197

شرح فتح المجيد للغنيمان

شرح فتح المجيد للغنيمان

ژانرونه

ثمرة العلم
[الخامسة عشر: ثمرة هذا العلم وهو عدم الاغترار بالكثير].
يعني أن ثمرة هذا العلم -الذي هو مقصود هذا الحديث- ألا يغتر الإنسان بالكثرة؛ لأن فيه أن أكثر الناس هالكون، وأن كثيرًا من الأنبياء لا يأتي إلا معه رهط -أي: عشرة فأقل- وقد يأتي وليس معه إلا رجل أو رجلان، فإبراهيم ﵇ ما آمن له إلا لوط، وهو خليل الرحمن، ولوط ابن عمه، ثم أرسل لوط إلى هذه القرى التي كفرت به، وهكذا كثير من الرسل ما يكون معه إلا قلة، وأكثر الخلق كافرون، مع أنَّ كفرهم ما هو كفر جحود بالله جل وعلا بحيث لا يعرفونه، ولكن عنادًا وتكبرًا واتباعًا لما تهواه الأنفس، ولهذا قوم صالح تبين لهم الحق تمامًا وجاءهم ما طلبوا حيث اقترحوا على نبيهم أن يخرج لهم ناقة من الجبل تكفيهم كلهم إذا أرادوا شرب الحليب منها، فلما أخذ مواثيقهم على ذلك خرجت الناقة من الجبل، وصارت كما أرادوا، ثم إن بعض الكفرة منهم تقاسموا بالله وتعاهدوا بالله على قتله، وهذا يدل على أنهم يؤمنون بالله، ويعرفون أن الله هو الذي يدبر الكون كله، وهو الذي يصرف الأمور كله، قال تعالى: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل:٤٩]، فتعاهدوا وتعاقدوا على ذلك، فحصل ما حصل من عقرهم الناقة ومحاولتهم قتل صالح ﵇، فجاءتهم الكارثة التي أهلكتهم.
فالمقصود أنه ليس كفر الكافرين لأنه خفي عليهم معرفة الله جل وعلا، ولكنه عناد وتكبر، ولهذا لما قيل لـ أبي جهل: أكنتم تتهمون محمدًا ﷺ بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: والله لقد عرفناه بالأمين في شبابه، ولا يمكن إذا خطه الشيب أن يذهب يكذب على الله جل وعلا.
فقيل له: ولماذا لا تؤمنون به وتتبعونه؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، أطعموا فأطعمنا، وأكرموا فأكرمنا، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، ومتى يكون لنا ذلك؟ والله لا نؤمن به أبدًا.
هكذا الحسد الذي يمنع أكثر الناس.
ولهذا يقول العلماء: إن غالب الكفر هو كفر الجحود والعناد، أو كفر الإعراض، وليس كفرًا لخفاء دليل وتعمية الأمر؛ لأن الرسل كلهم جاؤوا بالبينات الواضحات التي لا تبقي للإنسان شكًا في أنهم رسل من عند الله جل وعلا، أما الإعراض فنعم، وكفر الإعراض كثير، وذلك لأن الإنسان يعرض عن النظر فيما جاء به الرسول والتفكر فيه، مثلما وقع لبني عبد يا ليل الذين أتى إليهم الرسول ﷺ وكانوا ثلاثة، وذلك بعد أن لم يجد إجابة قريش له، واشتدوا عليه، وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما توفي تسلطوا عليه أكثر، وخرج إلى الطائف لعله يجد من يستجيب له ويناصره، فكان أول من لقي ثلاثة إخوة هم بنو عبد يا ليل، فدعاهم إلى الله جل وعلا، وقال لهم: إني رسول الله جئت بكتابه، وإنه من آواني ونصرني فله الجنة.
فقال له أحدهم: هو يسرق أستار الكعبة إن كان الله أرسلك.
أي: أنه سارق ثياب الكعبة إن كنت رسولًا.
فهو تكذيب مباشر بدون نظر، أما الآخر فجاء بأمر أعظم من هذا استهزاء وسخرية وقال: ما وجد الله أحدًا غيرك يرسله؟! وأما الثالث فقال له: والله لا أكلمك كلمة، لئن كنت رسولًا فأنا أحقر من أرد عليك شيئًا، ولئن كنت كاذبًا فلأنت أحقر من أكذبك.
فهذا الإعراض لأن الرسول ﷺ جاء بالآيات الباهرات البينات الواضحات، وإذا نظرت بعقلك وفكرت تبين لك أنه رسول أو غير رسول، ومعلوم أن الإنسان إذا قال: أنا رسول الله فإما أن يكون هو أبر الناس وأصدقهم، أو أفجر الناس وأكذبهم، وهل يلتبس أكذب الناس بأصدق الناس؟ أبدًا.
ولا يمكن هذا؛ لأن الكاذب يتبين من وجهه وحاله ومنطقه وعمله وكل ما يحيط به، لهذا عبد الله بن سلام ﵁ لما قدم رسول الله ﷺ إلى المدينة قال: وأتيت إليه ورأيت وجهه فعلمت أن وجهه وجه الصادق، وأنه لا يكذب.
فقبل أن يتكلم، ومنذ رأى وجهه علم أن وجهه وجه صادق لا يكذب، فالذي يعرض معناه أنه يصرف نظره وفكره عما جاءت به الرسل، وهذا في الواقع كفر بالله جل وعلا وإعراض عن دينه وعن رسله، وهذا يقع كثيرًا، واليوم كفر الناس أكثره من هذا القبيل، فأكثر كفر الكافرين اليوم بالإعراض، فلا يتأملون كتاب الله وآيات رسوله ﷺ التي جاء بها، بل يعرضون عن سماع ذلك بآذانهم ورؤيته بأعينهم، ويحاولون أن يصدوا الناس عن الإيمان به بكل ما يستطيعون، كل ذلك عنادًا من العالمين واستكبارًا، وأكثرهم معرض لا يتبين له ذلك، والذين يسمعون ويشاهدون تعرض عليهم أمور مزيفة، أمور في الواقع مشوهة، أمور الإسلام والمسلمين تشوه لديهم، فيصدقون ذلك ويتبعونه، وهذا من الإعراض، ولا يجوز أن يفعلوا هذا، ويجب عليهم أن ينظروا؛ لأن الله أعطاهم عقولًا، وأعطاهم أفكارًا وأنظارًا، فلماذا تعطل العقول والأفكار والأنظار؟ ثم يتبعون سادتهم وكبراءهم ولن يغنوا عنهم شيئًا.

18 / 15