شرح ديوان المتنبي
شرح ديوان المتنبي
ژانرونه
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
ولو أنه كان يطلب المال لأعطاه كافور فوق ما أعطاه، ألوفا مؤلفة، ونحسب أن كافورا لم يدر بذهنه أن يقطعه هذا الذي يريد، وإن كان يعده ويمطله فذلك شيء من التلطف والمداجاة، وقال بعض الشراح: إنه قال لأبي الطيب: «أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة، فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك؟» ولا نخاله قال ذلك، وإن كان من السهل أن يفكر فيه، ويقول بعض الشراح أيضا: إن كافورا كان ينوي إقطاعه ما يريد، وقد حلف له بذلك، ولكن أمورا بدرت من الشاعر لم تلق رضاه، منها: أنه ذكر سواده في قصائده، وكان كافور يكره ذلك غاية الكراهة، ولا نظن ذلك سببا معقولا، فقد ذكر الشاعر سواد الممدوح في مواضع طرب لها كافور واهتز لها، وكان ذلك منذ أول عهد الشاعر بمدحه، فلو أدرك منه امتعاضا من هذا؛ لما كرره في قصائده بعد ذلك.
وليس بعيدا أن يكون كافور كره من الشاعر إلحاحه في طلبه، ومداومته على التذكير بالوعد في لغة يصح أن تسمى توبيخا وتأنيبا، فصح في عزمه ألا ينيله طلبته، ثم إن تمادي الشاعر في أشباه ذلك، ورثائه لشبيب في القصيدة التي تقدم ذكرها، وتعريضه بكافور في قصيدة الحمى، ومدحه لفاتك، كل أولئك كان سببا في أن يخيب أمل الشاعر في بغيته، وأن يجعل بينه وبينها سدا، وكانت صراحة المتنبي وعلو نفسه، يأبيان له إلا أن يقول ما يجول بخاطره، فلم يشأ إلا أن يقول ما قال، داخلا في نطاق التوبيخ، لا الاستعطاف والطلب الذليل.
ومما كان له أثر بين في خيبة الشاعر في أمله في كافور، أنه لم يشأ أن يمدح الوزير ابن الفرات، كما مدحه شعراء آخرون؛ ليكون له عونا يساعده على بلوغ غايته ومبتغاه، وكان الوزير ابن الفرات هذا، وزيرا خطيرا من أسرة وزراء، ومحدثا أديبا ميالا لأهل العلم والأدب.
وكان أبو الطيب في آخر مقامه بمصر، يود الرحيل ويبغي الفكاك من ذلك النطاق المضروب، فلقد طالما ردد ذلك في قصائده، ولقد طالما تبرم بمطل كافور وضاق به ذرعا ... ولكن كافورا كان يمسكه عن الرحيل، ويضع حوله العيون.
وليس خافيا أن كافورا - لما نزل الشاعر بمصر - أنزله دارا، وأغدق عليه من ماله وأغرقه في عطائه، وقد حسب أن ذلك يكفيه، فلما طالبه الشاعر بولاية أو ضيعة، وعده إجابة طلبه، ثم خاف كافور الشاعر، حين أدرك علو نفسه، ولمس بعد أمانيه، وعلم ما حفل به ماضيه من حبس وادعاء النبوة ... وما إلى ذلك، وقد أدرك القارئ أن الشاعر بدأ يستعجل الوعد، ويندد بالمماطلة، بعد بقائه بمصر ثلاثة أشهر ليس غير، وأدرك كذلك أنه سكت عن مديح كافور - بعد أن قال قصيدة شبيب والقصيدة الأخرى الأخيرة - سنة وشهرين، وأنه ذكر الرحيل في شعره مرات عدة، كأنما كان كافور يحرص على ألا يفلته، ابتغاء مدحه من ناحية، واتقاء هجوه من أخرى ... بل إنه لمن الثابت أن كافورا منعه عن الرحيل منعا، ففي هجاء الشاعر له من بعد ما ينطق بذلك في صراحة وبيان، وجاء في شرح المعري وشروح أخرى: أن الشاعر كتب إلى كافور يستأذنه في المسير إلى الرملة؛ ليتنجز مالا بها، وأراد أن يعرف رأيه في مسيره؛ فأجابه: لا، والله، أطال الله بقاءك، لا نكلفك المسير، ولكن ننفذ رسولا يأتيك به، فلما قرأ الجواب قال أبياته التي أولها:
أتحلف لا تكلفني مسيرا
إلى بلد أحاول فيه مالا
ولما ضاق صدر الشاعر الكبير بذلك الذي لقيه بمصر، ولم يطق بعده اصطبارا، رحل إلى الكوفة رحيل هارب لا رحيل مودع مشيع، فلم يعد له ما يتعزى به بعد وفاة أبي شجاع فاتك، الذي اتخذه صديقا مؤنسا طوال مدة بقائه بمصر بعد سكوته عن مديح كافور، وكانت وفاة فاتك في شوال سنة خمسين وثلاثمائة، وقد لبث الشاعر بعدها شهرين يدبر لرحيله، جاء في شرح المعري وشروح أخرى: «وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق، ولا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج ودفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل لعشر ليال، وتزود لعشرين.»
وفي ليلة عيد الأضحى قال الشاعر قصيدته الحزينة الثائرة التي مطلعها:
ناپیژندل شوی مخ