ـ[شرح لامية العجم (وهو مختصر شرح الصفدي المسمى الغيث المسجم)]ـ
المؤلف: كمال الدين، محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدَّمِيري أبو البقاء الشافعي (المتوفى: ٨٠٨هـ)
تحقيق: الدكتور جميل عبد الله عويضة
طبعة: ١٤٢٩هـ /٢٠٠٨م.
أعده للشاملة/ محمد مستقيم
[ترقيم الكتاب موافق لنسخة المحقق، وهو مذيل بالحواشي]
ناپیژندل شوی مخ
ترجمة الدميري (١):
هو محمد بن موسى بن عيسى بن على الكمال أبو البقاء الدَّمِيريّ الأصل، القاهري، الشافعي، والدميري - بالفتح والكسر - نسبة إلى دَمِيْرَة قرية في الوجه البحري بمصر وهي تابعة لمركز طلخا في محافظة الدقهلية (حاليا).
والدليل على نسبته لهذه القرية هو وجود مسجد في هذه القرية باسمه، والمسجد مازال موجودًا إلى الآن، ويقام احتفال سنوي في القرية لهذا العالم الجليل.
كان اسمه أولًا كمالًا بغير إضافة، وكان يكتبه كذلك بخطه في كتبه، ثم تسمى محمدًا وصار يكشط الأول، وكأنه لتضمنه نوعًا من التزكية مع هجر اسمه الحقيقي.
بدء حياته خياطا حتى أجتذبه العِلم، فالتحق بالأزهر، وتعلم الأدب والفلسفة والحديث والفقه ودرس على يد مجموعة من كبار علماء الأزهر، فتفقه على:
ـ الشيخ بهاء الدين أحمد السبكي، ولازمه كثيرًا، وانتفع به.
ـ والشيخ جمال الدين ألأسنوي.
ـ والقاضي كمال الدين أبي الفضل النويري المالكي، الذي أجازه بالفتيا والتدريس.
ـ وبرهان الدين القيراطي، الذي أخذ عنه الأدب والعربية. ووصف الدميرى ابنَ الملقن بشيخنا، وذكر السخاوي أنه أخذ عن البلقيني، وأخذ عن البهاء بن عقيل، وسمع جامع الترمذي على المظفر العطار المصري، وعلى علي بن أحمد العرضي الدمشقي مسند أحمد ابن حنبل بفوت يسير، وسمع بالقاهرة من محمد بن علي الحراوي، وغيره؛ وبمكة على الجمال بن عبد المعطي، والكمال محمد بن عمر بن حبيب في آخرين؛ كالعفيف المطري بالمدينة، ومما سمعه على الأول الترمذي في سنة نيف وخمسين، ووصفه الزيلعي في الطبقة بالفاضل كمال الدين كمال، وعلى ثانيهما فقط جل مسند أحمد أو جميعه وجزء الأنصاري.
برع في التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، والعربية، والأدب، وغيرها وأذن له بالإفتاء والتدريس، وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة، وأصبح من فقهاء الشافعية، وقال الشعر، ودرَّس في عدة أماكن، فقد حدث بالقاهرة، وسمع منه الفاسي فيها، وأفتى ودرس بأماكن بالقاهرة منها جامع الأزهر، وكانت له فيه حلقة يشغل فيها الطلبة يوم السبت غالبًا، ومنها القبة البيبرسية، كان يدرس فيها الحديث، وكان يذكر
_________
(١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع ٥/ ١٦/ المكتبة الشاملة، وطبقات الشافعية ١/ ٢٠٥/ المكتبة الشاملة، شذرات الذهب ٧/ ٧٩ - ٨٠
1 / 2
الناس بمدرسة ابن البقري داخل باب النصر في يوم الجمعة غالبًا، ويفيد في مجلسه هذا أشياء حسنة من فنون العلم، وبجامع الظاهر في الحسينية بعد عصر الجمعة غالبًا، ودرس أيضًا بمكة وأفتى وجاور فيها مدة سنين مفرقة، وسمع منه الصلاح الأقفهسي في جوف الكعبة، وتأهل فيها بأم أحمد فاطمة ابنة يحيى بن عياد الصنهاجي المكية، وولدت له أم حبيبة، وأم سلمة، وعبد الرحمن، وأول قدماته إليها على ما يروي السخاوي في موسم سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وجاور بها حتى حج في التي بعدها، ثم جاور بها أيضًا في سنة ثمان وستين، قدمها مع الرجبية، فدام حتى حج ثم قدمها في سنة اثنتين وسبعين، فأقام بها حتى حج في التي بعدها، ثم قدم مكة في موسم سنة خمس وسبعين؛ فأقام بها حتى حج في التي تليها، ثم قدمها في موسم سنة ثمانين؛ وأقام بها حتى حج في التي بعدها، ثم قدمها في سنة تسع وتسعين؛ وأقام حتى حج في التي بعدها، وانفصل عنها فأقام بالقاهرة.
قال المقريزي في عقوده: صحبته سنين، وحضرت مجلس وعظه مرارًا؛ لإعجابي به، وأنشدني وأفادني، وكنت أحبه ويحبني في الله؛ لسمته وحسن هديه، وجميل طريقته ومداومته على العبادة، لقيني مرة فقال لي: رأيت في المنام أني أقول لشخص لقد بعد عهدي بالبيت العتيق، وكثر شوقي إليه، فقال، قل: لا إله إلا الله الفتاح العليم الرقيب المنان، فصار يكثر ذلك فحج في تلك السنة ﵀ وإيانا ونفعنا به.
قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر في المعجم: وكان له حظ من العبادة تلاوة وصيامًا ومجاورة في الحرمين مكة والمدينة. واشتهرت عنه كرامات، وأخبار بأمور مغيبات يسندها إلى المنامات تارة، وإلى بعض الشيوخ أخرى، وغالب الناس يعتقد أنه يقصد بذلك الستر.
ويقال أنه كان في صباه أكولًا نهمًا ثم صار بحيث يطيق سرد الصيام، وله أذكار يواظب عليها وعنده خشوع وخشية وبكاء عند ذكر الله سبحانه، وقد تزوج بابنتيه الجمال محمد، والجلال عبد الواحد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر المرشدي المكي الحنفي، واستولداهما، الأول أبا الفضائل محمدًا وعبد الرحمن، والثاني عبد الغني وغيره. ومما ينسب إليه:
بمكارم الأخلاق كن متخلقًا ... ليفوح ند شذائك العطر الندي
وصدق صديقك إن صدقت صداقة ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي (١)
_________
(١) يعني ما جاء في الآية ٣٤ من سورة فصلت: [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]
1 / 3
ألف كمال الدين الدميرى العديد من الكتب في الفقه والحديث والأدب، واختصر وشرح الكثير من الكتب، فشرح المنهاج في أربعة مجلدات، وسماه النجم الوهاج، ضمنه فوائد كثيرة خارجة عن الفقه، وعظم الانتفاع به، وله الديباجة في شرح سنن ابن ماجة في خمس مجلدات، مات قبل تحريره وتبيضه، ونظم في الفقه أرجوزة طويلة، فيها فروع غريبة وفوائد حسنة، وله تذكرة مفيدة، وله خطب مدوّنة جمعية ووعظية، واختصر شرح الصفدي للأمية العجم المطبوع باسم الغيث المسجم في شرح لامية العجم، وهو الكتاب الذي بين أيدينا، على أن أهم مؤلفاته وأشهرها كتاب حياة الحيوان الكبرى، ويعتبر هذا الكتاب مزيجا من العلم والأدب والفلسفة والتاريخ والحديث - وقد تمت ترجمته إلى العديد من اللغات وأقتبس منه العديد من الغربيين.
رتب الدميري في كتابه هذا الذى يعد أول مرجع شامل في علم الحيوان باللغة العربية الكائنات التى كتب عنها ترتيبا أبجديا، على طريقة المعجم، وتناول بالبحث ١٠٦٩ كائنا، موضحا الصفات المميزة لكل كائن منها مما كان معروفا في عهده، وموضحا أيضا أسماء تللك الكائنات خلال مراحل نموها، وكذلك أسماءها في مختلف البلدان، وأحكام الشريعة لتلك الحيوانات ومنتجاتها، وبعض الأحاديث النبوية التى ذكرت فيها، وقد جمع مادته من ٥٦٠ كتاب، و١٩٩ ديوان شعر، وأتخذ في مشاهداته لصفات الحيوانات الأسلوب العلمى القائم على الرصد والمشاهدة.
ومات بعد حياة علمية حافلة بالقاهرة، في ثالث جمادى الأولى سنة ٨٠٨هـ / ١٤٠٥م، وصلي عليه ثم دفن بمقابر الصوفية سعيد السعداء.
1 / 4
[متن] لامية العجم
أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ ... وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ
مجدي أخيرًا ومجدِي أوّلًا شَرَعٌ ... والشمسُ رأْدَ الضُحَى كالشمسِ في الطَفَلِ
فيمَ الإقامُة بالزوراءِ لا سَكَني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جَملي
نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكفِّ منفردٌ ... كالسيفِ عُرِّيَ متناهُ من الخَللِ
فلا صديقَ إليه مشتكَى حزَنِي ... ولا أنيسَ إليه منتَهى جذلي
طالَ اغترابيَ حتى حنَّ راحلتي ... ورحُلها وقرَى العَسَّالةِ الذُّبلِ
وضَجَّ من لَغَبٍ نضوي وعجَّ لما ... يلقَى رِكابي ولجَّ الركبُ في عَذَلي
أُريدُ بسطةَ كَفٍ أستعينُ بها ... على قضاءِ حُقوقٍ للعُلَى قِبَلي
والدهرُ يعكِسُ آمالِي ويُقْنعُني ... من الغنيمةِ بعد الكَدِّ بالقَفَلِ
وذِي شِطاطٍ كصدرِ الرُّمْحِ معتقلٍ ... لمثلهِ غيرَ هيَّابٍ ولا وَكِلِ
حُلْوِ الفُكاهِةِ مُرُّ الجِدِّ قد مُزِجتْ ... بقسوةِ البأسِ فيه رِقَّةُ الغَزَلِ
طردتُ سرحَ الكرى عن وِرْدِ مُقْلتِه ... والليلُ أغرَى سِوامَ النومِ بالمُقَلِ
والركبُ مِيلٌ على الأكوارِ من طَرِبٍ ... صاحٍ وآخرَ من خمر الهوى ثَمِلِ
فقلتُ أدعوكَ للجُلَّى لتنصُرَنِي ... وأنت تخذِلُني في الحادثِ الجَلَلِ
تنام عيني وعينُ النجمِ ساهرةٌ ... وتستحيلُ وصِبغُ الليلِ لم يَحُلِ
فهل تُعِيُن على غَيٍّ هممتُ بهِ ... والغيُّ يزجُرُ أحيانًا عن الفَشَلِ
اني أُريدُ طروقَ الحَيِّ من إضَمٍ ... وقد رَماهُ رُماةٌ من بني ثُعَلِ
يحمونَ بالبِيض والسُّمْرِ اللدانِ بهمْ ... سودَ الغدائرِ حُمْرَ الحَلْي والحُلَلِ
فسِرْ بنا في ذِمامِ الليلِ مُهتديًا ... بنفحةِ الطِيب تَهدِينَا إِلى الحِلَلِ
فالحبُّ حيثُ العِدَى والأُسدُ رابضَةٌ ... [حَولَ الكِناسِ لها غابٌ مِنَ الأَسَلِ]
نَؤمُّ ناشِئةً بالجزع قد سُقيَتْ ... نِصالُها بمياه الغَنْجِ والكَحَلِ
قد زادَ طيبَ أحاديثِ الكرامِ بها ... ما بالكرائمِ من جُبنٍ ومن بُخُلِ
تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كَبِدٍ ... حرَّى ونار القِرى منهم على القُلَلِ
يقتُلنَ أنضاءَ حبٍّ لا حَراكَ بها ... وينحرونَ كرامَ الخيلِ والإِبِلِ
يُشفَى لديغُ الغوانِي في بُيوتهِمُ ... بنهلةٍ من لذيذِ الخَمْر ِ والعَسَلِ
لعلَّ إِلمامةً بالجِزعِ ثانيةً ... يدِبُّ فيها نسيمُ البُرْءِ في عللِ
لا أكرهُ الطعنةَ النجلاءَ قد شُفِعَتْ ... برشقةٍ من نِبالِ الأعيُنِ النُّجُلِ
ولا أهابُ صِفاح البِيض تُسعِدُني ... باللمحِ من صفحاتِ البِيضِ في الكِلَلِ
1 / 5
ولا أُخِلُّ بغِزلان أغازِلُها ... ولو دهتني أسودُ الغِيل بالغيَلِ
حُبُّ السلامةِ يُثْني همَّ صاحِبه ... عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ
فإن جَنَحْتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقًا ... في الأرضِ أو سلَّمًا في الجوِّ فاعتزلِ
ودَعْ غمارَ العُلى للمقديمن على ... ركوبِها واقتنِعْ منهن بالبَلَلِ
رضَى الذليلِ بخفضِ العيشِ يخفضُه ... والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ
فادرأْ بها في نحورِ البِيد جافلةً ... معارضاتٍ مثانى اللُّجمِ بالجُدَلِ
إن العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يومًا دارةَ الحَمَلِ
أهبتُ بالحظِ لو ناديتُ مستمِعًا ... والحظُّ عنِّيَ بالجُهَّالِ في شُغُلِ
لعلَّهُ إنْ بَدا فضلي ونقصُهُمُ ... لعينهِ نامَ عنهمْ أو تنبَّهَ لي
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ... ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ ... فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ
غالى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها ... فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مبتَذَلِ
وعادةُ النصلِ أن يُزْهَى بجوهرِه ... وليس يعملُ إلّا في يدَيْ بَطَلِ
ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني ... حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ
تقدَّمتني أناسٌ كان شَوطُهُمُ ... وراءَ خطويَ إذ أمشي على مَهَلِ
هذا جَزاءُ امرئٍ أقرانُه درَجُوا ... من قَبْلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ
وإنْ عَلانِيَ مَنْ دُونِي فلا عَجَبٌ ... لي أُسوةٌ بانحطاطِ الشمس عن زُحَلِ
فاصبرْ لها غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ ... في حادثِ الدهرِ ما يُغني عن الحِيَلِ
أعدى عدوِّكَ أدنى من وَثِقْتَ به ... فحاذرِ الناسَ واصحبهمْ على دَخَلِ
وإنّما رجلُ الدُّنيا وواحِدُها ... من لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ
وحسنُ ظَنِّكَ بالأيام مَعْجَزَةٌ ... فظُنَّ شَرًّا وكُنْ منها على وَجَلِ
غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ وانفرجتْ ... مسافةُ الخُلْفِ بين القولِ والعَمَلِ
وشانَ صدقَك عند الناس كِذبُهمُ ... وهل يُطابَقُ معوَجٌّ بمعتَدِلِ
إن كان ينجعُ شيءٌ في ثباتِهم ... على العُهودِ فسبَقُ السيفِ للعَذَلِ
يا واردًا سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ ... أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ
فيمَ اعتراضُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ ... وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ
مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا ... يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ
ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها ... فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ
1 / 6
ويا خبيرًا على الأسرار مُطّلِعًا ... اصْمُتْ ففي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ ... فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
1 / 7
[المقدمة]
/ بسم الله الرحمن الرحيم ... [٢ أ]
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله
الحمد لله الذي شرح صدر مَن تأدَّب، ورفع قدر مَن تأهَّل للعلم وتأهَّب، وجمَّل مَن تدرَّع لباس الفضل وتدرَّب، وكمَّل مَن ترقَّى إلى غاية ما ترقَّب.
أحمده على نعمه الوافرة، وأشكره على مِننه المتكاثرة، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق المخصوص بجوامع الكَلِم، وأفصح ناطق صرف عنان لفظه، وأبلغ صادق أرهف سنان وعظه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين تمسَّكوا بآدابه، وسبقوا إلى مدى لم يطمع أحد من بعدهم في غاية سكابه، صلاة تطول لهم بها القصور، وتحيط بهم بركتها إحاطة الهالات (١) بالبدور،
وبعد ...
فإنّ القصيدة الموسومة بلامية العجم، رحم الله ناظم عقدها، وراقم بردها، تعاطى الناس مدام أكوابه، وتجاذبوا هُدَّاب أهدابه، أهانت الدرّ حتى ما ثمن، وأرخصت قيمة الأمثال والخطباء، كأنّ ناظمها خاض في البحر فأتى بدرّ منضودة، وارتقى إلى السماء فجاء بالدراري من الأفق معقودة.
شعر (٢) (من البسيط)
فما لها في الورى مثل يناظرها وكم لها سار بين الناس من مثل
أقمارها في تمام النظم قد طلعت تسير في أوج معناها ولم تفُل
وزهرها لم تزل تذري عصارته لأن منبته في روضها الخَضِل
/يرتاح سامعها حتى يهزّ لها ... من التعجب عطف الشارب الثمل [٢ ب]
فلا تَعِرْ غيرها سمعا ولا بصرا ... في طلعة الشمس ما يُغنيك عن زُحل
وقد شرحها أوحد زمانه، وفريد أوانه، الشيخ صلاح الدين الصفدي، سقى الله ثراه، وجعل الجنة مأواه شرحا تضرب أباط الإبل فيما دونه، وتقف فحول الرجال عنده ولا يعدونه، والتزم أن يذكر فيه ما سمع فوعى، وما جمع فأوعى، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فوائده وفرائده إلاّ أظهرها، ولا نكتة بديعة من لطائف معناه إلاّ وفي ذلك الكتاب سطرها،
_________
(١) الهالات: جمع هالة، والهالةُ: دارة القمر؛ قال ابن سيده: وإِنما قضينا على عينها أَنها ياء لأَن فيه معنى الهَيُول الذي هو ضوء
الشمس، فإِن قلت: إِن الهَيُول رومية والهَالة عربية كانت الواو أَولى به لأَنّ انقلاب الأَلف عن الواو وهي عين أَكثر من انقلابها عن الياء كما ذهب إِليه سيبويه، والجمع هالاتٌ. لسان العرب (هيل).
(٢) يبدو أنّ هذا الشعر للصفدي - شارح لامية العجم.
1 / 8
ولله درّه، فقد أودعه فوائد جمة، ومسائل مهمة، وكنت حين سمعت بهذا الكتاب، أطلبه من أُولي الألباب، وأحثّ في الوصول إليه من العزم الخيل والركاب، إلى أنْ يسّر الله تعالى الوقوف عليه في هذا العام، فوجدته كبحر أجاج، متلاطم الأمواج، ريحه عاصف، ووبله واكف، وجواهره منضودة، وفرائده معقودة، لم يُنسج في فنه على منواله، ولا سمحت قريحة بمثاله، وقد جمع من كل فن عرنيده (١)، ومن كل عالم تالده وطريده، فكان حقه أن يقال فيه (٢): (من الخفيف)
هكذا هكذا وإِلا فلا لا ... طُرُقُ الجدِّ غَيْرُ طُرْقِ المِزاحِ
غير أنه ينتقل فيه من علم إلى علم، ومن نكتة إلى نكتة، ومن غريبة إلى غريبة، وكأنه تمسك بقول القائل (٣): (من البسيط)
لا يُصلِحَ النَفسَ إِذْ كانَت مُدبرةً ... إِلّا التَنَقُّلُ مِن حالٍ إِلى حالِ
فهو غريب في بابه، عزيز عند طلابه، ومع ذلك اعتذر بخشية الإطالة، واجتنبها خوفا من عدم الإقالة، وذكر أنه حين علّقه كان في هموم / علم الله ترادف نعوتها، وانكشاف غمائم [٣ أ] غمها وعيوبها، هذا والزمان قصير، والعلم جمع غزير، فاستخرت الله تعالى - وله الخيرة - في تلخيصه وتهذيبه، سالكا فيه طريقته في ترتيبه؛ ليكون ذلك سببا لتحصيل مقصوده، وكالرمز على حلّ عقوده؛ فكتبت هذه الأوراق، مستعينا بالمهيمن الخلاق أن يجيرني وأحبائي من عوارض الأيام، وأن يجعلني من العلماء الأعلام، وأن لا يجعل سعينا في طلب العلم وبالا، وأن يحل علينا منة ورحمة وإفضالا.
[ترجمة الطغرائي]
فصل فيما يتعلق بترجمة الطغرائي ومولده ووفاته وذكر شيء من أشعاره مختصرا:
الطغرائي ﵀ هو العميد مؤيد الدين فخر الكتاب ابن إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الأصبهاني المنشئ المعروف بالطغرائي، بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وفتح الراء، وهذه نسبة إلى من يكتب الطغراء، وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب، فوق البسملة بالقلم الغليظ، تتضمن نعوت الملك، وألقابه، وهي لفظة أعجمية.
قال ابن خلكان (٤): كان غزير الفضل، لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر، وذكره السمعاني، وأثنى عليه، وذكر شيئا من شعره، وذكر أنه قتل في سنة خمس عشرة وخمسمائة، والطغرائي المذكور له ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته
_________
(١) العرندد: الصلب، اللسان (عرد)
(٢) البيت لابن قلاقس. ديوانه / الموسوعة الشعرية. وسنرمز لها بالحرف (م)
(٣) لأبي العتاهية، ديوانه، ص، ٣٥٩، وفيه: لن يصلح.
(٤) وفيات الأعيان ٢/ ١٨٥ - ١٩٠.
1 / 9
المعروفة بلامية العجم، وكان عملها ببغداد سنة خمس وخمسمائة، يصف فيها حاله، ويشكو زمنه، وذكره أبو المعالي الحظيري في كتابه زينة الدهر، وذكر له مقاطيع، وذكره العماد الكاتب في كتابه نصرة الفترة وعصرة القطرة، وهو تاريخ الدولة / السلجوقية وأنه كان [٣ ب] وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، وذكر العماد الكاتب في الخريدة، قال: كان متولي ديوان الطغراء، ومالك قلم الإنشاء، وتولى الاستبقاء، وتوشح إلى الوزارة الوزارة، ولم يكن في الدولتين السلجوقية والإمامية مَن يضاهيه في الترسل والإنشاء سوى أمير الملك منشئ نظام الملك، قيل: لمّا عزم أخو استاذ الطغرائي على قتله، أمر به أن يُشد إلى شجرة، وأن يقف إلى تجاهه شاب تركي؛ ليرميه بالنبل، وكان الطغرائي يهوى ذلك الشاب، ففعل ذلك، وأوقف إنسانا خلف الشجرة يسمع ما يقول من غير أن يشعر به الطغرائي، وأن يسمع ما يقول، وقال لأرباب السهام: لا ترموه إلاّ إنْ أشرت إليكم؛ فوقفوا والسهام في أيديهم مفوقة؛ ليرموه، فأنشد الطغرائي (١) في تلك الحالة: (من الكامل)
ولقد أقولُ لمن يفوق سهمَهُ ... نحوي وأطرافُ المَنِيَّةِ شُرَّعُ ... والموتُ في لحظاتِ آخرِ سهمه ... دوني وقلبي دونَهُ يتقطَّعُ
باللهِ فتِّشْ عن فؤاديَ هَلْ يُرى ... فيه لغيْرِ هَوى الأَحِبَّةِ مَوْضِعُ (٢)
أهوِنْ بهِ لو لم يكنْ في طَيِّهِ ... عهدُ الحبيبِ وسرُّه المستودَعُ
فرق له وأمر بإطلاقه في ذلك الوقت، ثم إنّ الوزير عمل على قتله فيما بعد وقتله، وكان له ﵀ في حلّ رموز الكيمياء اليد العليا، والسابقية الأولى، وله فيها تصانيف عدة، ومن شعره (٣): (من الكامل)
أما العلومُ فقد ظَفِرْتُ ببغْيتي ... منها فما أحتاجُ أنْ أتعلَّمَا
وعرَفت أسرارَ الخليقةِ كلَّها ... عِلمًا أنارَ ليَ البهيمَ المُظلما
/ودريتُ هُرْمُسَ سِرَّ حكمتِه التي ... ما زال ظنًّا في الغيوب مرجَّما [٤ أ]
وملكتُ مفتاحَ الكُنوزِ بفطنةٍ ... كشَفتْ ليَ السرَّ الخفيَّ المُبْهَما
لولا التَّقِيَّةُ كنتُ أُظهِرُ معجزًا ... من حكمةٍ تشفي القلوبَ من العَمى
أهوى التكرُّمَ والتظاهرَ بالذي ... عُلِّمْتُه والعقلُ يَنْهَى عنهما (٤)
وأُريدُ لا ألقى غبيًَّا موسرًا ... في العالمينَ ولا لبيبًا مُعدِما
_________
(١) ديوانه، ص ٢٤٩ - ٢٥٠.
(٢) كتب في الهامش باللون الأحمر وبالخط نفسه الذي كتبت به المخطوطة هذا البيت:
باللهِ فتِّشْ عن فؤاديَ أوّلًا ... هل فيه للسَّهمِ المُسَدَّدِ موضِعُ
وهذا هو المثبت في النسخة ب
(٣) ديوانه، ص ٣٦٦ - ٣٦٧
(٤) هذا البيت زيادة من ب
1 / 10
والناسُ إمَّا جاهلٌ أو ظالمٌ ... فمتى أُطيقُ تكرُّمًا وتكلُّما
ومن شعره (١): (من الوافر)
ولا تستودِعَنَّ السِرَّ إلاَّ ... فؤادَك فهو موضِعُه الأمينُ
إِذا حُفَّاظُ سِرِّك زيدَ فيهم ... فذاك السرُّ أضيعُ ما يكونُ
ومن شعره في الزهد (٢): (من الوافر)
إِذا ما لم تكنْ ملكًا مُطَاعًَا ... فكنْ عبدًا لخالقِه مُطِيعَا
وإِن لم تملكِ الدنيا جميعًا ... كما تهواه فاتركْهَا جميعَا
قال الشارح: يقال أن أول ما ظهرت الكيمياء في جبابرة قوم هود، وتعاطوا ذلك، وبنوا مدينة من ذهب وفضة، لم يخلق مثلها في البلاد، وكان ابن التيميّة ﵀ ينكر ثبوتها، وصنف رسالة في إنكارها، وأمّا الإمام فخر الدين ﵀ فإنه عقد في المباحث الشرقية فصلا في إمكانها، وقد ردّ على الفلاسفة في قولهم بعدم إمكانها، واستدل على إمكانها في الملخص، قال: وأمّا الوقوع فالوصول إليه عسير، فهو يقول أيضا بوقوعها، لكن يعسر، وكذلك/ قال ابن باجة الأندلسي عن الشيخ أبي نصر الفارابي، والظاهر من حال [٤ ب] الطغرائي ﵀ أنه لم يدبر شيئا من الكيمياء، إنما كان يعلمها علما لا عملًا، ألا تراه يقول (٣): (من الطويل)
ولولا ولاةُ الجَورِ أصبحتُ والحصَى بكفَّيَ أنَّى شِئتُ دُرٌ وياقوتُ
وصاحب الشذور من جملة أئمة هذا الفن، صرح بأن نهاية الصنع إلقاء الواحد على الألف، ألا تراه يقول ﵀ في الفائيَّة (٤): (من الطويل)
فعادَ بلطْفِ الحلِّ والعقد جوهرًا ... يطاوعُ في النِّيْرانِ واحدهُ الألفُ
وفي قوله في القصيدة القافيّة (٥): (من الطويل)
فَذانِ هما البدرانِ فاغْنَ بعلمنا تنلْ بهما ما يصبغُ الألفَ دانقه
وكان بعضهم يقول: إنّ المقامات، وكليلة ودمنة رموز على الكيمياء، وكل ذلك من شغفهم وحبهم لها، نسأل الله العافية بلا محنة، وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ﵀ مغرما بها، وأنفق فيها مالا وعمرا، وقد صحّت كيمياء العشق مع جمال الدين علي بن النبيه حيث يقول (٦): (من الطويل)
_________
(١) ديوانه، ص ٤٠٤
(٢) ديوانه، ص ٢٤٥
(٣) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم ١/ ٢٣
(٤) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم ١/ ٢٤
(٥) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم ١/ ٢٤
(٦) ديوانه / (م)
1 / 11
تعلَّمتُ علمَ الكيمِياءِ بِحُبِّهِ غزالٌ بجسمي ما بِعينَيْهِ مِن سُقْمِ
فَصعَّدْتُ أنفاسي وقطَّرْتُ أدمُعي فصحَّ من التدبيرِ تصْفيرُهُ جسمي
وقال أيضا (١): (من الخفيف)
صُنْعِةُ الكِيْمٍياءِ صحَّتْ لعيني * حيث يزدادُ إذْ يَراني احمِرارا
فإذا ما ألقيْتُ إكْسيرَ لحظي * في لُجينِ الخدُودِ عادَ نَضارا
وأمّا هذه القصيدة اللامية فإنها سُمِّيت بلامية العجم تشبيها لها بلامية العرب؛ لأنها تضاهيها في حِكمِها وأمثالها، ولامية/ العرب هي التي قالها الشنفرى وأولها (٢): [٥ أ]
(من الطويل)
أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم ... فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لَأَمَيلُ
فصل في ذكر شيء من شعر الطغرائي
﵀:
قال في قصيدته (٣): (من الطويل)
سرى وظلامُ الليلِ أقتمُ أفتخُ ... مِهادُ ضجيعٍ بالعبيرِ مُضمَّخُ
وهي قصيدة حسنة لطيفة بديعة فائقة غريبة في معناها.
وقال يصف خيلًا (٤): (من الكامل)
سبقتْ حوافرُها النواظرَ فاستوى ... سبقٌ إِلى غاياتِها وشئونُ
لولا ترامي الغايتينِ لأقسمَ الـ ... راؤونَ أنَّ حَراكَها تسكينُ
وتكاد تُشبهها البُروقُ لَوَ اَنَّها ... لم تَعتلقْها أعينٌ وظنونُ
هذه مبالغة في السرعة، والأول مأخوذ من قول أبي الطيب (٥): (من المنسرح)
يُقبِلُهُم وَجهَ كُلِّ سابِحَةٍ ... أَربَعُها قَبلَ طَرفِها تَصِلُ
وقال يصف الصبح (٦): (من الطويل)
وردنا سُحيرًا بين يومٍ وليلةٍ ... وقد عَلِقَتْ بالقَلب أيدي الكواكبِ
على حينَ عرَّى منكِبُ الشرقِ جذبةً ... من الصبح واسترخَى عِنانَ الغياهبِ
وقال من أبيات (٧): (من الطويل)
ونفسٌ بأعقابِ الأمور بصيرةٌ ... لها من طِلاع الغيب حادٍ وقائدُ
وتأنف أن يَشفي الزلالُ غليلَها ... إِذا هيَ لم تشتقْ إليها المواردُ
_________
(١) ديوانه / (م)
(٢) ديوانه / (م)
(٣) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم ١/ ٣٧
(٤) ديوانه، ص ٣٨١ - ٣٨٢
(٥) ديوانه، ص١٨٠
(٦) ديوانه، ص ٤٧
(٧) ديوانه، ص ١٢٣ - ١٢٤
1 / 12
وقال أيضا (١): (من الكامل)
إني لأذكركمْ وقد بلغَ الظما ... منّي فاشْرَقُ بالزُلالِ الباردِ
وأقولُ ليتَ أَحِبَّتي عاينتهم ... قبلَ المماتِ ولو بيومٍ واحدِ
/ وقال أيضا (٢): (من الكامل) ... [٥ ب]
مرِضَ النسيمُ وصحَّ والداءُ الذي ... أشكوهُ لا يُرجى له إِفراقُ
وهَدا خفوقُ البرق والقلبُ الذي ... ضُمَّتْ عليه جوانحي خفَّاقُ
وقال أيضا (٣): (من البسيط)
تاللهِ ما استحسنَتْ من بعدِ فُرقَتِكُمْ ... عيني سِواكم ولا استمتعتُ بالنَّظَرِ
إنْ كان في الأرضِ شيءٌ بعدكم حَسنٌ ... فإنَّ حبَّكُمُ غَطَّى على بَصَري
وقال أيضًا (٤): (من الخفيف)
خَبَّرُوهَا أنِّي مَرِضْتُ فقالتْ ... أضنَىً طارِفًا شكا أم تليدَا
وأشاروا بأنْ تعودَ وِسَادِي ... فأبَتْ وهيَ تشتَهِي أنْ تعودَا
وأتَتْنِي في خِفيةٍ وهي تشكُو ... ألمَ الوجْدِ والمزارَ البعيدا
ورأتْنِي كذا فلم تتمالَكْ ... أن أمالتْ علَيَّ عِطْفًَا وجِيدَا
وقال في الهلال (٥): (من الرجز)
قوموا إِلى لذّاتِكمْ يا نِيامْ ... ونبِّهوا العودَ وصفُّوا المُدامْ
هذا هلالُ الفِطرِ قد جاءنا ... بمنجلٍ يحصدُ شهرَ الصيامْ
وقال في تقابل الشمس والقمر (٦): (من الكامل)
وكأنما الشمسُ المنيرةُ إذْ بدتْ ... والبدرُ يجنَحُ للمغيب وماغَرَب
متحاربانِ مِجَنُّ ذا قد صاغَهُ ... من فضةٍ ولذا مِجَنٌّ من ذَهَب
وقال أيضا (٧): (من الطويل)
سأحجُبُ عنّي أُسرتي عند عسرتي ... وأبرز فيهم إِنْ أصبت ثراءَ
/ ولي أُسوةٌ بالبدر يُنفق نورَه ... فيخفَى إِلى أن يستجدَّ ضياءَ ... [٦ أ]
_________
(١) ديوانه، ص ١٤١
(٢) ديوانه، ص ٢٦٠
(٣) ديوانه، ص ١٧٢
(٤) ديوانه، ص ١٤١ ـ١٤٢
(٥) ديوانه، ص ٣٦٤
(٦) ديوانه، ص ٧٧ - ٧٨
(٧) ديوانه، ص ٤١
1 / 13
ولو أردنا أنْ نذكر الكثير من شعره لذكرنا، ولكن الاقتصار أولى، واليسير من هذا يغني عن الكثير، ولم يبق بعد ذلك إلاّ الشروع في المقصود، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالطاقة، وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه، موجبا للفوز لديه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[شرح القصيدة بيتا بيتا]
أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ ... وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ
اللغة: أصالة: مصدر أصُل الشيء أصالة، مثل ضَخُم ضخامة، قال ابن الأنباري: الأصيل القوي الذي له أصل، والرأي: مصدر رأى رأيا، مهموز، يجمع على آراء، والرأي هو التفكير في مبادئ الأمور، ونظر عواقبها، وعِلْم ما تؤول إليه من الخطأ والصواب، وأصحاب الرأي هم أصحاب القياس، روى نوح الجامع أنه سمع أبا حنيفة يقول: ما جاء عن رسول الله ﷺ فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترناه، وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال، وقال أبو حنيفة ﵀: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه، والشافعي ﵁ قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال الشافعي ﵁: ما رأيت كأهل مصر، اتخذوا الجهل علما؛ لأنهم سألوا مالكا مسائل، قال: لا أعلم، فهم لا يقبلونها ممن يعلمها؛ لأن مالكا قال: لا أعلمها، وأهل الرأي هم ضد أهل النظر، صانتني: تقول: صنت الشيء صونا، وصيانا، وصيانة، فهو مصون، ولا يُقال: مُصان، وثوب مصون على النقص (١)، ومصوون على التمام، قال (٢): ليس يأتي ثلاثي من بنات الواو (٣) إلاّ حرفان: مسك مدووف، وثوب / مصوون، فإن هذين جاءا نادرين (٤)، الخطل: المنطق الفاسد [٦ ب]، وقدخَطِل في كلامه، بالكسر، خطلا، أي أفحش، وريح خَطِل، أي مضطرب، ومنه سُمِّي الأخطل؛ لخطلٍ كان في أُذنيه، وحليةِ: الحِلية للسيف وغيره، جمعها حِلىً، مثل لِحية ولِحىً، وحِلية الرجل صفته، وليست مراده هنا، بل المراد الزينة التي يتحلى بها الإنسان من الفضائل، الفضل: خلاف النقص لغة، وهنا المراد به ما ينطوي عليه الإنسان من العلم والأدب والتجارب والممارسة للأمور، زانتني: ما يُتزين به، لدى: بمعنى عند، العطل: مصدر عطلت المرأة إذا خلا جيدها من القلائد، فهي عطل.
الإعراب: أصالة: مبتدأ مضاف إلى ما بعده، الرأي: مجرور بالإضافة إلى المبتدأ أصالة، صان: فعل ماضٍ، والتاء ضمير راجع إلى أصالة، وهو في موضع رفع؛ لأنه فاعل صان، والنون الثانية نون الوقاية، والياء ضمير المتكلم، وهي في موضع نصب على المفعولية، والجملة كلها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ، والخطل: مجرور بعن،
_________
(١) المقصود على لغة االنقص، وعاى لغة التمام.
(٢) يعني الجوهري كما في ب.
(٣) يعني من بنات الواو بالتمام، كما في ب.
(٤) الصحاح (خيط)
1 / 14
وحلية: الواو عاطفة، وقد تقع لغير ذلك، حلية: مبتدأ، لدى: ظرف مكان، فموضعها النصب، والعامل فيها زانت.
المعنى: يقول: إن الرأي الأصيل يصونه عن الاضطراب في القول والعمل، وحلية عمله تزينه عند العطل، أي عند التعري عن أعراض الدنيا وزخرفها.
قال ﵇: الإنسان بأصغريه القلب واللسان، وقال ﵇: المرء مخبوء تحت لسانه، وقال علي كرم الله وجهه: قيمة كل امرئ ما يُحسنه، وقال الشاعر (١): (من البسيط)
واجهدْ لنفسِكَ واستكمِلْ فضائلَها ... فأنتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ
/ ولبعضهم في المعنى (٢): (من الكامل) ... [٧ أ]
كمل حقيقتك التي لم تكمل ... والجسم دعه في الحضيض الاسفل
اتكمل الفاني وتترك باقيا ... هملا وأنت بأمره لم تحفل
الجسم للنفس النفيسة آلة ... ما لم تحصلها به لم يحصل
يفنى ويبقى دائما في غبطةٍ ... أبديةٍ أو شقوةٍ لا تنجلي
شرك كثيف أنت في حبلاتهِ ... بادرْ إلى وجهِ الخلاصِ وعجِّلِ
من يستطيع بلوغ أعلى منزل ... ما باله يرضى بأدنى منزل
والمشهور بالدهاء والرأي خمسة من العرب: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن الأنصار قيس بن سعد بن عُبادة، ومن المهاجرين عبد الله بن يزيد الخزاعي.
ومن شعر مؤيد الدين الطغرائي الناظم ﵀ (٣): (من الكامل)
لا تحقِرنَّ الرأيَ وهو موافقٌ ... حُكمَ الصوابِ إِذا أتَى من ناقصِ
فالدُّرُ وهو أجلُّ شَيءٍ يُقْتَنَى ... ما حَطَّ قيمتَهُ هوانُ الغائصِ
قلت وأنشد ابن الجوزي لبعض الحكماء (٤) في أوائل ذم الهوى: (من البسيط)
وأفضل الناس مَن لم يرتكب سَبَبًا ... حتى يميّز ما تجني عواقبه
مجدي أخيرًا ومجدِي أوّلًا شَرَعٌ ... والشمسُ رأْدَ الضُحَى كالشمسِ في الطَفَلِ
اللغة: المجد لغةً: الكرم، وقد مجُد بالضم فهو مجيد، قال ابن السكِّيت: الشرف والمجد يكونان بالآباء، والحسب للرجل، وإن لم يكن له أب، وإليه أشار امرؤ القيس بقوله (٥): ... (من الطويل)
_________
(١) لأبي الفتح البستي، ديوانه / الموسوعة الشعرية.
(٢) وردت في الغيث المسجم ١/ ٧٤ دون عزو لقائل.
(٣) ديوانه ١/ ٢٠٩.
(٤) لم أتمكن من معرفة قائله، ولا على مصدر له.
(٥) ديوانه، ص ١٢٩
1 / 15
فَلَو أَنَّ ما أَسعى لِأَدنى مَعيشَةٍ ... كَفاني وَلَم أَطلُب قَليلٌ مِنَ المالِ
وَلَكِنَّما أَسعى لِمَجدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَد يُدرِكُ المَجدَ المُؤَثَّلَ أَمثالي
/ المؤثل: الموروث، وأراد: كفاني قليل من المال، ولم أطلب، ولو أعمل لم أطلب [٧ ب] في قليل لاستحال المعنى، وليس هذا من التنازع؛ لفساد المعنى؛ خلافا لما توهمه أبو علي الفارسي، شرع: سواء، يحرك، ويسكن، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع، رأد الضحى: أي ارتفاع الشمس، والطفل: بعد العصر إذا طفلت الغروب.
الإعراب: مجدي: مبتدأ، وأخيرًا منصوب على أنه ظرف زمان (١)، وكذا قوله أولًا، ومجدي الثانية معطوف على الأول، وشرع: خبر عنهما، كقوله: زيد وعمرو كريمان، والشمس هذه واو الابتداء، رأد الضحى: منصوب على أنه ظرف زمان، والضحى: مضاف إليه، ثم ذكر معاني الكاف وأنها (٢) تأتي للتشبيه، واستحسن قول ابن قلاقس (٣) في مدح الحافظ السلفي: (من البسيط)
كالبحرِ والكافُ إن أنصفتَ زائدةٌ ... فيه فلا تحسَبْنَها كافَ تَشبيهِ
وقد أخذه من قول أبي الطيب (٤): (من البسيط)
كَفاتِكٍ وَدُخولُ الكافِ مَنقَصَةٌ ... كَالشَمسِ قُلتُ وَما لِلشَمسِ أَمثالُ
المعنى: يقول: إن مجده في الأول، ومجده في الآخر سواء، لا تفاضل فيه، كما أن الشمس استوى حالتاها في أول النهار وآخره، ومن الكَلِم النوابغ: التاجر مجده في كيسه، والعالم مجده في كراريسه، ومنه أيضا: مَن أخطأته المناقب، لم تنفعه المكاسب، ويحتمل أن المصنف أراد أنَّ (٥) مجد أسلافه، ومجده واحد، أي ورثت المجد عن آبائي الكرام، وسدتُ كما سادوا، وقد أخذ المصنف هذا المعنى من أبي العلاء المعري (٦)، حيث قال: (من البسيط)
وافَقْتَهُمْ في اختلافٍ من زَمانهمُ ... والبَدرُ في الوهْنِ مثلُ البدرِ في السّحرِ
/ واعلم أنّ كل حيوان بينك وبينه مشاركة في الجنسية، ألا ترى أنّ بعض العلماء كان [٨ أ] يُنكر قتل الكلاب، وينهى عنه، ويقول: كيف تفعل ذلك وهو شريكك في الحيوانية، وما أحسن قول القائل (٧): (من الوافر)
وللزنبور والبازي جميعًا ... لدى الطيران أجنحة وخفق
_________
(١) في أ: أخيرا خبر منصوب على أنه ظرف زمان، وكلمة خبر خطأ. وما أثبتناه من ب.
(٢) وأنها زيادة من ب.
(٣) ديوانه / (م)
(٤) ديوانه ٢/ ٢٥١
(٥) أنّ زيادة من ب
(٦) ديوان سقط الزند، ص ٥٩
(٧) للحسين بن عبد الله بن رواحة، معجم الأدباء ١٠/ ٥٦
1 / 16
ولكن بين ما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق
قال الشارح: وبيت أبي العلاء أبلغ مما قال المصنف؛ لأنه أعذب لفظا، وكلا المعنيين اللذين أشار إليهنا يشبه قول الحريري (١): (من البسيط)
وطالما أُصْليَ الياقوتُ جَمرَ غضىً ... ثم انطَفى الجَمرُ والياقوتُ ياقوتُ
قال: وهو سيّد الأحجار التي لا تذوب، ولا تتأثر بالنار، والذَّكر أردأ أصناف (٢) الياقوت، قال ابن سينا: ومن خواصّه التفريح، وتقوية القلب، ومقاومة السّموم، ومن خواصّه أنه يقطع سائر الحجارة إلاّ الألماس يقطعه؛ لصلابته وقلة مائيته، ولبعضهم فيمن اسمه ياقوت (٣): (من البسيط)
ياقوت ياقوت قلبي المستهام به ... من المروءة أن لا يمنع القوت
سكنت قلبي وما تخشى تلهبه ... وكيف يخشى لهيب النار ياقوت
قلت: وكذا الحجر الأسود، لا يتأثر أيضا بالنار، وله خاصيّة أخرى وهو أنه لا يغرق في الماء، وهاتان الخصلتان توجدان فيه عند الامتحان، وقد امتُحن فوُجد كذلك حين أخذته القرامطة في خبر مشهور، لا طائل بذكره، فإن قيل: أليس كون الشمس في بكرة النهار مثل كونها في آخره؛ لأن حالة الإقبال حالة (٤) ابتداء وتمكُّن، وحالة الانتهاء حالة إدبار، ولهذا / قال المنجمون: إنّ السعي في الحوائج في أول النهار خير منه في آخره. ... [٨ ب]
قال الشاعر (٥): (من الخفيف)
بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبلَ الهَجيرِ ... إِن ذاكَ النَجاحَ في التَبكيرِ
قلت: وعلى الشارح اعتراض، وعليه الشاعر، أمّا الشارح فكان ينبغي له أن يستدل بقوله ﵇: اللهم بارك لأمتي في بكورها، وبما قاله أصحابنا من استحباب التبكير في الحوائج والمهمات، وعلى الشاعر إذ لو قال: إنّ أصل النجاح، لكان أولى، لما لا يخفى على متأمل، وأجاب الشارح عن السؤال المتقدم أن المصنف إنما أراد ذات الشمس من حيث هي من غير نظر إلى ما يطرأ عليها من حركة فلكها؛ لأن هذه الأحوال إنما هي بالنسبة إلينا لا إلى الفلك؛ لأن الشمس في جرمها واحدة لا تتغير أبدا، وهي هي أبدا ما زالت، ولا طرأ عليها شيء، نعم كان هذا يُراد لو كان لكل يوم شمس تخصه، كما ذهب إليه بعضهم، وليس
_________
(١) مقامات الحريري - المقامة الحجرية، ص ٤١٧، والبيت لمحمد بن حمير الهمداني، ديوانه / (م).
(٢) أصناف زيادة من ب.
(٣) البيتان في الغيث المسجم ١/ ٩٥ دون عزو
(٤) حالة زيادة من ب.
(٥) لبشار بن برد، ديوانه / (م).
1 / 17
بشيء، قال: وقد بالغ المصنف حيث ضرب لمجدة مثلا بالشمس، وإنه مثل لا يخفى على ذي عقل، ولا يسعه إنكاره، كما قيل (١): (من الوافر)
وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَذهانِ شَيءٌ ... إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ
انظر إلى قول أبي تمام (٢) في هذا المعنى: (من الطويل)
أَنا اِبنُ الَّذينَ اِستُرضِعَ المجدُ فيهِمُ ... وَسُمِّيَ فيهِم وَهوَ كَهلٌ وَيافِعُ (٣)
مَضَوا وَكَأَنَّ المَكرُماتِ لَدَيهِمُ ... لِكَثرَةِ ما أَوصَوا بِهِنَّ شَرائِعُ
فَأَيُّ يَدٍ في المَجدِ مُدَّت فَلَم تَكُن ... لَها راحَةٌ مِن مجدِهِم وَأَصابِعُ (٤)
/ هُمُ اِستَودَعوا المَعروفَ مَحفوظَ مالِنا ... فَضاعَ وَما ضاعَت لَدَينا الوَدائِعُ [٩ أ]
واعلم أنّ عند الأكثرين أنّ أبا تمام كان أبوه نصرانيا، يقال له نقدوس (٥) العطار من جاسم، قرية من قرى حوران بالشام فغير اسم أبيه واندسّ في بني طيء، قال، ومن مشهور الحكايات، قال بعضهم: كنت ليلة جالسا عند بعض ولاة الطرق، وقد جاء غلمانه برجلين فقال لأحدهما مَن أبوك، فقال (٦): (من الطويل)
أنا ابن الذي لا يُنزل الدّهرُ قِدره ... وإن نزلتْ يومًا فسوف تعود
ترى الناس أفواجًا على بابِ دارِه ... فمنهم قيامٌ حولها وقعود
فقال الوالي ما كان أبو هذا إلاّ كريما، ثم قال للآخر: من أبوك، فقال (٧): (من المنسرح)
أنا أبن من ذلَّت الرقابُ له ... ما بين مخزُومها وهاشِمها
خاضعة أذْعَنَتْ لطاعَتِهِ ... يأخذ من مالِها ومن دمها
فقال الوالي ما كان أبو هذا إلاّ شجاعًا، وأطلقهما، فلما انصرفا، قلت للوالي: أمّا الأول فكان أبوه يبيع الباقلاّء المصلوق، وأما الثاني فكان أبوه حجاما، فقال الوالي (٨): ... (من المنسرح)
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا ... يُغنيك مضمونُه عن النَّسبِ
_________
(١) البيت للمتنبي، ديوانه ٢/ ٩٥
(٢) ديوانه، ص ٤٨٧.
(٣) في الديوان: استرضع الجود.
(٤) في الديوان: فأي يد في المحل، وليس المجد.
(٥) في الغيث المسجم ١/ ١٠٠ سدوس.، وفي الوافي بالوفيات ً ٨٩٥١ / (م) تذوس، وفي وفيات الأعيان ٢/ ١١تدوس.
(٦) ورد البيتان في جمع الجواهر في الملح والنوادر، ص ٥٢٩/ (م)، وفي الغيث المسجم ١/ ١٠١، وفي زهر الأكم في الأمثال والحكم، ص ١٤٧٨/ (م) من غير عزو.
(٧) ورد البيتان في: زهر الأكم في الأمثال والحكم، ص ١٤٧٩/ (م)، وفي غرر الخصائص الواضحة، ص ٥٤٥/ (م)، وفي الغيث المسجم ١/ [١٠١ ب] لا عزو.
(٨) نسب العسكري البيت الأول في جمهرة الأمثال، ص ١٤٢٣/ (م) لأبي العتاهية، ونسب البيت الأول في معجم الأدباء ١٩/ ١٧٣ لميمونة أبو ربيعة الأصبهاني، والبيتان في غرر الخصائص الواضحة، ص ٣٨٦/ (م)، وفي الغيث المسجم ١/ [١٠٢ ب] لا عزو.
1 / 18
إنَّ الفتى من يقول: ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقولُ كان أبي
قال بعضهم: وجدت مكتوبا على قبر: أنا ابن مَن كانت الريح طوع يده، يحبسها إذا شاء، ويطلقها إذا شاء، قال: فعظم في عيني مصرعه، ثم التفتُّ إلى قبر آخر قبالته، وعليه مكتوب: لا يغترّ أحد بقوله، فما كان أبوه إلاّ بعض الحدادين، يحبس الريح في كيره، ويتصرف فيها، فعجبت منهما يتسابّان ميِّتين.
/ قال: ومما هجا به مجاهد الخياط أبا الحسين الجزار، قوله (١): (مخلع البسيط) ... [٩ ب]
إنْ تاهَ جزارُّكم عليكم بفطنةٍ في الورى وكَيسِ
فليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه غير تيس
ومن بديع شعره، أي أبا الحسين الجزار المذكور قوله (٢): (البسيط)
إني لمن معشرٍ سفك الدماء لهم ... دأبٌ وسلْ عنهُمُ إنْ رُمت تصديقي
تضيء بالدم إشراقا عِراصهمُ ... فكل أيامهم أيام تشريق
فيمَ الإقامُة بالزوراءِ لا سَكَني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جَملي
اللغة: الزوراء: بغداد، وسميت بذلك لانحراف قبلتها، وتُسمى دار السلام، قيل: لأن دجلة يسمى السلام، وقيل: لأنه يُسلَّم فيها على الخلفاء، وهي بلدة أحدثها المنصور من بني العباس، سنة أربعين ومائة، ونزلها في سنة ست وأربعين، والسكن: ما يسكن إليه الإنسان من زوج أو غيره، وبقية البيت مثل من أمثال العرب، الأصل فيه أن الصَّدُوف العدوية كانت تحت زيد بن الأخنس العدوي، وله بنت من غيرها تُسمى الفارعة، وكانت تسكن بمعزل عنها، في خباء آخر، فغاب زيد غيبة، فلهج بالفارعة عدوي، يُدعى شبيبا، وطاوعته، وكانت تركب كل عشية جملا لها، وتنطلق معه إلى ثنية يبيتان فيها، ورجع زيد عن وجهته، فعرّج على كاهنة اسمها طريفة، فأخبرته بريبة في أهله، فأقبل سائرا لا يلوي على أحد، وإنما تخوّف على امرأته حتى دخل عليها، فلما رأته عرفت الشرّ في وجهه، فقالت: لا تعجل واقف الأثر، لا ناقة لي في هذا ولا جمل، فصار ذلك مثلا يُضرب في التبرِّي عن الشيء.
قال الراعي (٣): (من البسيط)
/وَما هَجَرْتُكِ حَتّى قُلتِ مُعلَنَةً ... لا ناقَةٌ لِيَ في هَذا وَلا جَمَلُ ... [١٠ أ]
_________
(١) البيت الأول في الغيث المسجم ١/ ١٠٢، والبيتان معا في النجوم الزاهرة، ص ٤٣٠٩ / الموسوعة الشعرية، وفي ذيل مرآة الزمان، ص ١٦٩٦ / الموسوعة الشعرية.
(٢) البيتان في الغيث المسجم ١/ ١٠٢، وفي نصرة الثائر على المثل السائر، ص ٤٦٦ - ٤٦٧/ (م)، وفي فوات الوفيات ٤/ ٢٨٨
(٣) ديوانه، ص ١٩٨، وفيه: وما صرمتك.
1 / 19
الإعراب: فيم: أصله فيما، فحذفوا الألف منها تخفيفا، أو لاتصالها بحرف الجر، أو تفرقة بينها وبين أن تكون اسما، فالأصل في ما، في: حرف جر، وما: استفهامية، وما وموضعه رفع على أنه خبر مقدم، والمبتدأ الإقامة، ويقدم الخبر لأن الاستفهام له صدر الكلام، بالزوراء: الباء للظرفية المكانية، وتكون أيضا للظرفية الزمانية، ومجيئها للمكان أكثر منها للزمان، بالزوراء موضعه النصب على أنه ظرف للإقامة، لا سكني: هذه لا التي لنفي الجنس، وسكن مبني على الفتح؛ لأنه اسم تقديره لا سكن لي، بها: الباء ظرفية، والهاء والألف ضمير يرجع على الزوراء، ولا: الواو عاطفة، ولا: التي لنفي الجنس، ناقتي: اسم لا، وقد أُضيف إلى ياء المتكلم، فالفتحة مقدرة على التاء، فيها: في هنا ظرفية، والضمير للزوراء، ولا جملي: إعرابه كما تقدم.
المعنى: يقول: إقامتي في بغداد لأي شيء، ولا سكن لي بها، ولا علاقة لي فيها، بدليل ما ضربه من المثَل، فإذا كان كذلك، فرحيله منها مُتعيِّن (١). ... (الطويل)
وَإِنَّ صَريحَ الحَزمِ وَالرَأيِ لَاِمرُىٍ ... إِذا بَلَغَتهُ الشَمسُ أَن يَتَحَوَّلا
وقد خرج رسول الله ﷺ من مكة، وكان ما كان، ثم رجع إليها، وقال ﵇: العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فأين ما وجدت الخير فأقم، واتق الله.
قال المتنبي (٢): (من الطويل)
وَكُلُّ اِمرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ ... وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
/ والمقادير عجائب، وفوائد قوم عند قوم مصائب، هذا يقول في بغداد هذه المقالة [١٠ ب] والعِكَوَّك يقول لمَّا كره عنها ارتحاله (٣): (من السريع)
لَهَفِي على بغدادَ مِنْ بَلْدَةٍ ... كانتْ مِنَ الأَسْقامِ لِي جُنّه
كأنّنِي عِنْدّ فِراقِي لَها ... آدمُ لَمَّا فَارَقَ الجَنَّه
وقال البحتري (٤): (من الكامل)
ما أَنصَفَتْ بَغدادُ حينَ تَوَحَّشَتْ ... لِنَزيلِها وَهيَ المَحَلُّ الآنِسُ
لمَّا نبت بغداد بالقاضي عبد الوهاب المالكي خرج منها طالبا مصر، فشيعه من أكابرها وفضلائها، فقال لهم لمَّا ودّعهم: لو وجدت بين ظهرانيكم كل بكرة وعشية رغيفين ما فارقت بغداد، ومن شعره فيها (٥): (من البسيط)
بغداد دارٌ لأهل المال طيبة ... وللمقلين دار الضنك والضيق
_________
(١) لأبي تمام، ديوانه، ص ٢٣٩.
(٢) ديوانه ٢/ ٢٣٢
(٣) لم أجدها في المطبوع من ديوانه.
(٤) ديوانه ١/ ٣٦٠
(٥) البيتان في وفيات الأعيان ٣/ ٢٢١، وفوات الوفيات ٢/ ٤٢٠
1 / 20