شرح ديوان المتنبي
شرح ديوان المتنبي
ژانرونه
1
أخرجه بعد شرحي ديوان حسان الذي أخرجته في العام الماضي، ورآه القراء وعرفوا من مقدمته ما كابدت فيه، وفي الحق: إني لم أعان في المتنبي ما عانيت في حسان - على بعد ما بينهما - وذلك أن المتنبي رب المعاني الدقاق - كما قال - فللذهن في شعره جولان، وما دام هناك ذهن يلفف، وذوق يستدق، وملكة بيانية، وبصر بمذاهب الشعر: أمكن إدراك ما يترامى إليه مثل المتنبي، ولو بشيء من الجهد اللذ، والتعب المريح، ذلك إلى أن المتنبي مخدوم، وشروحه متوافرة، ومادته زاخرة، فكان شرحه لذلك يكاد يكون هينا لينا، لا إرهاق فيه لخاطر، ولا إعنات لروية.
وهنا قد يبدو لك أن تقول: وإذا كان المتنبي مخدوما وشروحه متوافرة - كما تزعم - فعلام هذا الشرح، وما حاجتنا إليه؟ فعلى رسلك يا هذا. فالمتنبي وإن كانت شروحه كثيرة إلا أنها كثرة قلة؛ ذلك أن المتنبي وإن كان من حسن حظه أن شرحه وعلق عليه، ونقده وتعصب له وعليه، نيف وخمسون أديبا، بيد أن المتداول من شروحه إنما هو العكبري والواحدي واليازجي حسب. أما الواحدي: فلأنه لم يطبع إلا في أوربة وفي الهند فقط، كانت لذلك نسخة قليلة التداول في أيدي الناطقين بالضاد لندرته وغلاء ثمنه، ومن ثم كان في حكم غير المتداول. ثم هو - الواحدي - ومثله العكبري كلاهما موضوع ذلك الوضع الخلق البالي العقيم - بعثرة الأبيات وإثبات البيت ثم شرحه، وهكذا دواليك - وضع لا يتفق ومزاج هذا الجيل، ولا سيما من يبتغي حفظ الديوان واستظهاره، هذا إلى التحريف الكثير الذي ألم بالواحدي والعكبري معا، وهنا لا يسع المرء إلا أن يأسف كل الأسف وتتقطع نفسه حسرات جراء ذلك الداء الخبيث العياء الذي ألم - ولا يزال يلم - بالمطبوعات العربية - داء التصحيف والتحريف - حتى لا يكاد يسلم منه كتاب عربي، فذهب بجمال التواليف وشوه خلقها، وصار بها إلى حيث تنبو عنها الأحداق، وتتجافى عن قراءتها الأذواق، ويتخاذل الذهن، ويتراجع الفكر، ولست أدري: ما مصدر هذا الداء، ولا من تقع عليه تبعة هذا الجرم: هل هو الناسخ؟ - بل الماسخ - [ولقد حاولت - أخيرا - أن أنسخ رسالة في سرقات المتنبي بدار الكتب المصرية، وكلفت أحد الناسخين في تلك الدار بنسخها، ولما أتم نقل الكراسة الأولى ذهبت إليه وأخذنا نقابل ما نسخ على الأصل، فوجدت الأصل لا يكاد يوجد فيه بيت صحيح، ووجدت ما نسخ منه ضغثا على إبالة ... فما كان إلا أن انصرفت نفسي عن المسألة برمتها] ... أم هو الطابع وجهله وتهاونه؟!
ولقد لقيت الألاقي في تصحيح «بروفات» - أو تجارب - المتنبي، ومن قبله حسان، حتى لا أكون مغاليا إذا قلت: إن الجهد الذي يبذل في سبيل التأليف أهون على المرء من الجهد الذي يقاسى في سبيل التصحيح.
وتصور مقدار ما يعرو الإنسان من المضض والامتعاض حين يرى الكتاب - بعد هذا العناء الذي يبذل في التصحيح - لم يسلم من الأغاليط، ولا تنس أن المؤلف قد لا يفطن إلى الخطإ المطبعي أثناء التصحيح ويمر به مرا، وعذره في ذلك واضح: وهو أنه إنما يقرأ ما في ذهنه، لا ما هو بين عينيه، ومن هنا كان له - للمؤلف - هو الآخر نصيب من هذا الخطأ وإن كان عذره في ذلك قائما ...
أقول: إن عيب الواحدي والعكبري هو ما ذكرت: وضع لا يتفق وروح العصر، وتحريف كثير شائع في الكتابين، ذلك إلى هفوات تلحق كلا على حدته، وقصور أو تقصير أو إقصار يلم بساحته؛ فإذا أردت أن تجتزئ بالعكبري - مثلا - وتستغني به عن غيره فإنه لا يغني كل الغناء، وكذلك الواحدي، ويزيد الواحدي على العكبري أنه لا يحفل بتفسير المفردات ولا بالإعراب، وبأنه لا يفسر كثيرا من الأبيات، فكأنه موضوع للمنتهين، ولذلك لا يؤاتي الشادين. أما اليازجي أو اليازجيان - الشيخ ناصيف وابنه الشيخ إبراهيم - فهما - على فضلهما الذي لا ينكر، وعلى ما طنطن به الثاني في ذيل الشرح، مما قد يخرج منه القارئ وهو مفعم يقينا بأن هذا الشرح هو سيد الشروح، وهو وحده الشرح الذي طبق المفصل وأصاب مقطع الحق وأوفى على الغاية، أقول: إنهما - على الرغم من ذلك - يصدق عليهما قول الواحدي في ابن جني: وأما ابن جني فإنه من الكبار في صنعة الإعراب والتصريف، والمحسنين في كل واحد منهما بالتصنيف، غير أنه إذا تكلم في المعاني تبلد حماره، ولج به عثاره ... نعم، وحسبك أن ترجع إلى ما قالاه - أي اليازجيان - في شرح هذا البيت على انسجامه ووضوحه وروعته:
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب
فكل بعيد الهم فيها معذب
قالا: يذم الدنيا. يعني أنها دار شقاء حتى إن من لا هم له لا يخلو فيها من العذاب، فما الظن بصاحب الهموم؟! ولست أدري: كيف لم يفطنا إلى معنى هذا البيت وهو من الوضوح والجلاء، كما ترى؟ ... على أنهما - في شرحهما عامة، لا في شرح هذا البيت - لم يحيدا عن الواحدي والعكبري قيد أنملة؛ فهما عمدتاهما، وعليهما معولهما، فإذا هما حاولا أن يتفصيا منهما، ويستقلا بالشرح دونهما، ويأتيا بشيء من عندهما: زلت قدماهما، وكبا جواداهما، أو تبلد حماراهما، ووقعا في مثل ما وقعا في هذا البيت ...
ذلك: إلى أن القسم الذي تولى شرحه الشيخ ناصيف قصر فيه ومرض ولم يتعرض لشرح المعاني، وإنما اقتصر على شرح المفردات، وإلى أنهما - اليازجيين - تركا كثيرا من شعر المتنبي الذي يريان فيه خمشا لوجه الأدب، وإلى أنهما لم يتعرضا لسرقات المتنبي وذكر الأشباه والنظائر أصلا، وهذه مزية من المزايا قد وفيناها حقها في هذا الشرح ...
ناپیژندل شوی مخ