Sharh Kitab Al-Tadlees fi Al-Hadith Lil-Damini by Muhammad Hassan Abdul Ghaffar
شرح كتاب التدليس في الحديث للدميني - محمد حسن عبد الغفار
ژانرونه
التدليس في الحديث - المقدمة
لقد اهتم العلماء اهتمامًا منقطعًا بعلم مصطلح الحديث، وأولوه كل عنايتهم، بل هم الذين وضعوه، وأسسوا قواعده وأصوله، وذلك حفاظًا على حديث النبي ﷺ من الكذب والوضع، فوضعوا أعظم المناهج والمصطلحات في ذلك، وتتبعوا رواة الحديث وأخبارهم، وقسموا الحديث إلى أنواعه المعروفة عند أهل العلم، حتى استقر على ما هو عليه اليوم، ومن الأنواع التي وضعوها: الإرسال والتدليس، وتتبعوا رواية المرسلين والمدلسين، وصنفوها إلى طبقات، وذلك كله من أجل الحفاظ على سنة النبي ﷺ، فرحمهم الله، وأجزل مثوبتهم.
1 / 1
التعريف بمؤلف كتاب: التدليس في الحديث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: نستهل الكلام على هذا الكتاب الجليل، كتاب: (التدليس في الحديث، حقيقته وأقسامه وأحكامه ومراتبه والموصوفون به)، يعني: طبقات المدلسين، وهو للشيخ الفاضل الكريم الدكتور: مسفر بن غرم الله الدميني من الرياض، وقد أخذ الدكتوراة من الأزهر، وهو رجل وتد في علم الحديث، وإن كان ليست له تخريجات أو تعليقات أو تحقيقات، فقد كان يهتم بالجانب النظري أكثر، فهو فحل في هذا الجانب، وله كتب ماتعة، منها: نقض في السنة، ومنهج الترمذي في كتابه، وهذا الكتاب الذي نشرحه.
1 / 2
أهمية السنة النبوية
إن السنة النبوية من الأهمية بمكان، وتظهر أهمية السنة بعلاقتها مع كتاب الله جل في علاه، فهما صنوان متلازمان، لا يمكن أن يفترقا بحال من الأحوال.
وسنة النبي ﷺ قال عنها عمران بن حصين: إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وما ذلك إلا لأن الله جل في علاه قال: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:٤٤]، وهذا التبيين يكون من النبي ﷺ بسنته وبشرعه الذي شرعه، أو نقلًا لشرعه وحيًا عن الله جل في علاه وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤].
وتظهر أهمية السنة النبوية في أنها مبينة لكلام الله جل في علاه، ومبينة لمراده جل في علاه في كتابه، وهذا التبيين أنواع: فقد تكون مفسرة للمجملات، أو مبينة للمشكلات أو مقيدة للمطلقات ومخصصة للعمومات.
فالسنة النبوية هي التي تفسر لنا وتبين لنا مراد الله في كتابه، فمثلًا: لما أمر الله بالصلاة والزكاة في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:٤٣]، فإنه لم يبين أن صلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر والعصر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، وصلاة العشاء أربع ركعات، ولم يبين وقت كل صلاة، ولا شروط الصلاة وأركانها، وإنما أتت الآية مجملة، آمرة بإقامة الصلاة فقط.
فبينت السنة كل هذا، وهذه الآية من أعظم ما يرد به على القرآنيين، الذين يقولون: لا نأخذ إلا بالقرآن، ويرمون بسنة النبي ﷺ خلفهم ظهريًا، فإن قولهم هذا يؤدي إلى تعطيل الدين في نهاية المطاف؛ لأن أغلب الأحكام بينتها السنة، ولم تذكر في القرآن.
1 / 3
أهمية صلاح الباطن في تعلم العلم
إن التوفيق مداره على صلاح الباطن لا على الظاهر؛ لأن الله جل وعلا يقول: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ [الإسراء:٢٥]، ويقول: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣] والميزان الرباني: هو النظر إلى القلوب وإلى طهارتها، حتى العلم لا يناله إلا نقي القلب، وقد جاء عن ابن عباس بسند صحيح أنه كان يقول: يؤتى المرء الفهم بنيته.
فرد المسألة بالفهم إلى النية، وهذه أيضًا مستقاة من قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال:٢٩]، وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة:٢٨٢].
وهذه ليست دليلًا على العلم، ولكن المعنى: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا تفرقون به بين الحق والباطل.
وأسال الله جل وعلا أن يجمعنا وإياكم مع النبي ﷺ في الفردوس الأعلى، وأن يغفر لنا زلاتنا، ويستر علينا عيوبنا، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
1 / 4
اهتمام السلف بالسنة والنبوية
القرآن والسنة صنوان لا يفترقان بحال من الأحوال؛ لأن القرآن كما قال عمران بن حصين: إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن.
وقد بينا أن السنة تبين مجملات أو مشكلات القرآن، وضربنا المثل بقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:٤٣] ولم يبين نصاب الزكاة، ولا اشتراط الحول لإخراجها، وإنما بينتها السنة.
ولما ظهرت أهمية السنة عند علمائنا وعند السلف الصالح علموا أنه لابد من الحفاظ على هذه السنة، وعلى هذا التراث العظيم من أحاديث النبي ﷺ؛ لأنها هي المبينة لمراد الله جل في علاه، ونحن إنما خلقنا كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦].
ولن نعبد الله جل في علاه حق العبادة إلا إذا عقلنا عن الله ما أمرنا به، ولن نعقل عن الله مراده إلا بسنة النبي ﷺ؛ ولذلك اهتم العلماء بالسنة، وفهموا معنى قول النبي ﷺ كما في الصحيحين عن أنس وعن غيره: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).
1 / 5
شدة تحري الصحابة في حديث النبي ﷺ
وقد كان الصحابة من أشد الناس تحريًا في ضبط القول، وهل قال النبي ﷺ هذا اللفظ أم لا؟ ولذلك جاء عن علي بن أبي طالب ﵁ قال: ما حدثني أحد - من الصحابة أو من التابعين - بحديث عن النبي ﷺ إلا أمرته أن يقسم بالله، -يعني: حلفته بالله جل في علاه أسمعت هذا من رسول الله؟ إلا أبا بكر قال: وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر فهو صديق من فوق سبع سماوات.
فهذا بيان لتحري الصحابة على ضبط أن هذا القول من النبي ﷺ.
وكان عمر بن الخطاب لا يحدثه أحد بحديث إلا قال له: ائتني بشاهد.
وتحري عمر هذا يحتج به بعض المتنطعين الذين يقولون: لا تقبل أحاديث الآحاد لا سيما في العقائد، والرد على ذلك وجيز، وهو أن عمر بن الخطاب ما كان يرد أحاديث الآحاد في هذه المواقف، بل لقد قبل كثيرًا من أحاديث الآحاد، وإنما كان شديد التحري، فمثلًا: لما حدث عمار بن ياسر بحديث اليتيم، وأنه كان مع عمر، وقد نسيه عمر، فقال له عمر: انظر ما تحدث به عن رسول الله ﷺ.
فقال: لو أردت لم أحدث به، قال: لا، أرو، ونوليك ما توليت.
فهذا يدل على أنه قبله منه، وهو حديث آحاد، بل إن القصة كان فيها عمر، وقد علم أنه قد وهم، ولذلك ترك الأمر إلى الراوي نفسه، وقال: نوليك ما توليت، فهو لا يشدد في هذه المسألة إلا لحكمة، فالمسائل التي فيها أحكام وتحتاج لضبط كان يشدد فيها ويريد الشاهد، لا لأنه يرد حديث الآحاد، وحديث عمار ظاهر جدًا في أنه لا يرد حديث الآحاد.
فالغرض المقصود من هذا هو أن الصحابة كان لهم تحر فائق في أن هذا الحديث قاله النبي ﷺ أم لا، وأيضًا أبو بكر قد فعل ذلك لما جاءته الجدة تطلب ميراثها فقال: لا أعلم لكن ميراثًا في كتاب الله جل في علاه ولا في سنة النبي ﷺ، ولكن انتظري حتى نسأل المهاجرين والأنصار، فقام المغير بن شعبة فقال: عندي فيها سنة، قد أعطاها النبي ﷺ السدس، فقال: ائتني بشاهد، ولم يقصد بقوله: ائتني بشاهد ليرد حديثه، وإنما لأن هذا حكم فيه مال، فأراد أن يعضده بغيره.
إذًا: كان الصحابة شديدي التحري في حديث النبي ﷺ.
1 / 6
شدة تحري العلماء في حديث النبي ﷺ
ثم جاء الجهابدة بعدهم والسلف الصالح فقالوا: لما قعد النبي ﷺ هذه القاعدة: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، ولما كانت السنة مكانتها من القرآن هذه المكانة فلا بد من أن نتأكد تأكدًا تامًا أو غالبًا على الظن أن النبي ﷺ تكلم بهذا الكلام، فوضعوا له أصولًا وقواعد، لابد أن يتبعها طالب العلم، أو العالم الذي يريد أن يأخذ الحديث بسند صحيح كالشمس عن النبي ﷺ، وهذه الشروط والضوابط التي وضعوها منها شروط عامة، ومنها شروط خاصة.
1 / 7
الشروط العامة لصحة الحديث
فأما الشروط العامة فإن الحديث لا يقبل عندهم بحال من الأحوال إلا إذا توافرت فيه خمسة شروط أو أربعة، وهي: أن يتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة.
والضبط نوعان: ضبط صدر، وضبط كتاب، والمقصود هنا: ضبط الصدر، والفرق بين العدل والعادل: أن العادل متعدي، فهو عادل في أحكامه ومعاملاته، وأما العدل فهو ذاتي.
فالشرط الأول هو أهم الشروط، وهو ما اتصل سنده، واتصال السند لا يكون إلا من رواية التلميذ عن شيخه، بأن يسمع من شيخه، ولذلك فإن العلماء أخذوا المدلسين ووضعوا عليهم سياجًا عظيمًا، وذلك مثل أبي الزبير، فإنه مدلس، وروايته في مسلم عن جابر ﵁، ولكن العلماء لم يهملوا المدلسين، سواء في الصحيح أو غير الصحيح، فمثلًا: قالوا عن أبي الزبير: إنه يقبل حديثه بدون قيد أو شرط إذا روى عنه الليث بن سعد؛ لأن الليث كان يوقفه في حديثه ويسأله: أسمعت ذلك من جابر؟ فيقول: سمعت من جابر إذا كان سمعه، وإلا قال: حدثني به فلان عن جابر.
فيكتب الليث كلامه.
إذًا: فقد كان الرواة الثقات وعلماء الجرح والتعديل شديدي الحرص على اتصال السند؛ لأنه شرط أصيل لصحة الحديث.
1 / 8
العلاقة بين الإرسال والتدليس
وعند الكلام عن اتصال السند لابد من الكلام عن التدليس والإرسال، والإرسال الخفي، وطبقات المدلسين؛ لأنها كلها ناتجة عن انقطاع السند.
والإرسال مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتدليس، والعلاقة هي الإسقاط، فالمدلس يروي عن شيخه الذي عاصره ما لم يسمع منه، والمرسل: هو أن يروي عمن لم يعاصره بصيغة محتملة للسماع.
إذًا: فهما يتفقان ويفترقان، فيتفقان في الإسقاط، ويختلفان في المعاصرة، فالمدلس قد عاصر من دلس عليه، وأما المرسل فلم يعاصر من أرسل عنه.
مثل: سليمان بن مهران الأعمش، فقد كان مدلسًا، وكان بحرًا ثقة، كما قال الذهبي عنه: أنه إذا صرح بالسماع فلا كلام، فإذا قال الأعمش في إسناده: عن أنس بن مالك، نظرنا هل سمعه منه أو لا؟ وهو قد رأى أنسًا، ولكن هل سمع منه أم لا؟ فينظر في هذه العنعنة؛ لأن الصحيح الراجح أنه لم يسمع من أنس، فيبحث عن الواسطة بينهما، الذي أسقطه، وهل هو ثقة أو لا؟ وكذلك إذا قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله ﷺ، فإن سعيدًا مختلف في سماعه من عمر، فكيف يروي عن رسول الله ﷺ، فهو لم يعاصر النبي ﷺ؛ لأنه من التابعين، وليس من الصحابة.
إذًا: المدلس عاصر من دلس عليه، وأما المرسل فلم يعاصر من أرسل عنه، وأهل التحقيق يسمون هذا النوع من التدليس: إرسالًا خفيًا.
1 / 9
الحديث المرسل وتعريفه
1 / 10
تعريف المرسل لغة
المرسل لغة: من أرسل الشيء، أي: أطلقه، ويأتي بمعنى: وجهه، ذلك أن المرسل هو الذي روى الحديث عمن لم يسمعه ولم يعاصره؛ فكأنه أطلقه عن راويه.
مثل أن يقول سعيد بن المسيب: عن رسول الله ﷺ، أو يقول أيوب السختياني -وهو من طبقة صغار التابعين- أو الزهري أو الشعبي: عن النبي ﷺ، فهؤلاء أرسلوا هذا الحديث، أي: أنهم أطلقوه ولم يقيدوه براو معروف، فمثلًا: لم يقل سعيد بن المسيب: سمعت عثمان قال: قال ﷺ، ولم يقل الزهري: سمعت أنس قال: عن النبي ﷺ كذا وكذا، وإنما أطلقوه ولم يقيدوه براو معروف، الذي هو أحد الصحابة ﵃.
وأيضًا يأتي المرسل في اللغة بمعنى: الاسترسال، والاسترسال بمعنى: الاطمئنان، أي: أن الراوي الذي أرسل الحديث اطمئن للطبقة التي فوقه، والتي أخذ منها، مثل أن نقول: إن الزهري أخذ الحديث عن أنس، فلما أخذه عن أنس اطمئن على صحة الحديث؛ لأنه لا كلام في أنس ﵁؛ لأنه معدل من فوق سبع سماوات، فلا يحتاج إلى أن يعدله أحد، فلما اطمأن على رواية أنس أسقطه، وروى مباشرة عن النبي ﷺ؛ لأنه يعلم أن هذا الحديث صحيح وليس ضعيفًا؛ لأنه من رواية أنس بن مالك ﵁ وأرضاه.
فكأن الراوي في مجلس التحديث استعجل، أو استعجله طلبة الحديث فروى الحديث وأسقط السند، فرواه عن النبي ﷺ، وأرسله عنه، أي: أنه تعجل في روايته ولم يتأن، ولم يأت بالسند الذي فوقه.
1 / 11
تعريف المرسل اصطلاحًا
وأما معنى المرسل في الاصطلاح فإن المحدثين اختلفوا في تعريفه على أقوال كثيرة جدًا، وسنجملها -إن شاء الله تعالى- في ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول كثير من المحدثين: أنه رواية التابعي الكبير عن رسول الله ﷺ، ومعنى هذا التعريف: أن الرواة بعد الصحابة إما أن يكونوا من التابعين أو لا، والتابعون قسمان: كبار وصغار، فالكبار مثل: سعيد بن المسيب وعبدالله بن عتبة بن مسعود ومسلم بن يسار، هؤلاء من طبقة كبار التابعين، وأما صغار التابعين فكـ الزهري وأيوب السختياني، وأما غير التابعين فمطلق وليس مقيدًا، فقال أصحاب هذا القول في تعريف المرسل بأنه: رواية التابعي الكبير عن رسول الله ﷺ.
كـ سعيد بن المسيب عن النبي ﷺ، وكـ القاسم بن محمد بن أبي بكر عن النبي ﷺ، فهذا هو المرسل فقط عندهم.
ووجهة ذلك: أنه لما كان النظر في الحديث المرسل إلى من أسقط من السند، فإن التقييد بكبار التابعين معناه: أن الذي أسقط سيكون صحابيًا، وأن التابعي قد أرسله عن النبي ﷺ بإسقاط الصحابي، قالوا: وهذا في غالب ظننا أنه لا يكون إلا من التابعي الكبير؛ لأنه لو كان تابعيًا صغيرًا فيحتمل أنه أخذ من التابعي الكبير ولم يأخذ عن الصحابة، إلا من عاش دهرًا من الصحابة، ومنهم أنس بن مالك، وهذا نادر؛ لأنه نادر؛ ولأنه يصعب على كل صغار التابعين الرحلة إلى هذا الصحابي الذي عُمِّر، حتى يسمعوا منه هذا الحديث، هذا هو التعريف الأول للمرسل عند العلماء، وهو الصحيح الراجح.
القول الثاني: وهو قول جمهور المحدثين: أنه رواية التابعي بإطلاق عن النبي ﷺ.
قالوا: لأنه لا يشق على التابعي الصغير أن يذهب إلى هذا الصحابي ليأخذ منه الحديث ويرويه عنه، وقد كان هذا موجودًا، وإذا كان موجودًا وممكنًا فلابد أن نلحقه بالحكم المجاور له.
فقالوا: بأنه رواية التابعي بإطلاق عن النبي ﷺ.
القول الثالث: وهو قول الأحناف: أنه رواية التابعي وغير التابعي عن النبي ﷺ، ولو من المتأخرين.
وهذا غير مرضي بحال من الأحوال؛ لأننا إذا قلنا بأن المرسل هو: رواية التابعي الكبير، فيكون قد أسقط فيه الصحابي، فيكون احتمال الضعف قليلًا، وإذا قلنا بأن المرسل هو: رواية من تحت التابعي، بل تحت أتباع التابعين، فإنه يكون من المحتمل أنه قد سقط من السند أكثر من راو، فيكون احتمال الضعف كبيرًا.
وقال بعض العلماء: كل منقطع مرسل، فقالوا: المرسل: هو إسقاط راوٍ من أي طبقة من طبقات الإسناد، بشرط أن يكون الساقط واحدًا فقط، أما لو سقط أكثر من واحد فإنه يكون معضلًا.
وهذا أيضًا توسع غير مرضي، مثل رواية مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي ﷺ، فلو أسقط زيد أباه فرواه عن النبي ﷺ مباشرة، أو أسقط مالك زيدًا فرواه عن أسلم فإن أصحاب هذا القول يسمونه مرسلًا.
1 / 12
حكم العمل بالحديث المرسل
جاء في حكم العمل بالحديث المرسل تسعة أقوال، ونجملها في الأقوال الآتية: جمهور علماء الحديث كـ أحمد وابن المديني والقطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن معين: يرون الحديث المرسل ضعيفًا، وليس بحجة، وهو قول المحققين من أهل الحديث، كما رجح ذلك الإمام النووي؛ لأننا لا نعلم من سقط منه، وهل هو صحابي أو غيره، فإن كان صحابيًا فالحديث صحيح؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وإن كان غير صحابي فلا نعلم هل هو ضعيف أو ثقة؟ فلما نشأ هذا الاحتمال ضعف الحديث المرسل، ولم يعمل به؛ لأنه يحتمل أن يكون الساقط ضعيفًا، فيضعف الحديث.
ويرى الأحناف أنه يقبل مطلقًا إذا كان المرسل ثقة، وهي رواية عن أحمد وبعض المالكية، وحجتهم: أن من أسند فقد برئ.
وهذه قاعدة عند المحدثين، ولذلك ترى كثيرًا من العلماء عندما ينظرون في الكتب المتقدمة يقولون: هؤلاء قد برءوا ساحتهم، حتى ولو كان في كتبهم بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ لأنهم قد أسندوا ما يروونه، ومن أسند فقد برئ، ومن أسند فقد أحال، أي: أحالك على التعب والشقاء والبحث، حتى ترى هذا السند صحيح أم لا؟ إذًا: فهذا الراوي الثقة عندما أرسل عن النبي ﷺ فقد أراحك، وهو لم يسند ولم يحلك على غيره، وإنما قال لك: أنا أثق بأن رواية هذا الحديث صحيحة.
إذًا: فوجهة نظرهم: أنه لما أسقط فإنه قد تأكد من صحة الحديث، فحمل عنك هذا العناء، وقال لك تلميحًا: هذا الحديث صحيح، فخذه مني واعمل به.
فمن أسند فقد أحال وأتعبك في البحث، ولكن من أسقط وأعطاك وهو ثقة فهذه دلالة على أنه يعلم يقينًا أن هذا الحديث من الصحة بمكان.
القول الثالث: التفصيل، وفيه أقوال كثيرة، سنبينها ونجملها في أمرين: الأول: النظر إلى المرسل، والثاني: النظر إلى المرسَل، والمرسِل هو: الراوي، والمرسَل هو: المتن نفسه.
فقال العلماء: إذا كان المرسِل لا يرسل إلا عن ثقة فيؤخذ حديثه ويؤخذ بمرسله ويعمل به، وذلك كمراسيل ابن المسيب، وقد قال الشافعي: أحسن المراسيل بعد التتبع هي مراسيل سعيد بن المسيب، فقد كان لا يرسل إلا عن ثقة، فقد وجد بعد البحث والتتبع أنه لا يسقط إلا الثقات، فإذا كان المرسل بهذه الحال فيكون حديثه حجة.
وأما إن كان المرسِل لا يرسل عن ثقة فحديثه ليس بحجة، مثل الحسن البصري، قال فيه العلماء: مراسيله كالريح؛ لأنه كان يرسل عن الضعفاء والثقات، يأخذ من كل أحد، فمراسيله ضعيفة، وقد رجح هذا القول بعض الشافعية، وعليه تعقيب وتفصيل ليس هذا محله.
وأما من جهة النظر إلى المرسَل فقال العلماء: إنه يمكن العمل بالمرسل ويكون حجة، وذلك إذا جاء من طريق آخر مرسلًا غير الطريق الأول، وذلك مثل رواية ابن المسيب عن النبي ﷺ: (كل مولود مرتهن بعقيقته)، ورواية الشعبي أيضًا عن النبي ﷺ مرسلًا: (كل مولود مرتهن بعقيقته)، فيتفق هذا المرسل مع المرسل الأول، ويعضد كل منهما الآخر، فيحتج به؛ لأن العلماء يقولون: ضعيف مع ضعيف يتقوى أحدهما بالآخر، وكان بعض العلماء يضرب لطلبته مثلًا لذلك ويقول: لو أن أحدًا عنده في رجله أو يده ضعف مثلًا، وجاء رجل آخر عنده نفس الضعف في رجله أو يده، فأخذ هذا بيد الآخر فإن كلًا منهما يتقوى بصاحبه، ويسيرون معًا.
إذًا: إذا جاء المرسل من طريق آخر مرسلًا فإنه يكون حجة.
وهذا كلام الشافعي.
وقال أيضًا: إذا جاء من طريق آخر مسندًا فإنه أيضًا يقوي هذا المرسل، وهذا مأخوذ من كلام الشافعي، حيث قال: والمرسل حجة عندنا إذا جاء من طريق آخر من مخرج آخر أو جاء من رواية أخرى مسندة.
فإن قيل: ولم تأخذ بالمرسل وقد أغناك الله بالمسند، فلا عبرة أن تقول هذا تقوى بالمسند؛ لأن المسند فيه غنية -وهذا مأخذ جيد-؟ فنقول: تظهر ثمرة ذلك عند الترجيح في التعارض، فلو جاء مثلًا مرسل ومسند يقول: طلاق الحائض يقع، وجاء مسند آخر يقول: لا يقع، ولم يمكن الجمع بينهما، فإننا نلجأ إلى الترجيح بينهما بطرقه المعروفة، ومن هذه الطرق: الترجيح بكثرة الطرق.
وكذلك إذا عمل به جمع غفير من العلماء، أو كانت عليه فتوى العلماء، أو عمل به علماء العصر، فإذا عمل به علماء العصر غلب على الظن أنه مرفوع للنبي ﷺ.
فقال الشافعي: إن الحكم عندنا في المرسل لا الرد مطلقًا ولا القبول مطلقًا بل التفصيل؛ فننظر في المرسِل إن كان يرسل عن ثقات قبلناه، وإن كان لا يرسل عن ثقات كـ الحسن البصري فإنا لا نقبله، وأيضًا ننظر إلى المرسَل -المتن- فإن عضد بمتن آخر، أو جاء من طريق آخر أخذناه، أو كان له فتوى عالم من العلماء قبلناه أيضًا.
هذا هو التفصيل، وإذا أردنا الترجيح فلابد أولًا من التقعيد التفصيلي، ولا بد لطالب العلم أن يؤصل أولًا، حتى إذا أراد أن يخرج بعد ذلك فإنه يخرج على هذا التفصيل.
فنقول أولًا: كل مرسل ليس بحجة؛ لأنه قد اشترط العلماء في تصحيح الحديث أن يتصل إسناده، وهذا غير متصل، بل قد أسقط الراوي من روى عنه، ونحن لا نعلم أهو ثقة أو ضعيف؟ فإذًا: كل مرسل ليس بحجة، إلا إذا كان الذي أرسل لا يرسل إلا عن الثقات، وهذا ليس خاصًا بـ ابن المسيب، وإنما كل من أرسل عن الثقات فيؤخذ بإرساله، هذا هو الصحيح الراجح.
إذًا: كل مرسَل ضعيف، إلا إذا كان من أرسل لا يرسل إلا عن ثقة، أو اعتضد بغيره.
1 / 13
حكم مرسل الصحابي
وقد كان بعض الصحابة يرسلون الحديث، فقد جاء عن أبي هريرة ﵁ أنه قال: يقولون: أكثر أبو هريرة، والله الموعد، كان إخواننا من المهاجرين ينشغلون بالصفقة -أي: بالتجارة- وكان إخواننا من الأنصار ينشغلون بالزرع، وكنت أصحب رسول الله ﷺ على شبع بطني.
ويتصور الإرسال في صغار الصحابة كـ ابن عباس وابن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أرسلت عائشة نفسها حديث بداية الوحي؛ لأنها لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت، فقد جاء في الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن عائشة قالت: تزوجني الرسول ﷺ وأنا بنت ست سنين.
وقد تزوجها وهو في المدينة بعد الهجرة، وكان قد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، إذًا عائشة ﵂ وأرضاها قد أرسلت هذا الحديث عن النبي ﷺ.
وأيضًا ابن عباس أرسل حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) فإنه لما روجع فيه قال: سمعته من أسامة بن زيد، فأرسله عن النبي ﷺ.
وقد وردت أقوال عن أهل العلم في حكم مرسل الصحابي.
القول الأول: قالوا: يقبل مطلقًا.
القول الثاني: قالوا: هو وباقي المراسيل سواء.
القول الثالث: التفصيل: فإن كان ممن يأخذ عن التابعين، فمرسله لا يكون حجة حتى في الغيبيات، وهذا كـ ابن عباس فإنه كان يأخذ عن كعب الأحبار، وكـ عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يأخذ عن كثير من التابعين، وأما غيره فيكون حجة.
والراجح الصحيح في ذلك قولًا قاطعًا: أن مرسل الصحابي صحيح، وهو حجة؛ لأنهم كلهم عدول، وقد عدلهم الله من فوق سبع سماوات، وعدلهم رسوله ﷺ، فلا يحتاجون إلى التعديل، فمرسل الصحابي حجة بلا نزاع.
ونرد على من قال: إن مرسل الصحابي كباقي المراسيل بأن نقول: لا والله لا يستويان مثلًا ولا يشتركان في الفضل؛ لقول النبي ﷺ: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)، فهم من أهل الخيرية، وقد قال النبي ﷺ مبينًا لعظمة مكانتهم: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد)، وفي رواية في السنن بسند صحيح أن رسول الله ﷺ قال: (يغزو فئام من الناس فيقال لهم: أفيكم من صحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم.
-بلا قتال ولا شيء بل ببركة الصحبة مع أصحاب رسول الله ﷺ ثم يغزو فئام من الناس، -وهذا أيضًا في الفضل- فيقال لهم: أفيكم من صحب من صحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)، وقال كذلك في الثالثة.
فهذا فيه دلالة على فضل الصحابة على غيرهم، فإنهم لا يستوون مع غيرهم، فقد جاء تعديلهم من فوق سبع سماوات، وعلى لسان النبي ﷺ، فالصحابة كلهم عدول.
وأما قول القائل الذي قال: إنهم يأخذون عن التابعين، فهذا من الندرة بمكان، ولم يكن ابن عباس ولا عبد الله بن عمرو بن العاص يأخذون عنهم رواية عن النبي ﷺ؛ إذ الصحابة متوافرون، فكانوا يأخذون عنهم، ولم يكونوا ينزلون في السند، وعندهم العلو، إذ النزول مذموم إذا وجد العلو.
هذا هو الصحيح الراجح في ذلك.
1 / 14
الصبر على طلب العلم
إن طلب العلم شاق جدًا في بدايته، فينبغي على طالب العلم أن يصبر عليه ويصابر، ويظهر لله أنه صادق في طلبه، فإن فعل ذلك فتح الله عليه الفتوح التي لا يمكن أن تفتح على مثله، وإن صدق الله صدقه، وليشرب ماء زمزم كثيرًا على العلم، فقد شرب من هم أفضل منا جميعًا على طلب العلم، فمنحهم الله ما لم يتصوروا، فـ ابن حجر كان يقول: كنت آتي ماء زمزم - وهو يصحح حديث النبي ﷺ أن زمزم لما شرب له - وأشرب حتى أصل لحفظ الذهبي.
فكان فحلًا موسوعة في حفظ الحديث.
قال: شربت ماء زمزم لأصل لحفظ الذهبي، فما لبثت إلا أن تفوقت على حفظ الذهبي.
وأيضًا أبو بكر بن العربي قال: شربت كثيرًا ماء زمزم ليؤتيني الله الفقه والعلم، يعني: الفقه والحديث.
فآتاه الله ما طلب، فكان مفسرًا محدثًا بارعًا، فقال: وليتني تداركت الأمر أن أشرب ماء زمزم على العلم والعمل.
إذًا: فاصدق الله يصدقك، وكلما استيقنت في ربك آتاك الله ما تريد، وإن الله عند ظن عبده به، وأختم: لا تحسبن المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا وبعدها ستعرف الفرق الكبير بين مجلس العلم وبين مجلس الوعظ والتذكير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
1 / 15
التدليس في الحديث - صيغ أداء الحديث مع بيان حكم الحديث المعنعن
لأداء الحديث صيغ كثيرة عند المحدثين، منها: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وقال، وسمعت، وعن، وأن، ومن هذه الصيغ ما يدل على السماع من الشيخ، ومنها ما يدل على القراءة على الشيخ، ومنها ما يدل على الرواية بالإجازة، ومنها ما لا يدل على السماع كصيغة عن وأن، فإن كانت من مدلس لم تقبل، وإن كانت من غيره وأمكن اللقاء قبلت.
2 / 1
جهود المحدثين في تنقيح الأحاديث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع كتاب التدليس في الحديث للدكتور مسفر الدميني.
العلماء وضعوا القواعد والضوابط في علم الحديث ليميزوا قول النبي ﷺ من قول غيره، وكانوا يقمشون ثم ينقشون، أي: يجمعون الحديث ثم يحققون ويدققون هل هذا حديث النبي أو ليس بحديث النبي ﷺ، ولذلك وضعوا ضوابط وقواعد لمعرفة صحة الحديث.
وهذه الشروط وضعوها بالاستقراء وبالبحث والتنقيب، ومن أهم الشروط: اتصال السند، وهذا الكتاب برمته يتكلم عن مسألة اتصال السند والانقطاع وغير ذلك، وقد ذكرنا أن المرسل نوعان: مرسل مطلق ومرسل خفي.
واليوم إن شاء الله سوف نتكلم عن مسألة الحديث المعنعن، وصيغ التحمل والأداء.
والعلماء عندما نقحوا الأحاديث نظروا فقالوا: لابد أن نعلم هل هذا الحديث فيه اتصال أم فيه انقطاع، والاتصال معناه: أن التلميذ يروي مباشرة عن شيخه، فيقول: حدثني، أخبرني، أنبأني، حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، فإذا قال: حدثنا فهذه دلالة على أنه جلس في مجلس التحديث مع أقرانه الذين يسمعون من الشيخ.
أما إذا قال: حدثني، فيكون المحدث ذكر لطالب الحديث هذا الحديث وهو يجلس معه وحده، فحدثني أقوى من حدثنا؛ لأنه يكون أتقن وأوعى وأضبط، وممكن أن يقول للشيخ: تمهل علي، وأعد هذه الكلمة، لكن ما يستطيع في مجلس التحديث أن يوقفه ويقول: أعد علينا هذا الحديث، لكن لو كان وحده يستطيع أن يفعل ذلك كما فعل مالك ﵀، ففي يوم العيد الناس ينشغلون بما ينشغلون به من اللحم وإدخال السرور على الناس، أما مالك فذهب فتوسد عتبة باب الزهري، فرأته الخادمة فقالت لـ الزهري: عبدك الأبيض بالباب، فأخذ لحمًا وقال لها: أعطيه إياه، فأخذت اللحم وأعطته إياه، فقال: ما لهذا جئت؟ قالت: لم جئت؟ قال: هو يعرف لماذا جئت، فدخلت على الزهري فقال: أدخليه، فدخل مالك فجلس، فقال الزهري: ما تريد؟ قال: أريد حديث النبي، فسرد عليه حديثًا واحدًا، ثم قال: زدني، فسرد عليه الحديث الثاني، ثم قال: زدني، قال: كفاك، قال: لا والله لا يكفيني، زدني فأعطاه الثالث إلى أن بلغ العشرين حديثًا، فلما بلغ العشرين حديثًا قال: الآن قم، قال مالك: والله ما اكتفيت زدني، قال: بشرط، قال: وما شرطك؟ قال: ردد علي هذه الأحاديث، وتلك الأحاديث يرويها الزهري بإسناده مثلًا يقول: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: (إنما الولاء لمن أعتق) مثلًا، فهو يذكر السند سواء كان طبقتين أو ثلاثًا، فقال مالك -كأن الأحاديث بين عينيه مكتوبة-: أما حديثك الأول: فذكرته عن الشيخ الفلاني عن فلان عن النبي ﷺ، إلى أن سرد كل الأحاديث، فقام الزهري مدهشًا معجبًا بالإمام مالك فكافأه مكافأة عظيمة فقال: إنك من أوعية العلم، ارحل وليس لك شيء، فيبين له أن هذه الأحاديث ليس لأحد أن يأخذها بهذا الكم في هذا الوقت؛ ولذلك تعلم الإمام مالك من هذه القصة فقال: ضياع العلم أن تؤتيه لغير أهله؛ ولذلك نحن نقول: طالب العلم هو أخص الناس بعلم الحديث وعلم الفقه وعلم الأصول، طالب العلم لا بد أن يستغرق أوقاته ويجهد نفسه في تحصيل علم النبي ﷺ، فهو أحق الناس به.
2 / 2
الحديث المعنعن
قلنا: المحدثون يبحثون عن اتصال السند، وهل كل راو سمع من شيخه، فيقول مالك مثلًا: حدثني الزهري، والزهري يقول: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة يقول: حدثني أبو هريرة، وأبو هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ، ثم بعد ذلك جاء النساخ فيذكرون هذا الحديث هكذا: مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، فوقف المحدثون وقفة عظيمة وقالوا: نحن لجناب حديث النبي ﷺ لا بد أن نغربل أحاديث النبي ﷺ، لنعلم صحيحها من سقيمها، فقالوا: الآن عندنا حدثنا وحدثني وأخبرنا وأخبرني، وهذه صيغ اتفقت كلمة أهل العلم على أنها تدل على السماع، وإن كان بعضهم يخالف في مسألة أنبأني، لكن الصحيح الراجح أنها تحمل على السماع، وجاءت صيغ أخرى من صيغ الأداء فالعلماء بحثوا فيها هل هي على الاتصال أم هي على الانقطاع؟ وهذه هي صيغ العنعنة، ولذلك علماء المصطلح يفردون بابًا فيقولون: الحديث المعنعن، فما معنى الحديث المعنعن؟ وما حكم الحديث المعنعن؟
2 / 3
صورة الحديث المعنعن
صورة الحديث المعنعن: أن يقول مالك في الموطأ: عن نافع، ونافع هذا رجل فارسي كان فحلًا في علم الفقه، عن ابن عمر، وهذه سلسلة ذهبية كما قال البخاري، قالوا: ولا أنبل من الشافعي وهو يروي عن مالك، فتزيد حلقة من الذهب أيضًا: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، قالوا: ولا أحد أنبل من أحمد بن حنبل وهو يروي عن الشافعي، وفي المسند ثلاثة عشر حديثًا بهذه السلسلة: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر.
فعلماء الحديث ينظرون هل مالك سمع من نافع أم لا؟ وهل نافع سمع من ابن عمر أم لا؟ وهذا البحث والتنقيب ليتحقق شرط من شروط صحة الحديث.
قال بعض العلماء: (عن) تحمل على الاتصال، وقال بعضهم: لا تحمل على الاتصال، بل يحمل على الاتصال حدثنا أو أخبرنا وهو لم يقل: حدثنا ولا أخبرنا.
مثال آخر للعنعنة: رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله، هذه الروايات هي أشهر السلسة، يقول حماد: عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله، فهنا العنعنة أيضًا ينظر ويقف أمامها المحدثون هل سمع أم لم يسمع؟ نأتي إلى سلسلة أخرى مثلًا: عبد الرزاق عن معمر بن راشد عن أنس.
مثال آخر للعنعنة: عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، أو معمر عن الزهري عن أنس.
إذًا: صورة الحديث المعنعن أن يروي الراوي عن شيخه المباشر له بصيغة (عن)، فيقف المحدثون أمام هذا الحديث الذي فيه العنعنة وليس فيه تصريح بالتحديث، هل هذا الحديث يكون صحيحًا أو يكون ضعيفًا؟ وهل ينسب للنبي ﷺ أو لا ينسب إلى النبي ﷺ؟ والثمرة من معرفة المعنعن: أنك إذا علمت أن هذا الحديث متصل علمت أن شرطًا من شروط الصحة قد توافر، وإن قلت: فيه انقطاع، فيكون شرط من شروط الصحة لم يتوافر، فيكون الحديث ضعيفًا.
2 / 4
حكم الحديث المعنعن
صيغة (عن) ليست تصريحًا بالسماع، وهي تحتمل السماع، فيحتمل أن نافعًا سمعه من ابن عمر وأتى بهذه الصيغة، ويحتمل عدم السماع، وأنه قد سمعه من تلميذ ابن عمر ثم أسقط هذا التلميذ وأتى بهذه الصيغة (عن).
والمحدثون لهم في حكم المعنعن أربعة أقوال: القول الأول: المنع من قبولها مطلقًا، قالوا: تحمل هذه الصيغة على الانقطاع، ولا يصح أن نقبل حديثًا عن النبي ﷺ بإسناد إلا وفيه التصريح بالسماع، قال شعبة: كل حديث ليس فيه حدثنا ولا أخبرنا فهو خل وبقل.
وهذا تشدد مرفوض؛ لأنه سيضيع علينا كثير من أحاديث النبي ﷺ.
القول الثاني: قول أبي المظفر السمعاني قال: تقبل العنعنة بشروط: الشرط الأول: ألا يكون الراوي مدلسًا.
الشرط الثاني: أن يثبت لقاء التلميذ مع الشيخ.
الشرط الثالث: طول الصحبة.
وهذا تشدد؛ إذ لا يمكن لكل محقق أن يثبت طول الصحبة أو ينفيها.
القول الثالث: قول البخاري جبل الحفظ أمير المؤمنين في الحديث شمس الحديث التي أشرقت على الدنيا فانهال الخير عليها بهذه الشمس، يقول: يشترط في قبول الحديث المعنعن ثلاثة شروط: الشرط الأول: ألا يكون الراوي مدلسًا.
الشرط الثاني: المعاصرة.
الشرط الثالث: ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة.
فمثلًا: حبيب بن أبي ثابت يروي عن عروة بن الزبير عن عائشة ﵂ وأرضاها، فإذا ثبت أن حبيب بن أبي ثابت التقى مع عروة بن الزبير مرة واحدة فنقبل عنعنته، وإلا لم نقبلها؛ لأنه يحتمل أنه أرسل عنه إرسالًا خفيًا ولم يسمع منه، وإمكان اللقيا تعرف بالسن وتعرف بالبلد، فينظر سنة وفاة هذا، وسنة ولادة هذا، وأيضًا: حبيب بن أبي ثابت كوفي، وقد ثبت أن عروة دخل الكوفة، فإذا دخل عروة الكوفة فلا يبعد أن يذهب إليه حبيب وهو يعلم من عروة الذي انتشر اسمه وسط كل المحدثين، وهو الذي وقف عند الكعبة يدعو الله أن يأخذ عنه الناس علم حديث النبي ﷺ.
وقد تثبت اللقيا بالقصة كما قال الرواي عن عمران بن حصين: رأيت عمران بن حصين يرتدي قميصًا صفته كذا.
فهذا القول الثالث هو قول فحول أهل الحديث، قول البخاري وقول شيخه علي بن المديني، والقول الأول الذي فيه تشديد هو قول الشافعي مع شعبة، فـ الشافعي صرح بذلك في الرسالة.
القول الرابع: قول الإمام مسلم وهو الاكتفاء بالمعاصرة، فإن عنعن الراوي الذي لا يدلس عن شيخ معاصر له فإنه يقبل حديثه، وقد اشتد نكيره على البخاري في اشتراطه ثبوت اللقاء.
فإذا روى سعيد بن المسيب عن عمر، وسعيد بن المسيب ليس مدلسًا، وأتى بصيغة (عن) التي تحتمل السماع، فعلى القول الأول لا يقبل حديثه، وعلى القول الثاني: لا يقبل حديثه أيضًا؛ لأنه لم يثبت أن سعيدًا أطال مصاحبة عمر، وعلى القول الثالث: يقبل حديثه؛ لأنه ثبت أن سعيدًا حضر خطبة عمر، وعلى القول الرابع: أيضًا يقبل حديثه؛ لأنه عاصره، وإن لم يثبت أنه التقى به.
إذًا: قول الإمام مسلم أسهل الأقوال الأربعة، وهو أن الحديث المعنعن يحمل على الاتصال بشروط ثلاثة: الأول: عدم الاتهام بالتدليس.
الثاني: أن يكون التلميذ قد عاصر شيخه.
الثالث: إمكان اللقاء في الرحلة وغيرها.
2 / 5