وقوله: " لو قلت نعم لوجبت " دليل للمذهب الصحيح في أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، وإنه لا يشترط حكمه أن يكون بوحي. قوله صلى الله عليه وسلم: " وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " هذا من قواعد الإسلام المهمة ومما أوتيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة إذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن غسل بعض أعضاء الوضوء غسل الممكن وكذلك إذا وجبت فطرة جماعة ممن يلزمه نفقتهم وكذلك أيضا في إزالة المنكرات إذا لم يمكنه إزالة جميعها فعل الممكن وأشباه ذلك مما لا ينحصر وهو مشهور في كتب الفقه وهذا الحديث كقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، وأما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) فقيل منسوخة بقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، قال بعضهم: والصحيح أنها ليست بها، بل هي مفسرة لها، ومبينة للمراد منها، قالوا: وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نواهيه، والله سبحانه لم يأمر إلا بالمستطاع، فإن الله تعالى قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) .
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " وما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " فهذا على إطلاقه لكن إن وجد عذر يبيحه كأكل لميتة عند الضرورة ونحوه فهذا لا يكون منهيا عنه في هذه الحال. وأما في غير حال العذر فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى يترك كل ما نهى عنه ولا يخرج عنه بترك فعل واحد بخلاف الأمر وهذا الأصل إذا فهم فهو مسألة مطلق الأمر: هل يحمل على الفور أو على التراخي، أو على المرة الواحدة أو على التكرار، ففي هذا الحديث أبواب من الفقه والله أعلم.
وقوله: " إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " وذكر ذلك بعد قوله: " ذروني ما تركتكم " أراد لا تكثروا السؤال فربما يكثر الجواب عليه فيضاهي ذلك قصة بني إسرائيل لما قيل لهم: (اذبحوا بقرة) فإنهم لو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ وبادروا إلى ذبح أي بقرة كانت اجزأت عنهم لكن لما أكثروا السؤال وشددوا شدد عليهم وذموا على ذلك فخاف النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك على أمته.
الاقتصار على الحلال الطيب
10 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له " رواه مسلم " .
......................................................
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام، وفيه الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه وإن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره، وفيه أن العبد إذا أنفق نفقة طيبة فهي التي تزكو وتنمو وأن الطعام اللذيذ غير المباح يكون وبالا على آكله ولا يقبل الله عمله.
وقوله: " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر " إلى آخره معناه والله أعلم. يطيل السفر في وجوه الطاعات: الحج وجهاد، وغير ذلك من وجوه البر ومع هذا فلا يستجاب له لكون مطعمه ومشربه وملبسه حرام فكيف بمن هو منهمك في الدنيا أو في مظالم العباد أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير.
وقوله: " يمد يديه " أي يرفعهما بالدعاء لله مع مخالفته وعصيانه، وقوله: " وغذي بالحرام " هو بضم الغين المعجمة، وتخفيف الذال المكسورة. وقوله: " فأنى يستجاب له؟ " وفي رواية: " فأنى يستجاب لذلك؟ " يعني من أين يستجاب لمن هذه صفته، فإنه ليس أهلا للإجابة، لكن يجوز أن يستجيب الله تعالى له تفضلا ولطفا وكرما والله أعلم.
التورع عن الشبهات
مخ ۱۵