مقدمة ([عن] الإمام أبو حنيفة ﵁ وعلم الحديث) (٨٠ - ١٥٠ هـ)
[تمسك الإمام بالسنة]
بسم الله الرحمن الرحيم
السنة هي الأصل الثاني بعد كتاب الله تعالى في استنباط الأحكام الشرعية وعليه إجماع الأمة .. وقد أثير لغط حول أمرين:
أولهما: مدى اعتماد أبي حنيفة على السنة.
والثاني: مقدار الأحاديث التي استدل بها أبو حنيفة ..
أما مدى اعتماد الإمام على السنة فنتبينه من خلال منهجه في الاستنباط وشروط قبول الأخبار عنده .. ومن أصوله رحمه الله تعالى:
-١ - قبول مرسلات الثقات إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، والاحتجاج بالمرسل كان سنة متوارثة جرت عليه الأمة في القرون الفاضلة حتى قال ابن جرير: رد المرسل مطلقًا بدعة حدثت في رأس المائتين.
-٢ - ومن أصوله عرض أخبار الآحاد على الأصول المجتمعة عنده بعد استقرائه موارد الشرع، فإذا خالف خبر الآحاد تلك الأصول يأخذ بالأصل عملًا بأقوى الدليلين، وَيعُد الخبر المخالف له شاذًا. وليس في ذلك مخالفة للخبر الصحيح، وإنما فيه مخالفة لخبر بدت علة فيه للمجتهد. وصحة الخبر فرعُ خلوه من العلل القادحة عند المجتهد.
-٣ - ومن أصوله: عرض أخبار الآحاد على عمومات الكتاب وظواهره فإذا خالف الخبر
مقدمة / 1
عامًا أو ظاهرًا في الكتاب، أخذ بالكتاب وترك الخبر عملًا بأقوى الدليلين، لأن الكتاب قطعي الثبوت، وظواهره وعموماته قطعية الدلالة عنده.
أما إذا لم يخالف الخبر عامًا أو ظاهرًا في الكتاب بل كان بيانًا لمجمل فيه فيأخذ به حيث لا دلالة فيه بدون بيان.
-٤ - ومن أصوله في الأخذ بخبر الآحاد: أن لا يخالف السنة المشهورة سواء أكانت سنة فعلية أو قولية عملًا بأقوى الدليلين.
-٥ - ومن أصوله، أن لا يعارض خبر مثله، وعند التعارض يرجح أحد الخبرين على الآخر، بوجوه ترجيح تختلف أنظار المجتهدين فيها ككون أحد الراويين فقيهًا أو أفقه بخلاف الآخر.
-٦ - ومن أصوله أن لا يعمل الراوي بخلاف خبره، كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، فإنه مخالف لفتيا أبي هريرة فترك أبو حنيفة العمل به لتلك العلة.
-٧ - ومن أصوله. ردُّ الزائد - متنًا كان أو سندًا - إلى الناقص احتياطًا في دين الله تعالى.
-٨ - ومن أصوله: عدم الأخذ بخبر الآحاد فيما تعمُّ به البلوى - أي فيما يحتاج إليه الجميع حاجة متأكدة مع كثرة تكرره - فلا يكون طريق ثبوت ذلك غير الشهرة أو التواتر، ويدخل في ذلك الحدود والكفارات التي تُدرأ بالشبهة.
-٩ - ومن أصوله: أن لا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم.
-١٠ - ومنها استمرار حفظ الراوي لمرويّه من آن التحمل إلى آن الأداء من غير تخلل نسيان.
-١١ - ومنها عدم مخالفة - الخبر للعمل المتوارث بين الصحابة والتابعين وبمقتضى هذه القواعد ترك الإمام أبو حنيفة ﵀ العمل بأحاديث كثيرة من الآحاد ...
مقدمة / 2
والحق أنه لم يخالف الأحاديث عنادًا، بل خالفها اجتهادًا لحجج واضحة ودلائل صالحة، وله بتقدير الخطأ أجر، وبتقدير الإصابة أجران (١).
هذا، وأما مقدار الأحاديث التي استدل بها في مذهبه .. فالجواب عليه ما ثبت في المسانيد الخمس عشرة المنسوبة إليه .. بل ومضافًا إليها من الأحاديث والآثار الثابتة في السند المتصل وهي بالآلاف والتي تصدى لجمعها في وقت مبكر غير واحد من العلماء والذي وصلنا منها ما جمعه الطحاوي في معاني الآثار ومشكل الآثار وهو من الفقهاء المتقدمين رتبة وتاريخًا في المذهب، وما جمعه أخيرًا السيد محمد مرتضى الزبيدي في كتابه الموسوم بـ (عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة مما وافق فيه الأئمة الستة أو أحدهم) والذي جاء في مقدمته: ما نصه: قصدت بهذا التألبف الردُّ على بعض المتعصبين ممن اعتسف عن واضح المشارع، ونسب إلى إمامنا أنه يقدم القياس على النص الثابت عن الشارع، ولعمري هذه النسبة إليه غير صحيحة، فإن الصحيح المنقول في مذهبه تقديم النص على القياس (٢).
والمقصود بالنص هنا هو الحديث الشريف بالجملة .. وإن كان عبارة النص تشمل الآية الكريمة عند العلماء .. وقد أجمعوا على أن القرآن مقدم على ما سواه.
ولكن لماذا سيقت التهمة في مواجهة الإمام أبي حنيفة ..
يجيب الزبيدي قائلًا: إن مذاهب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم منسوجة من الشريعة المطهرة سداها ولحمتها لا سيما مذهب إمامنا الأعظم، لكن وجوه استنباطه تدق عن إدراك عقول طلبة العلم، وما يوجد في بعضها مما يخالف ظاهر الأحاديث فهو بالنسبة إلى مدارك أفهامنا، وإلا فقد صح عنده من قوله ﷺ أو فعله أو من آثار الصحابة ما قام عنده بمقام اليقين وجعله حجة، ثم أيده بالنظر فيه والاستكشاف لما يعارضه ويخالفه.
_________
(١) (الكوثري - تأنيب الخطيب - ٢٢٣ - ٢٢٥)
(٢) (الزبيدي - الجواهر المنيفة. المقدمة/٥)
مقدمة / 3
ولا يقول عاقل إن الإمام ﵁ يجد في مسألة نصًا عن الشارع ويخالفه بقياس أو رأي .. حاشاه من رأي أو قياس يخالفان الشريعة.
والذي أجمع عليه أهل مذهبه أنه ﵁ يأخذ بخبر النبي ﷺ ما جاء، فإن اختلف خبران وكان لأحدهما وجه في التأويل يوافق به الخبر الآخر الذي ليس له إلا وجه واحد في الظاهر وفق بينهما.
فإن لم يجد خبرًا عن النبي ﷺ أخذ من آثار الصحابة ما كان أقرب إلى كتاب الله وسنة نبيه ويسمى ذلك اجتهادًا (١)
كما أثر عنه ﵁ قوله: كذب والله وافترى علينا من يقول: إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى قياس!!
وقال نحن لانقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلًا قسنا حينئذ مسكوتًا عنه على منطوق به (٢).
وقال الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي محدث الديار المصرية في (عقود الجمان): كان أبو حنيفة من كبار حفاظ الحديث وأعيانهم، ولولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه، وذكره الذهبي في طبقات الحفاظ - ولقد أجاد وأفاد.
وفي سبب قلة الرواية عنه .. بالمقارنة مع بقية الفقهاء يقول الصالحي: إنما قلّت الرواية عنه -وإن كان متسع الحفظ - لاشتغاله بالاستنباط، وكذلك لم يرو عن مالك والشافعي إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعاه للسبب نفسه.
كما قلّت رواية أمثال أبي بكر وعمر من كبار الصحابة ﵃ إلى كثرة اطلاعهم.
_________
(١) (نفس المصدر ١/ ٨)
(٢) (الميزان للشعراني /٥١)
مقدمة / 4
وقد كثرت رواية من دونهم بالنسبة إليهم (١).
وعليه لا بد من الاعتراف بأن أبا حنيفة لم يكن من رواة مئات الآلاف من الأحاديث، وإنما كان عنده صناديق من الحديث انتقى منها نحو أربعة آلاف حديث. نصفه من حمَّاد بن أبي شيبة شيخه الخاص الذي تخرج به. ونصفه الآخر من باقي شيوخه، وكان يكتفي فيما سوى ذلك بالاطلاع على باقي الأحاديث من رواية أصحابه البارعين في شتى العلوم أركان المجمع الفقهي الذي كان يرأسه هو وتبحث فيه المسائل من كل ناحية ثم تثبت في الديوان (٢).
- تشدد الإمام في الرواية:
وأما تشدده رحمه الله تعالى في شروط قبول الأحاديث التي تُروى آحادًا فكان مبعثه الاحتياط البالغ لدين الله، وذلك أن وضع الأحاديث في عصره قد كثر كثرة مزعجة من الزنادقة والمبتدعة فاضطره ذلك إلى تشدده في شرط الصحيح ولهذا قال العلماء: إن أبا حنيفة لم يخالف الأحاديث عنادًا بل خالفها اجتهادًا لحجج واضحة ودلائل صالحة وله بتقدير الخطأ أجر، وبتقدير الإصابة أجران، والطاعنون عليه إما حسَّاد أو جهال بمواقع الاجتهاد (٣).
هذا وأن أبا حنيفة ممن تذكر آراؤهم في مصطلح الحديث، فكيف يكون قليل البضاعة فيه، ثم يعتبر عند علماء ذلك الفن من الأئمة الذين تدون آراؤهم في قواعد الحديث ورجاله، ويعتمد مذهبه بينهم ويعوَّل عليه ردًا أو قبولًا؟.
ولقد كتب أبو حنيفة عن أربعة آلاف شيخ، حتى عده الذهبي في تذكرته التي هي ثبت الحفاظ، وحدث عنه يحيى بن نصر فقال: دخلت عليه في بيت مملوء كتبًا فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذه الأحاديث ما حدثت منها إلا اليسير الذي ينتفع به.
_________
(١) (الكوثري - تأنيب الخطيب -٢٢٨)
(٢) (التأنيب -٢٢١)
(٣) (أبو زهو - الحديث والمحدثون - ٢٨٦)
مقدمة / 5
- الإسناد
الإسناد مطلوب في الدين، رغَّبت إليه أئمة الشرع المتين، وجعلوه من خصائص أمة محمد سيد المرسلين، بل وحكموا عليه بكونه سنةً من سنن المرسلين.
قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء، وعنه ﵀ مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سُلَّم (١).
وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل (٢).
وقال الشافعي ﵁: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليلٍ (٣).
وقال أبو حاتم محمد بن ادريس الرازي: لم يكن في أمة من الأمم مُذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة (٤).
وهكذا فإن الإسناد خصيصة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسنادٌ موصول إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم (٥).
_________
(١) (ابن أبي حاتم. الجرح والتعديل ١/ ١٦، وابن الصلاح في المقدمة ٢١٥)
(٢) (السخاوي. شرح الألفية /٣٣٥)
(٣) (المناوي. فيض القدير ١/ ٤٣٣)
(٤) (القسطلاني. المواهب ٥/ ٤٥٤)
(٥) (اللكنوي. الأجوبة ١/ ٢٥ نقلًا عن الدقاق)
مقدمة / 6
ولم يصنف الإمام الأعظم ﵁ كتابًا في الأخبار والآثار كما صنف الإمام مالك ﵁ الموَطأ؛ وإنما كان يملي فروع الفقه على تلاميذه، فإذا احتاج إلى دليل مسألة حدَّثهم عن شيوخه من الأحاديث المرفوعة والموقوفة، وآثار التابعين: بالسند المتصل تارة وأخرى بلاغًا وتعليقًا أو انقطاعًا، ولم يجلس للتحديث كعادة المحدثين، ولهذا قلَّت روايته في الحديث، وإلا فهو من الحفاظ المكثرين المتقنين، كتب عن أربعة آلاف من أئمة الحديث وأحاديثه كثيرة.
روي عن يحيى بن نصر قال: دخلت عليه في بيت مملوء كتبًا: فقلت له ما هذا؟ فقال: هذه الأحاديث، ما حدثت بها إلا اليسير الذي ينتفع به ..
وقد عُني تلاميذه، شكر الله سعيهم - بما سمعوه من الآثار، وجمعوها في تصانيف مفردة مرتبة على أبواب الفقه ... منهم:
وجاء بعد هؤلاء أبو محمد عبد الله بن محمد البخاري الحارثي المتوفى سنة ٣٤٠ هـ، فصنف مسندًا كبيرًا حوى طرق أحاديثه فاجتهد وأجاد .. ثم اختصره القاضي الإمام صدر الدين موسى بن زكريا الحصكفي المتوفى سنة ٦٥٠ هـ بالقاهرة، ثم رتبه الشيخ محمد عابد السندي المدني على أبواب الفقه وهو الشهير اليوم بمسند أبي حنيفة وشرحه العلامة والأستاذ محمد حسن السنبلي الهندي المتوفى سنة ١٣٠٥ هـ
- مسانيد الإمام أبي حنيفة
جمع محمد بن محمود العربي محتدًا، الخوارزمي مولدًا في كتابه الموسوم: بجامع الإمام الأعظم - خمسة عشر من مسانيده التي جمعها له فحول علماء الحديث وهي:
الأول: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو عبد الله بن محمد بن يعقوب بن الحارث الحارثي المعروف بعبد الله الأستاذ ﵀ رحمة واسعة.
مقدمة / 7
الثاني: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو القاسم طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد العدل رحمه الله تعالى.
الثالث: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو الحسين محمد بن مطهر بن موسى بن عيسى بن محمد رحمه الله تعالى.
الرابع: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصفهاني رحمه الله تعالى.
الخامس: مسند له جمعه الشيخ الإمام الثقة العدل أبو بكر محمد بن عبد الباقي ابن محمد الأنصاري رحمه الله تعالى.
السادس: مسند له جمعه الإمام الحافظ صاحب الجرح والتعديل أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني رحمه الله تعالى.
السابع: مسند له رواه عنه الإمام الحسن بن زياد اللؤلؤي رحمه الله تعالى
الثامن: مسند له جمعه الإمام الحافظ عمر بن الحسن الأشناني رحمه الله تعالى.
التاسع: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن خالد بن خلي الكلاعي رحمه الله تعالى.
العاشر: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد بن خسرو البلخي رحمه الله تعالى.
الحادي عشر: مسند له جمعه الإمام أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم الأنصاري رحمه الله تعالى ورواه عنه يسمى: نسخة أبي يوسف.
الثاني عشر: مسند له جمعه الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى ورواه عنه يسمى: نسخة محمد، مطبوع ومتداول.
الثالث عشر: مسند له جمعه ابنه الإمام حمّاد بن أبي حنيفة ورواه عن أبيه رضي الله تعالى عنهما.
مقدمة / 8
الرابع عشر: مسند له أيضًا جمعه الإمام محمد بن الحسن معظمه عن التابعين ورواه عنه يسمى: الآثار. مطبوع ومتداول.
الخامس عشر: مسند له جمعه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السغدي رحمه الله تعالى (١).
هذا، واستخرج جميع ما في هذه المسانيد الإمام الخوارزمي ورتبها على أبواب الفقه في مجلدين طبعا في الهند سنة ١٣٣٢ هـ.
_________
(١) (الخوارزمي، جامع المسانيد جـ١/ ٥)
مقدمة / 9
- ترجمة الشارح الملاّ علي القاري (١٠١٤ هـ) [للشيخ خليل محيي الدين الميس مدير أزهر لبنان]
هو نور الدين علي بن سلطان بن محمد الهروي المكي الحنفي المعروف بالقاري.
عرف بالقاري لأنه كان إمامًا في القراءات، وأحد صدور العلم الأفاضل، وعمدة المحققين الأماثل، والإمام الفقيه المحدث الأصولي المفسر المقرىء المتكلم النّظار الفرضي الصوفي المؤرخ والنحوي والأديب.
مولده: ولد ببهراة - أعظم مدن خراسان - ورحل إلى مكة المكرّمة واتخذها دارًا وأخذ عن جماعة من المحققين. وكان سبق أن تلقى عن علماء هراة فجمع الفضل من أطرافه بتلقين العلم عن علماء العرب والعجم، وذكر أنه كان يكتب في كل عام مصحفًا بخطه الجميل، وعليه طرز من القراءات والتفسير فيبيعه فيكفيه قوته من العام إلى العام.
وآتاه الله الذكاء النادر، والعقل الراجح، والفهم الدقيق، والصبر على التنقيح والتدقيق، والشغف العجب بالتحقيق، مع البيان السهل القريب .. وألَّف التآليف الفريدة التي أربت على ١٢٥ مؤلفًا ما بين كتاب يزيد على عشرة مجلدات ورسالة في ورقات في الفقه والحديث والتفسير والقراءات والأصول وعلم الكلام والفرائض والتصوف والتاريخ والطبقات والتراجم والأدب، واللغة والنحو وعلم الوضع وغيرها. بلغة سهلة ممتعة، وعبارات جامعة مانعة، واستيفاء للبحث نادر غريب.
قال اللكنوي: وكل مؤلفاته نفيسة في بابها، فريدة مفيدة بلَّغَتهُ إلى مرتبة
مقدمة / 10
المجددين على رأس الألف من الهجرة.
مؤلفاته: أهمها: شرح المشكاة، وشرح الشمائل، وشرح الشفا، وشرح الشاطبية، وشرح الوقاية، وفتح باب العناية بشرح النقاية. شرع في تحقيقه العلامة الفاضل الشيخ عبد الفتاح أبو غدَّة وأنجز الجزء الأول ويا ليته يتم ..، وله الثمار الجنية في أسماء الحنفية .. وغير ذلك قال العصامي في وصفه: الجامع للعلوم النقلية والعقلية والمتضلع من السنة النبوية أحد جماهير الأعلام ومشاهير أولي الحفظ والأفهام لكنه امتحن بالاعتراض على الأئمة لا سيما الشافعي وأصحابه واعتراضه على الإمام مالك في إرسال يديه .. وسبب له ذلك متاعب كثيرة .. ولكن الشوكاني ينتصر له بقوله: أقول: هذا دليل على علو منزلته، فإن المجتهد شأنه أن يبين ما يخالف الأدلة الصحيحة ويعترضه سواء كان قائله عظيمًا أو حقيرًا.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى ١٠١٤ أربع عشر وألف ودفن بالمعلاة. ولما بلغ خبر وفاته علماء مصر صلوا عليه بالجامع الأزهر صلاة الغائب في جمع هائل تقديرًا منهم لإمامته في العلم والدين رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه.
هذا: وأما ترجمة المصنف (الحصكفي) فقد وردت في مقدمة هذا المصنف من قبل الشارح فنحيل القارىء الكريم إليها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بيروت في ١٤ ذي القعدة سنة ١٤٠٤ هـ
١٠ آب (اغسطس) سنة ١٩٨٤ م
الشيخ خليل محيي الدين الميس مدير أزهر لبنان
مقدمة / 11
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة [للإمام القاري]
- الحمد لله الذي هدانا إلى الملة الحنيفة السمحاء، وبين لنا طرق الشريعة والحقيقة بواسطة الأنبياء والعلماء والأصفياء، والصلاة والسلام على سيد الرسل وسند الأولياء وعلى آله وأصحابه نجوم الاقتداء والاهتداء.
أما بعد: فيقول عبد المعتصم بالكتاب القديم والحديث القويم المحتاج إلى ربه الكريم الباري علي بن سلطان محمد القاري: إن هذا فتح لطيف وشرح شريف للمسند المستند إلى الإمام الأعظم والهمام الأقدم أبي حنيفة النعمان بلَّغَهُ الله على [هكذا في نسختنا، ولعله "عَلِيّ". دار الحديث]
غرف الجنان وتوالى عليه أنواع الغفران وأصناف الرضوان (بسم الله الرحمن الرحيم) الذي هو مفتاح كل كتاب كريم، (وعلى رسوله) في مقام التعظيم (الصلاة والتسليم)، وزيادة التشريف والتكريم، (الحمد لله) على كل آلائه ونعمائه (الذي شرع) أي بين، أو عين (لنا دينًا) نَتَديّنُ به قويمًا دائمًا ليس في أصله عوج، ولا في فرعه حرج، وهدانا إليه بفضله ومنته صراطًا مستقيمًا موصلًا في الدنيا إلى حصول معرفته وقربته، وفي العقبى إلى وصول جنته ورحمته (وأحمده) بخصوص هذه النعمة الجزيلة والتحية الجميلة (وأشكره على أن جعل هذه الأمة المكرمة، متمسكين بأذيال الكتاب المستطاب، والسنة المعظمة) تعلمًا في مقام الكمال وتعليمًا في حال الإكمال، عن عيسى ﵇:
من عَلِم وعملَ وعلّم يدعى في الملكوت
1 / 5
عظيمًا. (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده) أي منفردًا بالذات لا شريك له في الصفات، وإبراز المصنوعات، (وأشهد أن محمدًا عبده القائم) بحقوق العبودية ورسوله المخبر عن الله بما يستحق من أوصاف الربوبية (بعموم الرسالة) المثقلين، بل لعموم أجزاء الكونين تشريفًا له وتكريمًا، لأنه مظهرًا الاسم الأعظم في وجه الأتم، الجامع لنعوت الكمال وصفات الجلال والجمال، (صلى الله عليه) بتواتر إيصال الرحمة والمنة والمنحة إليه، (وعلى آله) أي أقاربه (وأصحابه) ولو من أجانبه وأزواجه أمهات المؤمنين وأنصاره في إقامة الدين (وأتباعه) في مقام اليقين، (وذرياته) أي أولاده الطيبين، وأحفاده أجمعين (وسلم) أي الله (تسليمًا) كثيرًا إلى يوم الدين، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
(أما بعد) أي البسملة، والحمد له والتصلية التي يحصل بذكرها الطمأنينة والسكينة والتسلية (فهذا الكتاب) الذي سيذكر عن قريب بعون رب مجيب (مسند الإمام الأعظم) أي المقتدى الأقوم والمستند الأكرم الأفخر (أبي حنيفة النعمان) بن الثابت في ميدان البيان ﵁، وعليه الرضوان، وبلغه نهاية درجات الجنان ومناقبة كثيرة ومراتبه شهيرة غير محتاجة إلى البيان، وقد قام بحقها بعض الأعيان.
(ولما كان) الإمام مشتغلًا باستخراج المسائل من الدلائل، وصار وسائل كل طالب وسائل في باب الدراية لم يظهر منه إلا قليل من رواية، وكذلك كان أجلاء
1 / 6
الصحابة كأبي بكر (١) وعمر (٢) ﵄ مشتغلين بالعمل في غاية من الرعاية مشتغلين عن نقل الأحاديث والرواية، لأن العمل هو المقصود، والمعول في مقام الهداية والنهاية، وأنشد فارس بن االحسن في شعره المستحسن.
يا طالب العلم الذي ... ذَهَبتُ بمدته الرواية
كن في الرواية ذا العناية ... بالدراية والرعاية
وارو القليل وراعه ... فالعلم ليس له نهاية
ومن المعلوم أن [من] لم يكن محيطًا بعلم الكتاب والسنة لم يتصور أن يكون إمامًا مقتدى للأمة، ويكون الفقهاء كلهم عيالًا له في تقويم الملة لا سيما في الصدر الأول مع وجود المجتهدين من الأئمة، وقال الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا أبي قال: أملى علينا أبو يوسف، قال قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا ما يحفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به، وحاصله: أنه لم يجوِّز له الرواية بالمعنى، ولو كان مرادفًا للمبنى خلافًا للجمهور من المحدثين، فإنهم جوزوا رواية المعنى لا سيما عند نسيان المبنى.
فقلت رواية أبي حنيفة لهذه العلة الشريفة، وله (٣) ﵁ مسانيد كثيرة وأسانيد شهيرة بلغت خمسة عشر مسندًا جمعها بعض الفضلاء واعتنى بضبطها طائفة من العلماء، وأخيرها هذا المسند المعتمد الذي هو من رواية الخصكفي بفتح الخاء
_________
(١) قال النووي: روى الصديق عن رسول الله ﷺ مائة حديث واثنين وأربعين حديثًا، قال في التعليقات الممجدة: فإن مرتبته (يعني الإمام الأعظم) في هذا تشابه المرتبة الصديقية، فإن كان هذا المعنى كان أبو بكر الصديق أفضل البشر بعد الأنبياء بالتحقيق مطعونًا فإنه أيضًا قليل الرواية بالنسبة إلى بقية الصحابة حاشاهم ثم حاشاهم عن هذه الوسمة. مشتاق أحمد.
(٢) قال في تاريخ الخلفاء: روي له عن رسول الله ﷺ خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثًا، وروي لعثمان رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله ﷺ مائة حديث وستة وأربعون حديثًا، ولعلي ﵁ خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا.
(٣) أقول: مراد الشارح أن مرويات الإمام الأعظم جمع كلها بعض العلماء في تصانيفهم حسب علمهم كما في مسند الخوارزمي لقاضي القضاة، وفي هذا المسند أعني الخصكفي وغيرهما لا أن الإمام ﵁ صنف مسندًا بنفسه كما صنف الإمام مالك ﵁ كتابه الموطأ، فما اعترض بعض أهل الزمان من أهل الظواهر أن نسبة المسند إلى الإمام الهمام غلط صدر عن قلة فهمه وشدة جهله. مشتاق أحمد.
1 / 7
المعجمة وسكون الصاد المهملة ففاء مفتوحة فكاف فياء نسبة كذا رأيته مضبوطًا بخط شيخنا مولانا عبد الله السندي ﵀.
لكن في جواهر المضية في طبقات الحنفية للعلامة الشيخ عبد القادر القرشي الحصكفي بفتح الحاء المهملة وسكون الصاد المهملة وفتح الكاف، وفي آخرها الفاء نسبة إلى حصن (١) كيفا مدينة من ديار بكر، ونسبة موسى بن زكريا بن إبراهيم ابن محمد بن ساعدي القاضي الإمام العلامة صدر الدين روى كتاب الشمائل للترمذي عن الإمام افتخار الدين أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي بسماعه من أبي الفتح عبد الرشيد بن النعمان بن عبد الرزاق الولوالجي، وأبي الفتح عمر بن علي بن أبي الحسن الكرابيسي (٢)، والصائب بن علي بن الحسن ابن بشير بن عبد الله النفاش، عن أبي شجاع عمر بن محمد بن عبد الله البستاني البلخي، عن أبي القاسم محمد بن عبد الله الخليلي، أنا الشريف أبو القاسم علي ابن أحمد الخزاعي، حدثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشافعي حدثنا أبو موسى محمد ابن عيسى الترمذي: ولد سنة ثمانين وخمسمائة، وحدث بالقاهرة وصُلِبَ، سمع منه الدمياطي الحافظ، وذكره في معجم شيوخه، ومات بالقاهرة سنة خمسين وستمائة ودفن جوار السيدة نفيسة.
واعلم (٣) أن له مشايخ كثيرة من الصحابة والتابعين وأتباعهم وصلت جملتهم أربعة آلاف كما قال بعض أرباب الأنصاف في باب الاعتراف.
_________
(١) يقال لها بالعجمة حصن كيفا - بالأنساب للسمعاني.
(٢) هذا النسج بيع الثياب - أنساب السمعاني.
(٣) قال شيخ الإسلام ابن حجر المكي في الخيرات الحسان في ذكر مشايخ الإمام هم كثيرون لا يسع هذا المختصر ذكرهم، وقد ذكر منهم الإمام أبو حفص الكبير أربعة آلاف شيخ، وقال غيره: له أربعة آلاف شيخ من التابعين، فما بالك بغيرهم منهم: الليث بن سعد.
1 / 8
غدا مذهب النعمان خير المذاهب ... فذا القمر الوضّاح خير الكواكب
ثلاثة آلاف وألف شيوخه ... وأصحابه مثل النجوم الثواقب
فإن قلت: مشايخ البخاري ربما بلغ عشرة آلاف فلا تفاضل.
قلت: ليس من يروى عنه الحديث كمن يروى عنه الفقه، فإن الذي يروى عنه الفقه لا بد أن يكون فقيهًا عالمًا، والذي يروى عنه الحديث: لا يلزم أن يكون بهذه الصفة حتى كثر رواة الحديث وقل الفقهاء (١).
والحاصل (٢) أن أكثر مشايخ الإمام كانوا جامعين بين الرواية والدراية، وأكثر مشايخ البخاري بارز بعلو الإسناد في الرواية، وقد أشار ﷺ إلى الأحسن في الوعاية حيث قال: "نَضَّر الله امرءٍ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاها وأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلَ فِقهٍ غَيرَ فَقِيهٍ، ورُبَّ حَامِل فِقهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" رواه الترمذي وغيره عن زيد بن ثابت. وقد ذكر الإمام النسفي صاحب المنظومة بإسناده إلى محمد بن سلمة قال: خرجت إلى البصرة في طلب الحديث فأخرج شيخ مسند الإمام وأملى فامتنع بعضهم عن الكتابة فأمسك الشيخ أيامًا عن الحديث ثم قال: أدركت مجلسه وكان يحضره فلان وفلان وهؤلاء يكتبون حديثه فتشفعنا إليه بالله تعالى حتى حدثنا بأحاديث قيل وكان امتناع المتعنت عن الكتابة بناء على ظن أن الإكثار من الفقه يخل بحفظ الحديث فجعل المنقبة مثلبة، ثم هذا المسند المعتمد لم يذكر إلا بعض مشايخه الكرام من المحدثين الأعلام، ولهذا قال جامعه: ذكر إسناده (عن حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري) قال العلامة الكردري في مناقب الإمام، فذكر مشايخ الكرام حماد
_________
(١) أقول: قال الإمام الشعراني في ميزانه: إن تمسكات الإمام الأعظم بالأحاديث، والأحاديث أكثر من باقي الأئمة الثلاثة، كما يظهر لمن طالع كتابي المسمى بكشف الغمة إلى الحادي لأدلته للمذاهب الأربعة - انتهى.
(٢) قال في الخيرات الحسان: إن كثرة الرواية بدون رواية ليس فيه كثير مدح بل عقد له ابن عبد البر بابًا في ذمه، ثم قال: الذي عليه فقهاء جماعة المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار من الحديث بدون تفقه ولا تدبر، وقال ابن شبرقة: أقل الرواية تفقه ...
1 / 9
ابن مسلم أبو سليمان الأشعري مولى ابراهيم بن مَهُ أبي موسى الأشعري تابعي كوفي سمع إبراهيم النَّخَعِي وأعلم الناس برأيه، مات سنة عشرين ومائة، وقد قال أبو حنيفة، رحمه الله تعالى: ما رأيت أفقه من حماد ولا أجمع للعلوم من عطاء بن أبي رباح.
وقال صاحب المشكاة في أسماء رجاله حماد بن أبي سليمان، واسم أبي سليمان مسلم: تابعي سمع جماعة، روى عنه شعبة والثوري وغيرهما، انتهى. وكان لا يكلم في حوائجه الدنيوية وفقه ما لم يفصل بين كلمتين من كلامه بتسبيحةٍ، وكان يقول: أستحي أن أجد في ديواني سطرًا ليس فيه تسبيح.
وكان يقول ربما انتهت رأي برأي أبي حنيفة ﵀ وأقوالي بقوله. (أبو حنيفة) أي روى، (عن حماد) المذكور، (عن إبراهيم) أي النخعي وهو تابعي جليل، عن الأسود أي ابن يزيد، واعلم أن في اصطلاح المحدثين محمولة للسماع والإجازة لكن عنعنة المعاصر محمولة على السماع، سواء ثبت اللقاء بينهما أم لا عند الجمهور، خلافًا للبخاري حيث يشترط اللقاء، ولا شبهة في ثبوت اللقاء بين الإمام ومشايخه الكرام فتنبه لهذا المقام (إن عمر بن الخطاب دخل على النبي ﷺ في شكاة) بكسر الشين المعجمة وفي آخره تاء، أي في مرض ومحنة (شكاها) أي تعب فيها من شدة أذاها فإذا للمفاجأة (هو) أي النبي ﵊ (مضطجع على عباءة) بفتح أول أي كساء خشن (قطوانية) بفتح القاف والطاء المهملة نسبة إلى موضع بالكوفة وهي عباءة بيضاء قصيرة الخمل كما في النهاية (ومرفقه) (١) بكسر الميم وفتح الفاء فيجوز العكس وبهما قُرِىء في قوله تعالى: ﴿وَيُهَيءُ لَكُمُ مِنْ أَمرِكُمْ مرْفقًا﴾ (٢) وفي القاموس المرفقة كمكنسة المخدة (من
_________
(١) مِرفقه بالهندي تكية.
(٢) الكهف ١٦.
1 / 10
صوف) أي وجهها صوف (حشوها إذْخِر) بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين، وفي آخرها راء نبت معروف بمكة (فقال)، أي عمر (بأبي أنت وأمي)، أي فديتهما بك يا رسول الله والجملة معترضة إذ المقصود من المقول قوله (كسرى) بكسر الكاف وفتح الراء وإمالته لقب ملك الفرس، (وقيصر) كجعفر لقب ملك الروم (على الديباج) بكسر الدال المهملة معرب مشهور، أي هما ونحوهما قاعدون أو راقدون على الحرير فوق السرير (وأنت) مع كمال الجلالة في مقام الرسالة (على هذه الحالة) التي تورث الملالة فقال ﵊: (يَاعُمَر أنْت) في هذا المَقَام (أما تَرْضَى) القِسمة الإلهية "وَفَقَ الإرادة الأَزَليَّة (أنْ يكُون لهُما الدنْيَا) الفَانِية (وَلَنا الآخِرَةُ) البَاقِيَة".
وذكر البغوي في تفسيره قوله تعالى: ﴿وَلا َيغُرَّنَكَ تَقلبُ الذين كَفَروا في البِلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُم جَهَنَّمُ وبِئسَ المِهَادْ لَكِنَّ الَّذِينَ اتَّقُوا رَبَّهُم لَهُم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِندِ الله وَمَا عِنْدَ الله خَيرٌ لِلأبْرارِ﴾ (١) أنها نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين، فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله فيما ترى من النعماء ونحن في الجهد والبلاء فأنزل الله هذه الآية تسلية للأحياء.
وفي البخاري عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب، قال "جئت فإذا رسول الله ﷺ في مشربه أي غرفة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا وهو ما يدبغ به حصورًا (٢) وفي نسخة مصوبًا
_________
(١) آل عمران ١٩٦.
(٢) مصبورًا.
1 / 11
وعند رأسه أُهُب معلقة جمع إهاب فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ﷺ: مَا يُبكِيكَ؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت يا رسول الله فقال: "أما تَرْضى أنْ يكُون لهُما الدُّنيا ولَنا الآخرة" (ثم إنَّ عمر مسَّه) أي مسَّ النبي ﷺ وجسَّه ليدرك بيده ما أحسَّه (فإذا هو في شدَّة الحمَّى) وغاية البلوى، كما روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا روى الحاكم وقال: صحيح الإسناد كلهم من رواية أبي سعيد الخدري أنه ﵊ كانت عليه قطيفة فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك فقال: "إنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلينَا البَلاَءُ ويضاعَفُ لَنَا الأجْر" (فقال) أي عمر (تحم) بضم التاء وفتح الحاء وتشديد الميم أي تصيبك الحمى، (هكذا) أي بهذه المثابة من الشدة في الإصابة، (وأنت رسول الله) والرسالة غاية الرتبة في المختبر ونهاية المرتبة في العزة (فقال: إِنَّ أَشَدَّ هَذِهِ الأمَةِ بَلاءَ نَبِيُّهَا ثُمّ الخَيِّرُ) بتشديد التحتية المكسورة أي المبالغ في الخير (ثم الخير) أي وهلم جرَا من أمته على مقدار خيريته بين خلق الله وبريته، (وكذلك كانت الأنبياء) ﵈ (قبلكم) أي مبتلين بأنواع البلاء على مقدار مراتبهم في مقام الولاء (والأمم) أي وكذا حال أممهم على قدر ألمهم.
والمعنى أنه لن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا.
وأخرج النسائي وصححه الحاكم من حديث فاطمة أخت حذيفة بن اليمان
قالت أتيت النبي ﷺ في الشتاء تعوده فإذا يُقَطَّرُ عليه من شدة الحمى فقال: "إنَّ مِن أشد النَّاسِ بَلاَءً الأنبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ َيلُونَهُمْ" وقد روى أحمد والبخاري والترمذي، وابن ماجه، عن سعد مرفوعًا " أشد النَّاس بلاءً الأنبياء ثُمَّ الأَمثَلُ [فالأمثل] يُبْتَلى الَّرجُلُ على حَسَبِ دينه فَإنْ كَانَ في دِينِه صَلبًا اشْتَدَّ بَلاؤه وإن
1 / 12
كان في دينه دقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة" ورواه ابن ماجه في سننه وأبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ "أشد النَّاس بلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يُجوّبُها أي يحصل جيبًا لها فيلبسها فيبتلى بالقمل حتى يقتله، ولقد كان أحدهم أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء".
ومجمل الكلام أن البلاء علامة الولاء فإنه إما سبب لإعلاء الدرجات كما في الأنبياء وإما لإمحاء السيئات كما في الأولياء مع أن هذه الدار مشوبة بالأكدار سواء فيها الفجار والأبرار كما أشار إليه قوله سبحانه: ﴿إنْ تَكُونُوا تَألمُونَ فَإنَّهُمْ يَأَلمُونَ كَمَا تَأَلمُونَ وتَرجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرجُونَ﴾ (١).
وبه أي بسند أبي حنيفة (عن حماد) أي ابن سليمان، (عن إبراهيم النخعي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله ﷺ إنه) أي الشأن (ليهون) بفتح اللام والياء وضم الهاء أي يسهل (عَليَّ المَوتُ) أي مجيئه وفي نسخة بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الواو المكسورة أي ليخفف عَليَّ ألم الموت وشدته (إني رأيتك) أي أبصرتك حال كونك زوجتي أو عَلِمْتُكِ (في الجنة) في مقام قربتي وهذا يدل على غاية من المحبة التي أزاله (٢) عنه نهاية من المحنة (وفي رواية إني رأيتك زوجتي في الجنة ثم التفت) أو قال في مجلس آخر (هون علي الموت لأني رأيتك بت عائشة في الجنة) أي معي في الجنة واستدل بهذا الحديث ونحوه
_________
(١) النساء ١٠٤.
(٢) أظن أنه أزالت عنه بصيغة المؤنث.
1 / 13