بسم الله الرحمن الرحيم
يا من التحفظ بذكره كافٍ عن كفاية المتحفظِ، والتلفظ بشكره إلى بدايته تنتهي نهاية المتلفظ، إذ القصور عن إدراك التخلق به قصارى كل عالمٍ، بشهادةٍ لا نُحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، في محامد سيد العوالم، صل وسلم على سيدنا ومولانا محمدٍ المخصوص بجوامع الكلم في جميع اللغات، المؤيد على سيدنا ومولانا محمدٍ المخصوص بجوامع الكلم في جميع اللغات، المؤيد بالمعجز العظيم، الجامع لإحكام الأحكام والحكم البالغات، وعلى آله وصحابته المستمدين من فيض سحابته، وبعد:
فهذا شرح تقر بتقرير تحريره عيون العيون، وتنشرح بتحرير تقريره صدور الصدور، ويستخرج كامل الغوص من عباب قاموس الرائق، من عقد صحاح جوهره المحكم الفائق، ما فيه غنية الفصيح المهذب في الورود والصدور، استخرت الله تعالى، وضبطت فيه ما يحتاج إليه المتلفظ من ألفاظ المختصر الموسوم بـ «كفاية المتحفظ»، بعد ما سألنيه جماعة من الأصحاب الجهابذة، الذين تكررت قراءتهم إياه كغيره عليّ، وطائفة من الشيوخ الأساتذة الذين كانوا يستندون في أمثاله من العلوم اللسانية إليّ، فلم يمكني إلا جبر خواطرهم بالمقابلة بالامتثال، والمساعفة بالمبادرة إلى جمع ما راموه من تقييد ما هو كالشرح لذلك الكتاب العزيز المثال، فجمعت لهم ما تاقت إليه أنفسهم
1 / 33
الأبية من تلك التحارير، وأضفت إليها من اللطائف الأدبية ما تتحلى بقلائد طرفه نحور النحارير، سائلًا من بحر كرم الله السائل، وفضله المبذول لكل قاصد وسائل، المأمول لتحصيل المقاصد وتوصيل الوسائل، أن يجعله من الذخائر المرجو نفعها في الدنيا والآخرة، والأعمال التي لا تنقطع بصيرورة الأجسام العظام عظامًا نخرة، وأن يعم بالنفع السائل والمسؤول، ويبلغ الجميع منا [غاية] السول، وأن يرزقنا الإخلاص فيه، وفي غيره من الأعمال، ويبلغنا بمحض فضله وكرمه جميع الآمال.
ولما اتسقت في سمط المصنفات الغريبة جواهره، وتألفت في أفق المؤلفات العجيبة زواهره، وتألقت في رياض التحقيقات أزاهره، خدمت به خزانة المولى، التي خلقت للرغبة في أنواع العلوم ذاته، وجعلت، في تحصيل عوارف المعارف طيباته ولذاته، وتوجهت همته الوجيهة إلى إدراك كل غريب، وفاق بين أرباب المناصب الشرعية في ذلك كل غريب، مولى الموالي، باتفاق الموالي والموالي، أقضى قضاة الزمان، وأجمعهم للمناقب، التي انتظمت له انتظام النجم الثاقب، فضلًا عن عقود الجمان:
علم إلى حلم إلى كرمٍ إلى ... عرفان أرباب المعارف والألى
وشريف أخلاق وأعراقٍ وأعـ ... ـلاق تجل عن العلا وعن العلا
ومناصب شرعية موروثة ... مبثوثة في الفرع عن أصل علا
ودقائق وحقائقٍ لا تنتهي ... غاياتها في كل تحقيقٍ إلى
1 / 34
فوحدة الوجود، ووجود الوحدة من دقائقه، ووجدان الجود، وجود الجود من دقائقه، فلا يقف عن بغية المعارف، التي يقف دونه فيها كل واقف عارف، فالانتساب إليه من جميع العوارض عاصم، لأنه أعظم المعاقل وأعصم المعاصم، والانسياب إلى حوزه سدته العلية، التي هي صون عن وصم الواصم، أغنى ما يدخره المنساب إلى سدة، وأعنى ما يعده الأنجاب إلى عدة أو عدة، لأنه يغنى عن العواظم والعواصم، مولانا العلم المفرد «جلبى زاده أفندي اسماعيل عاصم»:
أدام الله رفعته وأبقى ... علاها في علو وارتقاء
وأسمى قدره في كل أرضٍ ... سمو البدر في أفق السماء
ولا زال ملحوظًا بعين العناية، محفوظًا بواقية الوقاية:
من قال آمين أبقى الله مهجته ... لأن هذا دعاءٌ يشمل البشرا
كيف لا، وهو الذي عمت نعمه السوابغ ما بين الروم والحجاز، وبلغت آيات كرمه دلائل الإعجاز، وعجزت عن إدراك كمالاته الحقيقة والمجاز، فهو الجدير بأن تهدى تحف العلوم إليه، وتقصر الآمال العلمية عليه، ولعله يتلقاها بالقبول والإقبال فيحصل الحبر من ذلك الجبر لكسير البال، والله المسؤول أن يجعل إشاعته في ميزانه الراجح، وإذاعة النفع به في الأقطار من سعيه الناجح، بمنه وكرمه آمين:
آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أضيف إليها ألف آمينا
1 / 35
[شرح مقدمة كفاية المتحفظ]
وقد ابتدأ المصنف - رحمه الله تعالى - كغيره من المصنفين تبركًا بالتسمية، وتيمنًا بالبسملة السمية، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بكتاب الله تعالى المجمع على ابتدائه بالتسمية، وإن وقع الخلاف بين الأئمة في كونها آية من الفاتحة، كما هو رأي الشافعي - رحمه الله تعالى - أم لا، كما هو رأي باقي الأئمة ﵃ وعملًا بما رواه الخطيب في الجامع وغيره من قوله ﷺ: «كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر». وقد اشتهر الكلام على البسملة ومباحثها في أول كل مصنف، ومبادئ كل مؤلف، فأغنانا ذلك عن تتبعها واستقراء ما يتعلق بها، إذ ليست مقصودنا في هذا المؤلف، وقد استوعبنا غالب ما يتعلق بها من المطالب، وأحطنا بما تقر به من ذلك عين الطالب في كتابنا الموسوم بـ «سمط الفرائد فيما يتعلق بالبسملة والصلاة من الفوائد»، فمن رام التوسعة في ذلك فليراجعه هنالك.
ويوجد في بعض النسخ الصحيحة، (يقول العبد الفقيد إلى الله تعالى ابراهيم بن اسماعيل الأطرابلسي المعروف بابن الأجدابي عفا الله عنه)،
1 / 36
أقول - مستمدًا من واهب العقول، - يقول مضارع قال الواوي، ومصدره القول، وهوموضوع لتحكى به الجمل أو ما في معناها كما في كتب العربية، والمحكي هنا قوله بعد الحمد لله رب العالمين ... الخ: «الكتاب».
و«العبد»: الإنسان، حرًا كان أو مملوكًا كما في القاموس وغيره، وله اثنان وعشرون جمعًا، مجموعة في قول ابن مالك:
عباد عبيد جمع عبدٍ، وأعبد ... أعابد معبوداء معبدة عبد
كذلك عبدان وعبدان أثبتا ... كذاك العبدى وامدد إن شئت أن تمد
وقول السيوطي:
وقد زيد أعباد عبود عبدة ... وخففت بفتح، والعبدان إن تشد
وأعبدة عبدون ثمت بعدها ... عبيدون معبودا بقصرٍ فخذ تسد
وقول شيخنا أبي محمد الفارسي:
وما ندسًا وازى، كذاك معابدٌ ... بذين تفي عشرين واثنين إن تعد
1 / 37
ويقال له «العبد» بزيادة اللام أيضًا، وقدمه لأنه أشرف أوصاف الإنسان عند الله تعالى، ولذلك قال: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾، ﴿واذكر عبدنا﴾ و﴿نعم العبد﴾ وغير ذلك، وقال:
لا تدعني إلا بـ «يا عبدها» ... فإنه أشرف أسمائي
نسأل الله تعالى أن يحققنا بوصف العبودية له، ويجعلنا من المتسربلين بجلابيبها بجاه محمد وآله. و«الفقير»، المحتاج المضطر غاية الاضطرار، والفقر بالفتح والضم، والافتقار: الحاجة وعدم الغنى، وقد اختلفوا في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال حققتها في شرح نظم الفصيح وشرح القاموس وغيره. والفعل منه افتقر، وفقر كفرح وكرم، ومن هذا الثلاثي بناء قولهم: ما أفقره، وهو أفقر من زيد، لا من افتقر كما توهمه جمع من النحويين، وزعموا أنه شاذ، وقد بسطته في حواشي التوضيح، وشرح الكافية الكبرى، وشرح نظم الفصيح وغيرها بما لا مزيد عليه.
ووصف العبد بالفقر إظهارًا لكمال العبودية والاحتياج إلى الله تعالى، واستشعارًا لقوله تعالى: ﴿يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد﴾. وابراهيم اسمه، وهو بدل من العبد، وذكر اسمه أولًا للتحريض
1 / 38
على الاعتناء بكتابه، والاشتغال به، لأن العلوم النقلية المحضة، ومنها علوم اللغة تتوقف على معرفة الناقل، والإحاطة بأحواله، وكونه ثقة وهو إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الله الأطرابلسي، المعروف كما قال: بابن الأجدابي، كأنه نسبه إلى «أجدابية» بالفتح، وهي قرية عظيمة من بلاد أفريقية، قريبة إلى برقة، بينها وبين أطرابس نحو خمس عشرة مرحلة، وفيها آثار الأبنية العظيمة، والقصور الجسيمة، ورأيت من ضبطه في نسب المصنف بالذال المعجمة، وما إخاله إلا تصحيفًا، وكنيته أبو إسحق، وكان من صدور المائة السابعة وأئمتها الأعلام، أثنى عليه المجد اللغوي في بعض تصانيفه، وذكره الجلال السيوطي في البغية، ووصفه بالجلالة في العربية، واعتنى بهذا المختصر جمع من الأئمة المقتدى بهم واعتمدوه، وأكثر من النقل عنه الحافظ الثقة أحمد الفيومي في كتابه «المصباح المنير»، والإمام كمال الدين الدميري في «حياة الحيوان»، وغيرهما، وعدلوه بالمصنفات الكبار، كالصحاح والتهذيب والمجمل ونحوها، وربما اختار كلامه في المصباح عليهم أحيانًا، واعتنى بخدمته الإمام الأديب البارع قاضي الحرم، جمال الدين محمد بن أحمد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد الطبري، فنظمه في نحو ألف وثلاثمائة بيت نظمًا حلوا، على ارتكاب أوهام، وبعد أفهام. ومدحه
1 / 39
الفقيه الأديب العلامة جمال الدين علي بن صالح العدوي، فأجاد حيث قال:
من كان يطلب في الغريب وسيلةً ... من شاعرٍ أو كاتب متلفظ
أو كان يبغي في الكلام بلاغةٌ ... فليحفظن كفاية المتحفظ
وشهرته بين أهل الفن كافية، وإن كانت فيه مواضع تفتقر إلى ضبط، وكذلك تشكل مطالعته على غير المهرة بالفن، وقوله: عفا الله عنه، أي تجاوز عنه، وصفح عن سيئاته، جملة دعائية، اختارها اتهامًا للنفس، وتحذيرًا من دسائسها التي تسري إليها بالتأليف، كأنه عد تأليفه لهذا الكتاب مما يسأل لأجله العفو والصفح، حتى لا يحصل للنفس بالتصدي لذلك نوع افتخار واستكبار، والله أعلم.
ثم ثنى بالحمدلة، جمعًا بين الروايتين، واغتنامًا للبركتين، فقال: (الحمد لله رب العالمين) مؤثرًا للجملة الاسمية على الفعلية، ليوافق ابتداء الكتاب العزيز، الذي هو أفصح الكلام وأبلغه، ولذلك ختمه بـ «رب العالمين» حتى تتم الموافقة، وتكمل البركة، ولما في الجملة الاسمية من الدلالة على الثبوت والدوام، وقدم لفظ الحمد باعتبار أن المقام يقتضي أهمية تقديمه، وإن كان لفظ الجلالة أهم في نفسه كما ذهب إليه الزمخشري ومن وافقه من المحققين والحمد لغةً: الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل، سواء أكان في مقابلة نعمة أم لا، والفرق بينه وبين الشكر، وكذلك النسب الستة التي بينهما مما اشتهر بين الطلاب، وحشي به أوائل كل كتاب، فلا حاجة
1 / 40
إلى التطويل والإسهاب. والفعل منه: حمد، بالكسر. يحمد كسمع، حمدًا، ومحمدًا ومحمدًا [ومحمدة] ومحمدةً. وأحمد: صار أمره إلى الحمد، أو فعل ما يحمد عليه، قاله في القاموس، وقد أوردته وأشبعت الكلام عليه في شرح نظم الفصيح. د
و«الله»: علم على ذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، دال عليه تعالى دلالة جامعة لمعاني أسمائه الحسنى كلها، ما علم منها وما لم يعلم، ولذلك يقال في كل اسم من أسمائه الكريمة: هو من أسماء الله ولا ينعكس، وقد أوضحت الفرق بينه وبين الإله في «شرح نظم الفصيح»، وصححت الفرق بينهما لفظًا ومعنى، ونقلت كلام ابن مالك في شرح التسهيل، وكلام شارح اللب، على صحة التفرقة، ورددت ما أجمله الشمني في حواشي المغني من الميل إلى موافقتهما، بما لا يزيد عليه، وأشرت هنالك إلى الخلاف في كونه مشتقًا، كما هو مذهب علماء الأدب والاشتقاق، أو غير مشتق كما هو الأصح من مذهب الجمهور، وعلى القول باشتقاقه، هل مشتق من أله، أو من وله، أو من لاه يلوه، أو من لاه يليه، أو من غير ذلك من الأقوال التي استقصيتها في «سمط الفرائد»، وأوردت في اشتقاقه نيفًا وثلاثين قولًا، وبينت أن اقتصار المجد الشيرازي في «المباسيط» على عشرين قولًا قصور، وأن تبجحه بذلك في القاموس وغيره من كتبه غير
1 / 41
جارٍ على قوانين المتبجح باستقصاء غرائب الأمور، وصححت أنه علم غير مشتق كما هو قول أكثر أئمة المحققين من الأصوليين والفقهاء. والله أعلم.
و«الرب»: في الأصل معناه التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، ثم وصف به للمبالغة كالعدل، وهو نعت من ربه يربه فهو رب، كما قالوا نمة ينمه فهو نم، ثم سمي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويريبه، كما أشار إليه الزمخشري والبيضاوي والتفتازاني وغيرهم. قالوا: ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدًا نحو: ﴿ارجع إلى ربك﴾. ويطلق الرب بمعنى الملك، والسيد، والمبعود، والمالك، والخالق، والمربي، والقائم بالأمور، والمصلح لما يفسد منها، ومستحق الشيء، وصاحبه، قاله ابن عطية في تفسيره، وذكر مثله عياض، وابن الأثير وغيرهم. قال ابن عطية: وهذه الإطلاقات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق هو رب الأرباب على كل جهة، وهو الله تعالى. ووقع في القاموس: الرب باللام لا يطلق لغير الله ﷿، وقد يخفف. قلت: التخفيف، مع انفراده به لا يدرى مرجعه، وقد ناقشته في حواشيه، وأشرت له في شرح نظم الفصيح وغيره، ولجواز إطلاق الرب على هذه المعاني كلها، وصحة معناها في وصف الله تعالى، حسن إيثار وصف الجلالة به دون المالك ونحوه، كما نبه عليه
1 / 42
ابن كمال باشا في تفسيره. وما أشرنا إليه من جواز إطلاق «رب» نكرة ومقيدًا على غيره ﷾ كرب الدار ونحوه، هو الذي عليه الجمهور، وبحث فيه الطيبي في حواشي الكشاف وشرح المشكاة وغيرهما، قائلًا: إنه لا يجوز إطلاقه على غير الله مطلقًا، واستدل لذلك بحديث الصحيحين عن أبي هريرة: «لا يقل أحدكم ربي، وليقل سيدي ومولاي». وأما قول يوسف ﵇ فهو ملحق بقوله تعالى: ﴿وخروا له سجدًا﴾، من الاختصاص بزمانه. وأجيب عنه بوجوه مذكورة في حواشي الكشاف والبيضاوي وغيرهما من المطولات التي لسنا بصدد التنزل لها.
و«العالمين»: جمع عالم بفتح اللام، وهو اسم لما يعلم به الشيء كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع، سبحانه، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجبة لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب للعقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم، هذا هو الذي صدر في «معالم التنزيل»، وحكى غيره من الأقوال بـ «قليل»، وصدر في الكشاف بأن العالم
1 / 43
اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، ثم ثنى بما ذكره في المعالم، ووجه جمعيته بما أشير إليه من الشمول، وكونها بالياء والنون مع عدم العلمية والوصفية بأنه إنما ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم. وها هنا في حواشيهما أبحادث نفيسة، أعرضنا عنها خشية الطول، والذي جزم به ابن مالك وقال إنه التحقيق، هو كون العالم اسم جمع محمولًا على الجمع، لأنه لو كان جمعًا لعالم لزم أن يكون المفرد أوسع دلالة من الجمع، لأن العالم اسم لما سوى الله تعالى، والعالمين خاص بالعقلاء. قلت: الظاهر الذي يثلج له الصدر أن العالم له في كلامهم استعمالان، فتارةً يطلقونه بمعنى ما سوى الله تعالى كما هو إطلاق المتكلمين والمناطقة، وتارةً يطلقونه على بعض أصناف الموجودات، وأجناسها كما يقال عالم الملائكة، وعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم البنات وغير ذلك، وإنما يقصدون إلى جمعه على هذا الاستعمال الثاني، وعليه فلا يكون المفرد أوسع دائرة من جمعه كما يقوله ابن مالك ﵀ لاختلاف المجموع، ويؤيده ما ورد في الأخبار المأثورة من الخلاف في أعداد العوالم، فقيل: لله تعالى ألف عالم، وقيل: ثمانية عشر ألف عالم، وقيل: أربعون ألف عالم، وقيل: ثمانون ألف عالم، وقيل: مائة ألف عالم، وقيل غير ذلك. قال كعب الأحبار: لا يحصى عدد العالمين إلا الله، ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾. وقد بسطها «الثعلبي» في تفسيره، والسيوطي في «الدر» وغيره، ونقل
1 / 44
بعض ذلك «الملاخسرو» وغيرهم من المفسرين، فمثل هذه الآثار تدل على تعدد العالم واستعماله بمعنى آخر غير ما أراده ابن مالك، وإن كان هو الجاري على الألسنة، ولا سيما بين المتكلمين والمناطقة والحكماء، والله أعلم.
ولما حاز الفضيلتين، وجمع بركة التسميتين، وعمل بمقتضى الروايتين ثلث بخاتمة البركتين فقال: (وصلى الله على محمد خاتم النبيين) مقتفيًا أثر السلف في ابتدائهم كتبهم وخطبهم بعد البسملة والحمد لله بالصلاة على النبي ﷺ، لما في ذلك من الفوائد المهمة التي حليت بجواهرها معاطف كتابنا «سمط الفرائد»، وألممت ببعضها في «شرح نظم الفصيح»، إذ الصلاة على النبي ﷺ لها فوائد يكل دونها الحساب، ولا يحيط بها قرطاس ولا كتاب، والمتعلق منها بالابتداء أمور:
منها ما ورد من قوله ﷺ: «كل كلام لا يذكر الله تعالى فيه، فيبدأ به وبالصلاة عليَّ فهو أقطع ممحوق من كل بركة» أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس»، وأبو موسى المديني، والخليلي،
1 / 45
والرهاوي في «الأربعين» وغيرهم. قال الحافظ السخاوي: وسنده ضعيف، وهو في «فوائد ابن منده» بلفظ «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله ثم بالصلاة عليَّ فهو أقطع أكتع»، وقد أشبعت عليه الكلام في «السمط»، ورقيته إلى درجة السحن، وبينت أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال وغير ذلك.
ومنها: امتثال قوله تعالى: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾، وقد تقرر أن الأصل في الأمر الوجوب، ويخلص منه المكلف بالمرة الواحدة إذا لم يعين له حد، ثم يبقى الطلب على جهة الاستحباب على ما بين في الأصول.
وفي أمره تعالى بها عقب قوله: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي﴾ من شرفها ومزيتها وعظم قدره ﷺ عند ربه مال اتفي به العبارات، ولا تستوفيه الاعتبارات، كما ألممت بغالب أسرار ذلك في «شرح القصيدة المضربة في الصلاة على خير البرية».
ومنها: القيام بشكر الوسائط جمعًا بين الشريعة والحقيقة، إذ حمده تعالى على نعمائه وشكره على جزيل آلائه حقيقة: ﴿وما بكم من نعمةٍ فيمن الله﴾، لكن جاء الشرع بشكر الوسائط أيضًا، إذ «من لم يشكر الناس لم يشكر الله»، والنبي ﷺ هو الواسطة العظمى للعباد في
1 / 46
كل خير ديني أو دنيوي، وجميع النعم الواصلة إليهم التي أعظمها الهداية إلى الإيمان - إنما هي ببركته ﷺ.
ومنها: اغتنام بعض ما ورد في الصلاة عليه من الفضائل والأمور التي لا حصر لها كما تدل له الآية السابقة، والأحاديث الصحيحة الشهيرة، وغير ذلك مما أوضحته في «السمط» وزدته إيضاحًا في، «شرح المضرية»
وآثر هنا الجملة الفعلية لما فيها من الدلالة على التجدد والموافقة للقرآن، لأنه وقع فيه التعبير بالفعل المضارع والأمر كما مر، وآثر الماضوية إما لتحقق الوقوع كما هو المشهور في الجمل الدعائية مثل: ﵀، ورضي عنه وهو الظاهر، وذلك هو نكتة إقامة الماضي مقام المضارع، أو لأن الماضي في مثل هذا المقام ليس معناه الانقطاع، بل الاستمرار نظير «كان الله غفورًا رحيما» وأمثاله. فليس المراد الإخبار عن شيء انقطع، بل المراد ثبوت ذلك الوصف له مطلقًا في الماضي والمستقبل، أي: ولا يزال كذلك كما اختاره القرافي. والجملة معطوفة على التي قبلها، لأن عطف الفعلية على الاسمية وعكسه جائز على الأصح، ولا سيما إذا قلنا بإنشائهما على ما هو مختار المحققين، كما أوضحته وبسطته في السمط. ومعنى «صلى الله على محمد»: زاده أثرة وتشريفًا وتعظيمًا، إذ ليس المراد من الصلاة عليه ﷺ أصل معناها الذي هو الرقة والرحمة والعطف والحنو كما ذكره السهيلي في الروض الأنف، وعلل به تعديتها بـ «على» وبسطته في
1 / 47
السمط، بل المراد الزيادة في مراتبه العالية، ومقاماته السامية كما أشار إليه أبو بكر القشيري وغيره من المحققين، وأومأ إليه أبو العالية. وقد خفي أصل معنى الصلاة على كثيرين، فوقعوا في مجازفة بلا تحقيق، وموهوا بأنواع المخالفة عن غير تدقيق، وقد استوفيت ذلك كله في «السمط»، وزدته إيضاحًا في «شرح المضرية»، واستقصيت الأقوال في معنى الصلاة، وأوردت ما شاع على الألسنة من أنها من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن العباد دعاء، وأن ابن هشام في المغني بعد ذلك من جهات مبحوث فيها، وأن أصل ما أورده للسهيلي في نتائج الفكر، وغير ذلك من الأبحاث الشريفة والنكت اللطيفة وقد قال المجد كالجوهري، والسعد في «التلويح» وغيرهم: إن المصدر من صلى: صلاة، قالوا: ولا يقال تصلية، وتمالأ على ذلك جمع من اللغويين والفقهاء والمحدثين، حتى قال الشيخ أبو عبد الله الحطاب في شرح المختصر عن بعض الشافعية: إنه حذر من استعمال لفظ التصلية بدل الصلاة، وقال: إنه موقع في الكفر لمن تأمله، لأن التصلية الإحراق، ثم نقل عن العلاء الكناني المالكي مثله، بل بالغ في الإنكار حتى قال: إن العرب لم تفه بذلك قط، ولا قالت في الصلاة بمعنى الدعاء أو الشرعية، أو على النبي ﷺ تصلية، وإنما يقولون صلاة خاصة، وقد رده شيخ
1 / 48
شيوخنا العلامة أبو العباس قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الخفاجي، ولهج بإبطاله في كتبه المشهورة، واعترضه في شرح الشفا وحواشي البيضاوي وشفاء الغليل وغيرها، وقال: إن هذه المقالة دعوى باطلة، درايةً وروايةً. واحتج لذلك سماعًا وقياسًا، أما السماع فما أنشده ابن عبد ربه في العقد، وثعلب في الأمالي، والمبرد في الكامل من الشعر القديم وهو:
تركت المدام وعزف الغناء ... وأدمنت تصليةً وابتهالا
ونقله الزوزني في مصادره الفارسية، والقياس لا خفاء في اقتضائه له على ما قرر في مبادئ الصرف، وقد أوردت ذلك مبسوطًا مستطيلًا في «سمط الفرائد»، وأشرت إليه في شرح نظم الفصيح، وأوضحت القول فيه في شرح المضرية وغيرها بما لا مزيد عليه.
والذي اختاره وأميل إليه أن لفظ التصلية على ثبوته ووروده ينبغي اجتنابه لما فيه من الإيهام، والقاتل: إنه لا يقال تصلية، كأنه يريد في الاستعمال الفصيح المشهور المتداول، فلا ينافي وجوده في الأمالي الثعلبية والعقد والكامل ونحوها. وأما الحكم على مستعمله بالكفر فلا شك أنه أبعد من بعيد، كيف وقد وقع التعبير به في كلام الأكابر، كالنسائي، وابن المقري وغيرهما. نعم، إذا تكلم به من يتهم في دينه ولا يعتد بإيمانه فلا
1 / 49
شك أنه يزجر وينسب للكفر والنفاق وغيره لاحتمال أنه يريد معنى الإحراق، كما قيل في: ﴿لا تقولوا راعنا﴾ كما لا يخفى، والله أعلم.
ولكون الصلاة بمعنى أرق الرحمة، وأتم العطف، وأكمل الحنو - عدوها بـ «على» كما يعدى به العطف والحنو في قولهم: حنوت عليه، وعطفت عليه، قال السهيلي في الروض الأنف: الصلاة أصلها انحناء وانعطاف في الصلوين، وهما عرقان في الظهر إلى الفخذ، ثم قالوا: صلى عليه، أي: انحنى عليه رحمة، ثم سموا الرحمة حنوًا وصلاة إذا أرادوا المبالغة فيها، فقولك: «صلى الله على محمد» أرق وأبلغ من قولك: «رحم الله محمدا»، قال: ولذا لا تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الإطلاق، لا تقول: صليت على العدو، أي: دعوت عليه، إنما يقال: صليت عليه، في معنى الحنو والرحمة والتعطف، لأنها في الأصل انعطاف، ولذا عديت بـ على، وأطال في تقرير ذلك، ورد القول بأنها بمعنى مطلق الدعاء فقط، قال: وأكثر أهل اللغة لم يفرقوا، ولكن قالوا: الصلاة بمعنى الدعاء إطلاقًا. وقد نقلت كلامه في «السمط» مستوفى، وأوضحته بما لا مزيد عليه، وأشرت إليه في «شرح المضرية»، وأيدته بتحقيقات نقلية وعقلية. و«على» متعلق بـ «صلى».
«ومحمد»: علم على نبينا ﷺ، منقول من اسم مفعول المضاعف، ومعناه لغةً: من كثرت محامده، وهو أبلغ من محمود، لأنه من الثلاثي، ألهم الله تعالى عبد المطلب جد نبينا محمد ﷺ تسميته بذلك، ليطابق اسمه صفته، لأنه محمود في السماء والأرض، وقيل
1 / 50
لجده لما سماه بذلك: لم عدلت عن أسماء آبائك؟ فقال: ليكون محمودًا في الأرض والسماء، فحقق الله تعالى رجاءه، وكان ﷺ كذلك، فهو ﷺ أجل حامد، وأفضل محمود، وهو أحمد الحامدين، وأحمد المحمودين، ومعه لواء الحمد، يبعثه ربه هنالك مقامًا محمودا، يحمده فيه الأولون والآخرون، ويفتح عليه بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وأمته الحامدون، يحمدون الله في السراء والضراء، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وكذلك خطبه وخطبهم ومصاحفهم، وقد أشرت لغير هذه الوجوه في «شرح الفصيح»، واستوفيت ذلك في «السمط».
ثم وصفه بما وصفه الله تعالى به في القرآن العظيم من كونه «خاتم النبيين»، سيرًا على جادة الأدب، لأن وصفه بما وصفه الله به مع ما فيه من المتابعة التي لا يرضى ﷺ بسواها، فيه اعتراف بالعجز عن ابتداع وصفٍ من الواصف يبلغ به حقيقة مدحه ﵊، ولذا تجد الأكابر يتقصرون في ذكره ﵇ على ما وردت به الشرعة الطاهرة، كتابًا وسنةً دون اختراع عبارات من عندهم في الغالب، وفيه كمال التسوية في ارتكاب النوع البديعي، الذي هو الاقتباس في كل منهما، حيث اقتبس الأولى برمتها من أول الفاتحة، واقتبس خاتمة هذه من سورة الأحزاب والله أعلم.
«والخاتم» بكسر المثناة على صيغة اسم الفاعل، كما قرأ به الجمهور، معناه: آخر الأنبياء الذين ختمهم، وبفتحها، كما هي قراءة عاصم، معناه:
1 / 51
الذي ختم الأنبياء به كما في جمهور التفاسير، وقال ابن الأعرابي: إن كلا من الخاتم والخاتم من أسمائة ﷺ. قال ثعلب: فالخاتم: الذي ختم الأنباء به، والخاتم: أحسن الأنبياء خلقًا وخلقًا، ونقله عياض في «المشارق» مقتصرًا عليه. وزعم المجد الشيرازي أن كلا من الخاتم والخاتم معناه الآخر مطلقًا كالخاتمة، ولهج بذلك في القاموس وشرح البخاري وغيره من مصنفاته، ولي في ذلك أبحاث أبديتها فيما كتبته على القاموس وغيره.
و«النبيين» جمع نبي، وهو إنسان أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ كما في كتب الكلام، وهل هو مشتق من «النبأ» بمعنى الخبر، أو من «النبوة» وهي الرفعة، أو من «نبأ»: إذا خرج من أرض إلى أرض، لخروجه من مكة إلى المدينة أو غير ذلك، من أقوال بسطتها في غير هذا المحل، وأشرت إليها في «المسط» وغيره، وأوضحت أن المهموز يجوز تسهيله تخفيفًا، لا لأن التسهيل لغته ﷺ كما ظنه البدر الزركشي مستدلًا بحديث تأوله الجوهري والصاغاني، ورد صحته الحفاظ الموثوق بضبطهم، خلافًا لما يوهمه الحاكم في المستدرك من كونه على شرط الصحيحين، بل لاقتضاء
1 / 52