شرح المشکل له شاعر المتنبي
شرح المشكل من شعر المتنبي
اي أنهم كانوا لهذا الوادي كالعقد للجيد، فلما رحلوا توحش، وعطل كما يعطل الجيد إذا تناثر عقدهز وقوله:) به ما بالقلوب (، اي من الأسف عليهم، والحنين إليهم،) وقد رحلوا (: جملة في موضع الحال، اي في حال رحيلهم عنه. وكأنه قال: مرجُولًا عنه جيدٌ هذه صفته. ولا بد من تقدير) عنه (إذ لا بد للحال من ضمير يعود إليه من الحال.
) يُخلفث من لم يأتِ داركِ غايةً ... ويأتي فيدري أن ذلك جُهدُه (
اي انت أرفع المقصودين. فمن قصد غيرك، فقد ترك مقصودًا فوق مقصوده، وهو أنت. فإذا قصدك تبين وتيقن أنه قد بلغ أقصى الغايات، إذ لا مقصود وراءك، ولا مورُود فوقك. وقوله:) ذلك جهده (: اي أقصى غاياته، وأبعد نهاياته. وحينئذ تقر عين القاصد، لانه لا يُعنف على ترك الجرى إلى أقصى ما يمكنه من ذلك، إذ ليس يمكنه تجاوزه.
وله ايضا:
) قد اُخترتُك الأملاكَ فاختر لهُم بنا ... حديثًا وقد حَكمتُ رأيكم فاحكمُ (
اي من الأملاكِ، فحذف وأوصل الفعل، ومثلُه كثير، إلا أنه ممنوع لايقاس عليه. وقد صرح بذلك سيبويه، والأملاك: يجوز أن يكون جمع مَلك ومَلَك ومليك، اي قد اخترتك من جميع الأملاك، ورجوتك لهمتي ومطلبي، فاختر لهم بنا حديثلً: اي اجعل الصنيعة في، فإنك إذا فعلت ذلك تُحُدث عنك بالإحسان، وتُحُدث عني بأني استأهلت ذلك عندك، وقد حكمت رأيك، اي سلمتُ لإليك، فافعل ما تشاء، فإن طبيعتك لا تحملك على ضد الجميل.
وله ايضا:
) أغالُب فيك الشوق والشوقُ أغلبُ ... وأعجبُ من ذا الهجر والوصلُ أعجبُ (
اي والشوق أغلب مني، فحذف للعلم بما يعنى، كقولنا: الله أكبر من اي شيء فحذف، أنشد سيبويه:
مَررتُ على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يُظلم واديًا
أقل به ركبٌ أتوه تئيةً ... وأخوف إلا ما وقي اللهُ ساريًا
اراد: أقل به ركب تئيةً منه.
وذهب بعضهم إلى أن) أغلب (هنا ليست للمفاضلة، وإنما هو أفعلُ صفة كأحمر، ولا يعجبني لان قوله في آخر البيت) ووصل أعجبُ (لايسوغ فيه إلا) أفعل (التي للمفاضلة، بأن يكون المصراع مشاكلا للمصراع الأول وإنما كان الشوق اغلب له، لانه لو كان ذد ذلك لم يكن عاشقًا. وقوله:) وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب (: إنما كان الوصل من الهجر، لان الهجر نوع من مكاره الأيام، والوصل نوعٌ من محابها، وشيمة الأيام أن تأتي بما يكره، فلا عجب من الهجر الذي هو في خليقتها، ولكن الوصل لو تيسر، كان أعجب من الهجر لشذوذه عن خلق الزمان. واراد: والوصل أعجيب منه، فحذف كما تقدم في) أغلب (.
) فكمْ لظلام الليل عندك من يدٍ ... تُخبر أن المانوية تكذبُ (
المانوية: أصحاب ماني وهم أهل الثنوية، يذهبون إلى أن ظلام الليل يكون الشر وان النور يكون الخبر، والمتنبي يرد على هؤلاء الثنويين فيقول: ليس الأمر على ما وصفتموه، بل قد أجد ذلك بالعكس. فإن الليل قد وقاني شر الأعداء، بأن وَارَاني منهم بظلامه، كقولهم:) الليلُ يستُر الويل (.
وقالوا: اتخذ الليل جملًا: اي اركبه لحاجتك. وكذلك زَارَني الحبيب بالليل، فأخفى مزاره على الرقيب، وهذه أفعال الخير، فلم تنسبون إلى الظلمة الشر؟ ولما قال) فكم لظلام الليل عندك من يَد (فسره في البيت الثاني بقوله: وقَاكَ رَدى الأعداء تسرى إليهم وزَارَك فيه ذُو الدلاَلِ المُحجبُ.
ولما حَمِد الليل بما اسدى اليه من الخير، وكذب المانوية بهذا البرهان، أخذ في في ذم النور، فقال:
) وَيومٍ كَلَيلِ العاشِقين كَمنْتُهُ ... أراقبُ فيه الشمس أيان تغرُبُ (
اي اني قد أمنت من العٌداة بالليل، فَسريت وأدللت، وخشيتهم بالنهار فكمنتُ وتخبأت. وتلك كُلفة ومشقة، وجهد على النفس لإخفائه، وما أحسن ما اتفق له الاستطراد في هذه الأبيات.
وقوله:) أيان (اي متى. وليس من لفظ أين. إنما) أيان (من) اي (فهي فَعلان كَرَيان التي في أزمنة.
ويدلك على أن) أيان (ليست من) أبن (، أن) أين (يكون سؤالًا عن الجوهر والعرض، كقولك في الجواهر، اين زيدٌ، وفي العَرَض: اين اللقاء والقتال.
1 / 86