتها وقد ارتاحت إليها وتاقت إلى مكاشفتها بما شغل خاطرها من الحب، ولكنها أمسكت لئلا يكون في ذلك ما يغضب حبيبها، على أنها رحبت بميمونة وتحفزت للوقوف احتفاء بها فسبقتها ميمونة إلى الحديث، فقالت وهي تهش لها: «أراك عدت من غرفة القهرمانة وقد زدت طيبا.»
وكانت القارورة لا تزال في قبضتها، فضحكت وبدا الحياء في وجهها، وبادرت إلى القارورة فخبأتها في جيبها ولم تحر جوابا.
ناپیژندل شوی مخ