فقالت مريم: «ولماذا هذا الغياب؟ وما هي تلك المهام التي تقتضي أياما للفراغ منها؟ وأنا لم أفارقك قبل اليوم مطلقا، فهل أستطيع البقاء وحدي بين أناس لا أعرفهم اتركي إذن عندي حسانا فإني أستأنس به.»
قالت: «إني في حاجة إليه في هذه المهمة وإلا فإن غيابي يطول كثيرا.»
قالت: «لقد شغلت بالي هل تكشفين لي عن سبب ذلك الغياب؟»
قالت: «لا أخفي عليك يا بنية أني اتفقت مع الأمير عبد الرحمن على أن أكون واسطة بينه وبين الغاليين سكان هذه البلاد الأصليين، على شرط أن يعاملهم بالرفق والإحسان كما عامل موسى بن نصير وابنه عبد العزيز نصارى الأندلس عند فتحها، وأنا ذاهبة في صباح الغد إلى أسقف بوردو فألاقيه بعد أن تكون الآنية قد وصلته وتأكد من صدق أمير المسلمين، فأستعين به وأستعين بسواه من سراة هذه المدينة في إقناع سراة البلاد الأخرى، وأساقفتها وكهنتها بأن المسلمين خير لهم من أود وغيره من أمراء الإفرنج، وأنا أعتقد أنهم إذا وافقوني على ذلك أفلحوا واعلمي يا مريم أني كاشفتك بسر يجب أن يبقى مكتوما عن الجميع.»
ولم تكن مريم تهتم بهذا الحديث مع أهميته لما جاش في خاطرها من أمر هانئ، وودت لو أنها تعود إلى ذكره لعلها تستطلع شيئا من أمره، ولكنها لم تستطع ذلك؛ لأن والدتها نهضت لتبديل ثيابها التماسا للنوم فسايرتها مريم وذهبت إلى فراشها، ولكنها لم يغمض لها جفن معظم ذلك الليل، وهي تتوقع أن يناديها هانئ أو يناديها أحد عنه، فلما طال انتظارها يئست من ذلك.
الفصل الثامن عشر
دسيسة
أما ميمونة فإنها ذهبت إلى مضجعها بإزاء مضجع سالمة لا يفصل بينهما إلا الجدار، وكانت مضطربة الخاطر لما شاهدته من سالمة، فلقد بدا لها أنها لم تدخل ذلك المعسكر إلا لأمر هام فتظاهرت بالسكون وأصغت لما عساه أن يدور من الحديث بين سالمة وابنتها، فسمعت ما دار بينهما فلما اطلعت على السر أهمها أمره كثيرا؛ لأنه يحول دون الغرض الذي من أجله رافقت تلك الحملة فباتت وهي تدبر الحيل وتهيئ الشراك.
وقبل أن ينبلج الصباح نهضت ميمونة من فراشها وتزملت بردائها وتظاهرت بالخروج إلى خباء بالقرب من خباء الأمير، وكانت على موعد في كل صباح مع رجل من الجند تزعم أنه كان من غلمانها يوم كانت بمعية لمباجة في أيام المنيذر الإفريقي، فرأت في أثناء خروجها فارسا قادما من المعسكر عرفت من زيه ولون جواده أنه هانئ، فاستغربت قدومه في ذلك الصباح، فلما توارى عن بصرها ذهبت إلى موعدها، فمكثت هناك حتى جاءها الرجل وهو بربري عليه ثياب الجند قصير القامة خفيف الشعر خفيف العضل، في الثلاثين من عمره، وفي عينه حول شديد فإذا نظر إليك يوهمك أنه ينظر إلى رجل على مسافة بعيدة منك، فلما أقبل عليها تبسم وأشار بحاجبيه وبعينه الشاردة أنه في شوق شديد إلى رؤيتها وأنه قتيل هواها.
فابتسمت ميمونة له وأظهرت الدلال وقالت له: «يظهر يا عدلان أنك نسيت سيدتك وتغافلت عن وعدك، فإن الغنائم شغلتك عن ميمونة وظننتها تنسى مثلك.»
ناپیژندل شوی مخ