242

شرح فتح المجيد للغنيمان

شرح فتح المجيد للغنيمان

ژانرونه

مخاطبة الناس بما يناسب حالهم
بعث معاذ ﵁ كان في آخر حياة النبي ﷺ، وبعث معاذًا معلمًا وداعيًا ونائبًا عنه في الحكم وإبلاغ الرسالة التي أرسل بها إلى أهل الأرض، وقال له: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب) يعني: في اليمن.
ولا يعني ذلك أن أهل اليمن من أهل الكتاب كلهم، ولكن فيهم أهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى، وأكثرهم ليسوا منهم، بل هم أهل أوثان من العرب، يعبدون الأوثان، ولكنه نبهه إلى أن مخاطبة أهل الكتاب وكلامهم ليس كمخاطبة الجهال أهل الأوثان الذين ليس عندهم علم، فهؤلاء قد تكون عندهم شبه ومجادلات، فنبهه لذلك ليستعد لما عساهم أن يلقوه عليه من الشبه، أو يجادلوه في علوم قد يكون منها ما هو مأخوذ من كتب الله السابقة.
هذا هو السر في قوله ﷺ: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب) يعني: لتستعد لذلك، وتعد نفسك وتتهيأ، ويكون عندك ما تستطيع أن تجيبهم به.
ثم إن هذا يدلنا أن مخاطبة الناس ليست سواء، وكل الإنسان يخاطب بما يناسبه، ولا يخاطبون خطابًا واحدًا؛ لأن بعضهم قد يكون -مثلًا- عنده علوم وأفكار ليست عند الأخرين، والآخر لا يصل إلى هذا، ويخاطب هذا بما يناسبه وهذا بما يناسبه.
ثم قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله)، وهم أهل كتاب، ومعلوم أن أهل الكتاب الذين هم اليهود -خصوصًا- ما كانوا يعبدون أوثانًا، بل كانوا يعيبون على العرب ذلك، وكان يهود المدينة يقولون للعرب: آن وقت نبي سيبعث نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم، لأنكم كفرة أصحاب أوثان.
ولكن الله يمن على من يشاء، ولما بعث النبي ﷺ آمن به أصحاب الأوثان وكفر به أصحاب العلم الذين يتوعدونهم، وذلك لأنهم ما كانوا يظنون أنه من العرب، فقد كانوا يظنون أنه يبعث منهم، فلما بعث من العرب حسدوه وأبغضوه، وتركوا الحق من أجل الحسد والبغضاء.
وهذا يدلنا على أن العلم ليس كل شيء، فإن الإنسان قد يكون عالمًا ويكون ضالًا على علم، إما لحسد وإما لمنافع معينة يريد أن يتحصل عليها من رئاسات أو أموال أو غير ذلك، وهذه معروفة، وعلل الناس التي يتعللون بها لكونهم لا يتبعون الحق إما لأنه يخالف أهواءهم، أو لأنه يمنعهم من شهواتهم، كما قال أحد النصارى لما قيل له: لماذا لا تسلم وتترك النصرانية لأنها ضلال، ولأن في دينك ما يلزمك باتباع محمد ﷺ؟ فقال: كيف أسلم وأترك شرب الخمر وأنتم في دينكم تحريم الخمر؟ لا أستطيع.
وقيل لنصراني آخر: لماذا لا تُسلم وتَسلم من عذاب جهنم وما يترتب على كفرك وبقائك على دينك الفاسد؟ فقال: أنا محتاج إلى الأموال، وأقاربي يعطونني الأموال، ولو أسلمت لمنعوني ذلك.
وكذا علل الناس من هذا القبيل.
ومنهم من يمنعه الملك، مثل ما منع هرقل ملك الروم لما جاءه كتاب رسول الله ﷺ وعلم أنه الحق؛ لأنه تيقن وقال: والله لو أستطيع لأتيته ولغسلت نعليه ولحملتها، والله إن كان ما تقوله الحق -يقوله لصاحب الكتاب الذي جاء به- ليملكن ما تحت قدمي هاتين.
وهو على سرير ملكه.
يقسم ويحلف، ثم بعد ذلك أمر بمن عنده بأن يخرجوا، وأمر بالأبواب التي تصل إليه أن تغلق وتوصد، وأمر بقواده وكبرائه أن يوضعوا في مكان قريب منه ولكن لا يصلون إليه.
فلما فعلوا ذلك قال: هل لكم في السعادة؟ هل لكم في الرشد والهدى؟ فقالوا: وما هو؟ قال: نتبع هذا النبي.
فأسرعوا ذاهبين إلى الأبواب يريدون أن يقتلوه، فوجدوها موصدة، ثم قال: ردوهم عليّ، فلما ردوهم عليه قال: إنما قلت ما قلت لأختبر دينكم وصلابتكم فيه، وقد رضيت منكم بذلك ونحن على ديننا.
أي أنه اختبرهم ليرى ماذا لو أسلم هل يبقى على ملكه ويتركونه أو لا يتركونه، فلما رأى أنهم لا يتركونه بقي على كفره معتاضًا به عن الإسلام.
ومنهم من رضي باتباع العادات واتباع ما وجد عليه قومه وما وجد عليه أبناء جنسه، وهذا هو الذي منع كثيرًا من المشركين، ومنهم عم رسول الله ﷺ أبو طالب، فإنه لما دعاه قال: لولا أن أجر على أشياخي وكبرائي مسبة لاتبعتك وانقدت لقولك.
والمسبة التي يزعمها هي أنه يحكم عليهم بالضلال؛ لأنهم كانوا يعبدون الأوثان.
فالمقصود أنه ليس من كان عالمًا يلزم أن يكون مهتديًا، بل كثيرٌ ممن يكون عالمًا يكون ضالًا على علم، ولهذا يقول علماء التفسير في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:٦ - ٧] لما ذكروا عن النبي ﷺ أنه أخبر أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين هم النصارى؛ لأن النصارى يتعبدون على جهل فضلوا، وأما اليهود فهم أهل عناد وتكبر وأهل علم قال العلماء: من ضل من علمائنا فهو شبيه باليهود، ومن ضل من عبادنا فهو شبيه بالنصارى.

22 / 3