شرح كتاب نقد متون السنة للدميني - محمد حسن عبد الغفار
شرح كتاب نقد متون السنة للدميني - محمد حسن عبد الغفار
ژانرونه
حكم رواية الحديث بالمعنى
هنا مسألة وهي: هل يجوز رواية الحديث بالمعنى أم لا؟
و
الجواب
إذا قلنا: إن التدوين كان متأخرًا فإن الصدور لا تحفظ الألفاظ وتضبطها كل هذه السنين، فلا بد أن يعتري المحدث بعض الوهم وبعض النسيان، فيتذكر معنى الحديث فيروي معنى الحديث، ورواية الحديث بالمعنى قد اختلف فيها الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فـ ابن عمر ﵁ وأرضاه كان أشد الناس في تحريم رواية الحديث بالمعنى، حتى أنه إذا غير بعض الرواة لفظًا واحدًا في الحديث قال: هذا كذب على رسول الله ﷺ.
قال سليمان بن مهران الأعمش: إن هذا العلم كان عند أقوام لأن يخر أحدهم من السماء خير لهم من أن يجعل واوًا بدل الدال أو دالًا بدل الواو، بمعنى: أنهم يحفظون النص فينقلونه كما حفظوه.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول النبي ﷺ: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها)، وهذا تنصيص على أن النضارة إنما تكون لمن يحفظ اللفظ ويؤديه كما حفظه من رسول الله ﷺ.
ويستدلون بحديث أوضح من ذلك وهو حديث البراء في دعاء النوم، وهو: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وأسلمت نفسي إليك -وفي آخره- آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) فلما سمعه البراء بن عازب عرضه على النبي ﷺ وقال: (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ورسولك الذي أرسلت)، فقال له النبي ﷺ: (لا، ونبيك الذي أرسلت)، فصحح له ما قاله، مع أن الرسول نبي وزيادة، فهو رواه بالمعنى، ومع ذلك فالنبي ﷺ رد عليه وقال: (لا، وبنبيك الذي أرسلت)، وهذه دلالة قوية جدًا عن النبي ﷺ في رفض الرواية بالمعنى، ولا بد أن يأتي باللفظ.
وهذا القول يأخذ به الإمام مسلم؛ ولذلك تراه يدقق جدًا في الألفاظ في صحيحه.
القول الثاني -وهو قول جمهرة أهل العلم من الصحابة والتابعين-: جواز رواية الحديث بالمعنى، وهذا الذي رجحه البخاري وقبله شيخه علي بن المديني.
ويحتجون على ذلك بأدلة منها: حديث أبي سعيد قال: كنا نكون العشرة عند رسول الله فنحفظ عنه الحديث، فيروي كل واحد منا الحديث فلا نتفق على لفظه.
فهذا صريح جدًا، وظاهره أن الصحابة يحفظون الحديث وكل منهم يؤدي الحديث بالمعنى.
والراجح الصحيح أن رواية الحديث بالمعنى جائزة، وهذا الذي يظهر عمليًا؛ لأن الحديث الواحد إذا تتبعت رواياته في الكتب الستة فقط فستجد أن رواية البخاري وتخالف رواية مسلم وتخالف رواية النسائي وتخالف رواية أبي داود تخالف رواية الترمذي، وهذه دلالة على أن الرواة حفظوا المعنى، ووعى كل واحد منهم المعنى بدقة، وكان عندهم فقه ولهم سليقة، فلا يحيلون المعنى، ولا يغيرون الأحكام، فالصحيح الراجح أن رواية المعنى صحيحة لا سيما الآن في عصرنا، فمن حفظ الحديث بالمعنى وقاله بالمعنى فقد أصاب.
والحديث القدسي المعنى فيه من الله واللفظ من رسول الله ﷺ، فالنبي ﷺ يرويه بالمعنى.
وهنا سنبين بوضوح عملية رواية الحديث بالمعنى: فحديث: (دخل أعرابي المسجد فبال في ناحية المسجد، فقام الصحابة فكادوا يقتلونه، فقال لهم النبي ﷺ: لا تزرموه ولا تقطعوا عليه بوله، ثم قال: أهريقوا عليه سجلًا أو ذنوبًا من ماء)، فسنتتبع هذه الرواية في الكتب الستة فقط، وننظر في الروايات كيف أداها الذين سمعوا هذا الحديث: فأما صحيح البخاري فالحديث فيه عن أنس بن مالك ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه).
وفي البخاري نفسه عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: (دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء أو سجلًا من ماء).
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: (دعوه ولا تزرموه، قال: فلما فرغ -يعني فرغ من بوله- دعا بدلو من ماء فصبه عليه).
وفي مسلم أيضًا عن أنس قال: (فصاح به الناس، فقال رسول الله ﷺ: دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله ﷺ بذنوب فصب على بوله).
وأيضًا عن أنس في رواية أخرى في الصحيح قال: قال رسول الله ﷺ (لا تزرموه دعوه).
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: (فلم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي ﷺ وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء).
وهذه الجملة لم تذكر أصلًا في رواية من روايات الصحيح، وهذا يدل على أن الحديث روي بالمعنى.
وفي رواية قال: (صبوا عليه ذنوبًا من ماء).
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: (أهريقوا عليه سجلًا من ماء أو دلوًا من ماء).
وفي سنن النسائي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: (دعوه ولا تزرموه، فلما فرغ دعا بدلوٍ فصبه عليه) وفي النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ (دعوه وأهريقوا على بوله دلوًا من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين).
وفيه أيضًا عن أنس: (اتركوه، فتركوه حتى بال ثم أمر بدلو من ماء).
وفي سنن ابن ماجة قال النبي ﷺ: (لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه).
وأيضًا في سنن ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع -وهو راو ثالث- قال: قال رسول الله ﷺ: (دعوه، ثم دعا بسجل من ماء فصب عليه).
فهذه الروايات في الكتب الستة فقط، فلا توجد رواية اتفقت مع رواية أخرى بنفس اللفظ، فالصحابة كل واحد منهم سمع رسول الله وعقل عنه، وكانت اللغة عندهم سليقة، وكانوا فقهاء، وتتوفر فيهم الشروط التي أشترطها العلماء في الرواية بالمعنى وهي: أن يكون عالمًا باللغة العربية.
وأن يكون فقيهًا؛ حتى لا يغير الأحكام.
وأن يستوعب مضمون الحديث كله، ولا يحيل المعنى ولا الحكم.
فالصحيح الراجح أن رواية السنة بالمعنى جائزة، وفي هذا تيسير على كل أخ يخطب خطبة أو يتكلم كلمة، فنقول له: إذا رويت حديثًا بالمعنى فقد أصبت، ولا نحجر واسعًا؛ إذ إننا لو قلنا: لا تجوز الرواية إلا باللفظ، فإننا سنحرم على أي مدرس أو أي خطيب أو أوي متكلم يتكلم وينسب القول لرسول الله إلا بالنص عن رسول الله ﷺ، وهذا فيه مشقة، لا سيما ونحن في عصر قل فيه الحفظ والعلم، فنسأل الله جل في علاه أن يجعلنا ممن قال النبي ﷺ فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم).
1 / 6