Sharh Sahih Ibn Hibban - Al-Rajhi
شرح صحيح ابن حبان - الراجحي
ژانرونه
بيان أن من اقتصر على الواجبات وترك المحرمات دخل الجنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فرض الإيمان.
أخبرنا عمر بن محمد الهمداني قال: حدثنا عيسى بن حماد قال: حدثنا الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك ﵁ يقول: (بينما نحن جلوس في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ ورسول الله ﷺ متكىء بين ظهرانيهم، قال: فقلنا له: هذا الأبيض المتكىء، فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب! فقال له رسول الله ﷺ: قد أجبتك، فقال الرجل: يا محمد! إني سائلك فمشتد عليك في المسألة فلا تجدن علي في نفسك، فقال رسول الله ﷺ: سل ما بدا لك، فقال الرجل: نشدتك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال رسول الله ﷺ: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال رسول الله ﷺ: اللهم نعم.
قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال رسول الله ﷺ: اللهم نعم.
قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال رسول الله ﷺ: اللهم نعم.
فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر)].
هذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو حديث عظيم فيه من الفوائد: أن من أدى الفرائض وترك المحرمات فهو من أهل الجنة يدخل الجنة من أول وهلة؛ لأنه أدى ما عليه ولو لم يأت بالنوافل، ويكون من المقتصدين، وهم أصحاب اليمين الذين يقتصرون على الفرائص والواجبات، لكن السابقين أفضل منهم، وهم الذين يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وقد أقر ضمام بن ثعلبة أنه سيصوم الشهر، ويؤدي الصلاة، ويزكي، ولا يزيد، بدليل قوله: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وفي اللفظ الآخر أنه قال: (لا أزيد على هذا ولا أنقص).
وفيه من الفوائد: أن النبي لم يكن متميزًا عن أصحابه، ولهذا يأتي الغريب فلا يعرفه حتى يسأل: أين محمد؟ فيجيبه الصحابة -كما في هذا الحديث-: هذا الرجل الأبيض المتكئ، ولو كان متميزًا بلباسٍ أو بشيء آخر كما يتميز الملوك لعرفه من سأل عنه ﵊.
وفيه أن الجد أب، ونسبة الإنسان إلى جده نسبة إلى أبيه، وهذا يستفاد من قوله: يا ابن عبد المطلب لأن عبد المطلب كان مشهورًا بخلاف عبد الله والد النبي فإنه مات شابًا، فلما كان عبد المطلب رئيسًا في قومه، مشهورًا عند العرب اسمه؛ نسب النبي إليه، والجد أب.
وفيه عناية ضمام بن ثعلبة واعتذاره حيث قال: إني سائلك فمشتد عليك في المسألة، ثم قال: آلله أرسلك؟ آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات؟ آلله أمرك أن نصوم؟ آلله أمرك أن نؤدي الصدقة؟ يستحلفه فيها، وهذا مبالغة في التأكيد، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يهابون النبي ﷺ، ويجلونه؛ حتى إنهم لا يطيقون النظر إليه إجلالًا له واحترامًا وتوقيرًا، ويعجبهم الرجل يأتي من البادية لا يستحي أن يسأل عن دينه فيستفيدون بما أجابه النبي ﷺ؛ وذلك لأن الصحابة ما كانوا يجرءون على أن يسألوا بهذه الأشياء، أما الأعرابي فإنه بما عنده من جفاء وغلظة يجرؤ على أن يسأل النبي ﷺ، والنبي ﷺ يجيب، فيتعلمون مما علمه.
والمقتصد هو من أصحاب اليمن، الذين اقتصدوا أي: اقتصروا على الواجبات، وليس المعنى: قاصد أي: المريد للشيء، ولا القاسط بالسين؛ إذ القاسط هو الجائر الظالم، والمقتصد هو العادل وفرق بينهما، والقاسط مشتق من الثلاثي قسط التي تعني: جار وظلم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن:١٥] أي: الظالمون الجائرون، وأما المقتسط فهو اسم فاعل من أقسط الرباعي وفي الحديث: (المقسطون على منابر من نور).
والمقسطون من أقسط بمعنى عدل والفرق بينهما الهمزة.
والحديث أخرجه أحمد والبخاري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا محمد بن الخطاب البلدي قال: حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي قال: حدثنا سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك ﵁ قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فأتاه رجل منهم، فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب الجبال: وجعل فيها هذه المنافع آلله أرسلك؟ قال: نعم.
قال: زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: زعم رسولك أن علينا صدقة في أموالنا؟ قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئًا، فلما قفى قال رسول الله ﷺ: لئن صدق ليدخلن الجنة)].
وفيه أن المقتصد من اقتصر على الفرائض، وهو معنى قوله: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، وقد دل الحديث على أن المقتصد يدخل الجنة من أول وهلة، وأنه من أصحاب اليمين، ولكنهم ليسوا الأفضل بل السابقون بالخيرات أفضل منهم، وهم الذين يؤدون النوافل بعد الفرائض، أما الظالمون لأنفسهم فهم الذين يقصرون في الواجبات، ويفعلون بعض المحرمات، وفيه توكيد الأسئلة، وأنها مؤكدة مشددة لعظم ما تتناوله، وقوله: (زعم رسولك)، الزعم يطلق ويراد به الادعاء الكاذب، ويطلق ويراد به مجرد القول، ومعنى: زعم رسولك، أي: قال لنا رسولك كذا وكذا، وليس المراد أنه ادعى كذبًا كما في قوله تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ [التغابن:٧]، أي: زعموا زعمًا كاذبًا، بل زعم في الحديث بمعنى قال.
والحديث أخرجه مسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو حاتم ﵁: هذا النوع مثل: الوضوء والتيمم والاغتسال من الجنابة والصلوات الخمس والصوم الفرض وما أشبه هذه الأشياء التي هي فرض على المخاطبين في بعض الأحوال لا الكل].
والمقصود أنه في بعض الأحيان تختلف أحوال الناس فيها على حسب الأدلة، فمن أصابته الجنابة يجب عليه الغسل، ومن لم تصبه الجنابة لا يجب عليه الغسل، كذلك من فقد الماء يتيمم ومن لم يفقد الماء لا يتيمم، ومن كان قادرًا على الصوم يصوم ومن لا يقدر على الصوم لا يصوم، بل يطعم إذا كان عاجزًا أو يفطر ويقضي إذا كان مسافرًا أو مريضًا.
9 / 4