Sharh al-Wasiyya al-Kubra

Yusuf Al-Ghafis d. Unknown
82

Sharh al-Wasiyya al-Kubra

شرح الوصية الكبرى

ژانرونه

الامتياز في باب السلوك الثاني: الامتياز، وأعني به: الانحياز بالنسبة إلى معين في باب السلوك، حيث يجعل هؤلاء العامة لأنفسهم من الامتياز بهذا الاسم ما ليس هو من طرق الشريعة، حتى يتميزوا عن العامة من غيرها، مع أن كثيرًا من العامة الذين يخالفونهم في مصر من الأمصار قد يكون كثير منهم أفضل من هؤلاء، وأزكى حالًا وأتبع للسنة. والامتياز بحد ذاته بدعة، إلا إذا انتظم هذا الامتياز تحت اجتهاد يمكن قبوله ولا يكون مطلقًا، فإن الامتياز إذا كان مطلقًا أي -مطردًا- فإنه لا يكون امتيازًا مشروعًا. وهذا الامتياز يقع كثير من تحققه عند كثير من عوام الصوفية تحت ما يسمى بالآداب الوضعية الخاصة، وهي الآداب التي تكون من العامة للخاصة، كطريقة الدخول والسلام والجلوس بين يديه، فيكون هناك من التخصيصات والرسوم الوضعية التي ليس لها أصل في نصوص الشريعة ونصوص النبوة. مع أن باب الأدب ورعاية الأخلاق وحسن التأتي باب مشروع في الإسلام، ولا أحد يجادل فيه، لكن الناظر في سيرة النبي ﷺ -مع أنه هو صاحب هذه الأمة ورسولها وإمامها- لا يجد أنه كان يرتب لأصحابه طرقًا معينة، بل كان يعلمهم آداب الاستئذان، وآداب الدخول والخروج بذكر اسم الله ﷾، وتقديم اليمنى ونحو ذلك، هذه هي الآداب الشرعية، أما أن لهم حركة معينة في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والقيام من عنده وما إلى ذلك، فضلًا عما هو أكثر من ذلك، كمسألة التبرك بآثاره التي لا تكون مستساغة لا عقلًا ولا شرعًا، فإن مثل هذه الأوضاع والآداب الوضعية التي انتشرت في عوام الصوفية في كثير من قرون المسلمين ليست آدابًا مشروعة. فصاحب الرسالة ﷺ لم يكن يتكلف له أصحابه كثيرًا، وإن كان ورد في بعض المناسبات كقصة الحديبية أن أصحابه قاموا بين يديه قيامًا خاصًا ما كان مألوفًا، حتى إنه لما انصرف رسول قريش قال لقريش -كما في صحيح البخاري وغيره-: (لقد أتيت الملوك فما رأيت رجلًا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا) وذلك لأن الصحابة أظهروا شيئًا خاصًا، فقد قام المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف، وعندما كان رسول قريش يمد يده للحية النبي ﷺ أثناء المفاوضة كان المغيرة بن شعبة يكف يده بنعل السيف، وفعل كذلك الصحابة بعض الأمور التي كانت خاصة بذلك المجلس، أما في جمهور مجالسه ﵊ فقد كان غير متكلف الحال، اقتداء بهدي إخوانه المرسلين ﵈ الذين كانوا يقولون لقومهم: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص:٨٦]. والمقصود أن هذه الآداب الوضعية والمراسيم الصوفية التي يوجد فيها قدر من الإذلال للعامة، وأحيانًا الخروج إلى شيء من البدع، والوصول إلى شيء من التبركات في الأشخاص التي لا تكون تبركات مشروعة، كالانحناء بين يديه. فمثل هذا من البدع، وقد يصل إلى أوجه مغلظة من الحكم الشرعي، كالانحناء والتقبيل لركبته مثلًا، أو ما إلى ذلك، فهذه كلها من الأمور المتكلفة في الإسلام. فهذه الرسوم ليست رسومًا شرعية، وينبغي لشيوخ السلوك والعارفين وأهل الاقتداء وأولياء الله ﷾ من المعاصرين أن يقوموا كما قام صاحب الرسالة ﷺ مع أصحابه، على قدر من اختصار الحال -أي عدم التكلف- في هذه الأمور، والإتيان بالأخلاق والسنن الشرعية؛ كالسلام، وحسن التأتي، وحسن الأدب، ومراعاة الصلاة على النبي ﷺ عند ذكره، والمحافظة على الأوقات المناسبة في الدخول والجلوس، هذه هي الآداب الشرعية. أما المراسيم الخاصة حتى في شكل اللباس، كتخصيص لباس معين وهندام معين وشكل معين لطائفة من المسلمين بالانتساب لهذا الرجل أو ذاك، فمثل هذه الاختصاصات لم تكن مشروعة في الإسلام، بل إن النبي ﷺ لما بعث لم يأمر أصحابه بتغيير طريقة لباسهم التي كانوا عليها في جاهليتهم، وإنما أرشدهم إلى هديه في اللباس؛ كنهيه ﷺ عن إسبال الثياب كبرًا في حق الرجال، فكان هذا من باب الضبط لآداب الشريعة. فهذا ما يمكن أن نسميه بالامتياز في مسائل الرسوم، وهو وجه من وجوه التعصب، وإلا فما معنى أن يمتاز الإنسان بنظام في رسم حركته ومجلسه ولباسه وآدابه الوضعية وما إلى ذلك؟ لأنه إما أنه لا معنى لها إذا كانت جائزة، وقد يقول قائل: ما هو الحرام في أن يلبس الإنسان بطريقة معينة؟ فنقول: الإنسان حر في لباسه ما دام أنه في حدود ما أذن الله به، لكن الاقتصار على نظام معين في اللباس كتجمع خاص عن جمهور أهل مصر من المسلمين، أو عامة المسلمين، هذا لا شك أنه ليس مشروعًا، فضلًا عما إذا كان الأمر يصل بهذه الرسوم إلى بدع أو إلى محرمات. وقد قال النبي ﷺ كلمة جامعة في أدب الأخلاق: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، فلا ينبغي للعارف وصاحب العبادة والنسك أن يمتاز أمام الناس، وأن يظهر حاله بنوع من الإشارة المعينة التي تدل عليه، بل عليه أن يكون بعيدًا عن التكلفين: تكلف الإظهار وتكلف الإضمار، فإن بعض الناس -أحيانًا- يتكلف في الإضمار، وفي هضم نفسه وتبذل نفسه، وفي تحطيم نفسه -إن صحت الكلمة- إلى وجه ليس مشروعًا، فإن الشريعة لم تأمر بهذا التكلف: لا في الإظهار ولا في الإضمار.

8 / 12