153

البحث الرابع:

الجنوب والشمال على نوعين: مطلق ومضاف. فالجنوب المطلق هو ما مال عن خط الاستواء إلى جهة القطب الذي يقرب منه سهيل، وليست العمارة في هذه الجهة كما في الجهة الشمالية، فإن العمارة تنتهي في هذه الجهة إلى ستة عشر درجة من خط الاستواء، ومع ذلك فهذه العمارة ليست هي عمارة يعتد بها بل هي جزائر وفيها أناس * شبيه (256) بالحيوانات الغير ناطقة في خلقهم * وأخلاقهم (257) ، والمضاف * هي (258) كل بقعة تلي * القطب (259) الجنوبي. والشمال المطلق * هو (260) ما مال * عن (261) خط الاستواء إلى جهة القطب الذي يقرب منه PageVW5P135B الدب الأكبر والأصغر، وفي هذه الجهة الأقاليم السبعة، والمضاف كل بقعة تلي القطب الشمالي. ولنبسط القول في هذا الموضع فنقول: الأرض كرية الشكل، وكذلك الفلك وهو متحرك من المشرق إلى المغرب على قطبين ثابتين من جهة الشمال والجنوب وهما طرفا المحور وهو خط في وسط الكرة يمر بمركز الأرض؛ وإن السماء مقسومة بدائرة عظيمة بنصفين من المشرق إلى المغرب بعدها عن القطبين على * السواء (262) تسمى معدل النهار لأن الشمس إذا وصلت إليها اعتدل الليل والنهار في جميع المعمورة، والموضع الموازي لهذه الدائرة من الأرض يسمى خط الاستواء؛ ثم * إن (263) هذه الدائرة تقسمها دائرة أخرى بنفصفين من الشمال إلى الجنوب تسمى دائرة نصف الهنار تمر بالقطبين، فتنقسم الأرض أربعة ارباع، اثنان جنوبيان واثنان شماليان، وأحد الشماليين * والجنوبيين (264) لا عمارة فيه البتة بل هما * معموران (265) بالماء. والربع الآخر الشمالي تنتهي العمارة فيه إلى ست * وستين (266) درجة من خط الاستواء إلى القطب الشمالي وفيه الأقاليم السبعة، وبعد ذلك لا عمارة فيه البتة، وذلك لاستيلاء البرد. والربع الآخر الجنوبي تنتهي العمارة فيه إلى * ست (267) عشر درجة من خط الاستواء على ما عرفت؛ ثم إن الشمس تحدث بحركتها الخاصة دائرة أخرى تسمى دائرة البروج تقاطع معدل النهار بنصفين على وراب، وقطبا هذه الدائرة موضعا التقاطع وأحد هذين التقاطعين عند رأس الحمل والآخر عند أول الميزان، وتمر هذه الدائرة في الشمال برأس السرطان وفي الجنوب برأس الجدي، وعلى هذا التقدير تكون الشمس مسامتة * لخط (268) الاستواء في السنة مرتين: أحدهما عند كونها في رأس الحمل، وثانيهما في أول الميزان غير أنه لا يدوم مسامتها، ولا تبعد عن ذلك بعدا كثيرا، * ويكون (269) كل فصل في هذه البقعة خمسة وأربعين يوما، فتكون الفصول * هناك (270) متضاعفة، ويلزم من هذا أن يكون * هواء (271) هذه البقعة متشابها دائما.

البحث الخامس:

لقائل أن يقول لم قال أبقراط الجنوب يحدث ثقلا، ولم لا قال الرياح الجنوبية تحدث كذا وكذا؟ نقول: وذلك ليندرج في ذلك البلاد الجنوبية غير أن الفرق بين ما تحدثه الرياح وبين ما تحدثه البلاد أن الأول يكون حصول ما يحصل منه * بعد (272) أن لم تكن، والثاني دائم الحصول. واعلم أن الرياح الجنوبية تسمى الرياح * البيض (273) ، وذلك لوجهين: أحدهما لإحداثها الصحو، وذلك لأنها بحرارتها تذيب السحب * وتحللها (274) فيبيض الجو؛ وثانيهما أنها متى هبت كثر البيض في الدجاج، وهذه الرياح الغالب عليها في الأكثر الحرارة والرطوبة. أما الحرارة فثلاثة أوجه: أحدها أنها * تهب (275) من جهة خط الاستواء الذي تسامته * الشمس (276) في PageVW1P076A السنة مرتين فيكون الهواء الآتي من هذه الجهة حارا؛ وثانيها قرب الشمس من هذه الجهة، وذلك لأنها عند كونها في الحضيض تكون في غاية القرب من الأرض * وحضيضها (277) الآن في الأبراج الجنوبية، وحين ما تكون قريبة من الأرض تكون أعظم في الروية فيكون نورها عند كونها * لذلك (278) أعظم وأكثر، * وذلك (279) موجب PageVW5P136A لقوة الحر. والحرارة متى كانت قوية بقي منها بقية في المادة المتصعدة * بها (280) فلذلك كانت الرياح الجنوبية حارة؛ وثالثها ستعرف أن هذه الرياح تستصحب أبخرة كثيرة، وقد علمت أن الأبخرة مسخنة مرطبة. وأما الرطوبة فلأن هذه الجهة كثيرة البخار وهي مما ترطب الهواء لوجهين: أحدهما من جهة مرورة بها، وثانيهما من جهة البخار المنفصل منها المخالط له. وقولنا في الرياح الجنوبية إنها كذلك في الأكثر، وذلك لأنه قد يكون بلد جنوبي يليه جبال ثالجة ومياة * جامدة (281) فتكون * الرياح (282) الجنوبية الهابة بهذا البلد باردة يابسة، وقد تكثر الرياح الجنوبية في الصيف * مع (283) كون الشمس شمالية، وذلك لأن الرياح الشمالية تنقل إلى جهة الجنوب * رطوبات (284) لأنها تمر أولا بالبحر فترطب تلك الأرض وتعدها اللتدخين والتبخير، وحينئذ تحصل عنها الرياح. وقد تقل الجنوبية في الشتاء مع كون الشمس جنوبية، وذلك لقوة الشمس هناك فتلطف المادة وتحللها قبل الوصول إلينا لبعد المسافة.

البحث السادس

في اقتضاء الجنوب: لما ذكره الجنوب سواء كان هواء أو بلدا فهو مسخن مرطب، * فبتسخينه (285) يخلخل الدماغ ويوسع مسامه، * وبترطيبه (286) يرخيه ويهيئ الحرارة للنفوذ ويترتب على ذلك * تكدر (287) جوهر الروح وتغليظ قوامه. وقد ثبت في * التشريح (288) أن أعصاب الحركة الإرادية والحواس نابتة منه فتتكدر الأرواح النافذة في هذه الآلات. وأيضا فإن * هذه (289) بحرارتها ورطوبتها تبخر في البدن أبخرة كثيرة. والدماغ موضوع في أعلى * البنية (290) ، والأبخرة بطبعها طالبة * للأعالي (291) . والدماغ مع كونه كذلك جرمه متخلخل ومزاجه رطب فهو قابل لما يرد عليه، ومتى ارتفعت الأبخرة إليه كدرت أرواحه وغلظت * قوامها (292) . إذا عرفت هذا فنقول مما ذكرنا * يعلم (293) كيفية حدوث ما ذكره الإمام أبقراط من الجنوب. أما ثقل * الرأس (294) فلاستيلاء الرطوبة عليه وكثرة ما يرتفع إليه من الأبخرة. وأما ثقل السمع فلغلظ جوهر * الروح (295) الحامل للقوة السامعة ولاسترخاء الأعصاب الحاملة لها. وأما غشاوة البصر فلذلك أيضا. وأما الكسل وهو العجز عن الحركات فلاتسرخاء الأعصاب المحركة للأعضاء. وأما الاسترخاء وهو ثقل الأعضاء وعجز * الطبيعة (296) عن إقلالها فسببه ابتلال الأعضاء والعضلات وضعف القوة المحركة عن تحريك * الأعضاء (297) . فإن قيل ما الفائدة في قوله «ثقلا في السمع وغشاوة في البصر» ثم ذكر * الرأس (298) ولم لا اقتصر على ذكر السمع والبصر وترك ذكر الرأس أو بالعكس؟ فنقول الآفات الحاصلة للسمع والبصر على نوعين: خاصة بهما وحاصلة لهما بواسطة حصولها للرأس. * والفرق (299) بين ذلك بعموم الآفة وخصوصتها وهو أنه متى كانت الآفة من القبيل الأول كانت خاصة ومتى كانت من القبيل الثاني كانت عامة، وآفة الحاستين المذكورتين في هذه الصورة حصولها بواسطة حصولها في الرأس، فلذلك ذكرهما ثم ذكر الدماغ ليعلم PageVW5P136B أن الآفة فيهما لا فيه لأن هذه الرياح بذاتها وهو مبدأ الحواس في المبدأ متى تضرر تضرر ما ينشأ ويتفرع منه.

البحث السابع

في قوله «فعند قوة هذه الريح * وغلبتها (300) تعرض للمرضى هذه الأعراض»: لقائل أن يقول هذا الكلام فيه نظر من وجوه أربعة: أحدها لم خصص الريح بالذكر دون البلد الجنوبي؟؛ وثانيها هذه الأمور المذكور الحادثة عن الجنوب تعرض للأصحاء وللمرضى، وإذا كان كذلك فلم خصص ذكر ذلك بالمرضي دون الأصحاء؟؛ وثالثها لم سمي ما يحدث عن الجنوب أعراضا ولم لا * سماها (301) أمراضا أو دلائل؟؛ ورابعها المستفاد من الجنوب كيفيتان مجردتان، والكيفيات المجردة لا تقدر على إيجاب ما ذكره من الأعراض. فنقول الجواب عن الأول قد أشرنا إليه وهو أن نقول إنما خصص الريح بالذكر دون البلد، وذلك لأن الحادث عن البلاد الجنوبية مستمر لا اختلاف فيه * فيكون (302) ما يحدث عنها دائما، * وإذا (303) كان الحاصل من هذه بعد أن لم تكن فإنما يكون عن الريح فقط، فلذلك قال «فعند غلبة هذه الريح يتوقع * للمرضى (304) هذه الأعراض». والجواب عن الثاني: الأمور المذكورة الحاصلة عن الجنوب تحدث للأصحاء وللمرضى غير أن حصولها للمرضى أكثر وأظهر، وذلك لاستعدادهم لحصولها فلذلك خصص ذكر ذلك * بالمرضى (305) . والجواب * عن (306) الثالث: لما كان أكثر عروض ذلك للمرضى والعارض للأمراض تسميته بالأعراض أولى من يسميته بالأمراض والدلائل. أما الأول فلأنها عارضة للأمراض والعارض للأمراض أعراض بالإضافة إليها. وأما * الثاني (307) فلأن الدلائل تعم ما يعرض للأصحاء والمرضى. وقد علمت أن أكثر ما يعرض من الجنوب من الأمور المذكورة للمرضى لاستعدادهم لا للأصحاء وما يعرض للمرضى يسمى * أعراضا (308) . وقد علمت أن قوانين الطب أكثرية * فسمى (309) ما يحدث عنها باسم الأكثري الحدوث وهي الأعراض. والجواب عن الرابع: الكيفيات المجردة وإن كانت عاجزة عن إحداث ما ذكره غير أنها * تولد (310) في المستعدين مادة موجبة لذلك.

البحث الثامن:

هذه الاعراض التي ذكرها * الإمام (311) أبقراط قد تحصل عن الرياح المذكورة وقد تحصل عن طبيعة المرض. فإن كان حصولها عن الأول فتكون عامة، وإن كان عن الثاني فلا يكون كذلك. فبهذا يفرق بين ما إذا كانت الأعراض المذكورة حاصلة عن الجنوب وبين ما إذا كانت حاصلة عن طبيعة المرض. * والله (312) أعلم.

ناپیژندل شوی مخ