تفسير النصوص بالظاهر والباطن
وقد تمثل هذا أكثر -أي: أنه تجاوزت مسألة الإشارة وأنه في هذه الآية أشار إلى هذه العبادة أو هذه الحركة، أو هذا العمل القلبي- تمثل بظهور مصطلح الظاهر والباطن، وصار النص له دلالة تقود إلى عمل ظاهر، ودلالة تسمى بدلالة الباطن، فصار للنص تفسير ظاهر وتفسير باطن.
وهذه المسألة -مسألة الظاهر والباطن- التي شاعت في كلام كثير من خاصة الصوفية، هي التي أوجدت اجتهادًا في فقه النص على غير قواعد الشريعة، وهو على غير قواعد الشريعة لأنه لم يكن السابقون الأولون يفهمون أن النص له فقه ظاهر وفقه باطن، فبمجرد هذا الافتراض وإيجاد هذا المعنى المنفصل فإن هذا من الاجتهاد؛ ولذلك فإن كثيرًا من أوجه الحركة والعمل أخذت هذا المعنى الذي يسمونه: الظاهر والباطن، وما زال الأمر هنا محاولة في تحصيل مناهج السلوك عندهم من خلال النصوص، ولكن تحت نظرية الرمز والإشارة، وتحت نظرية الظاهر والباطن.
هذا الاجتهاد نسميه: الاجتهاد في فقه النص على غير القواعد التي مضى عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وقد تمثل هذا في الرمزية والإشارات بفرض الظاهر والباطن في النص ظاهرًا.
ومن المعلوم أن أئمة الصحابة -وهم أبو بكر وعمر وأمثالهما من السابقين الأولين- لم يكن عندهم شيء من هذا الفقه، وإن كان -وهذا من باب ضبط المسائل- لـ علي وابن مسعود وابن عباس ﵃ بعض الكلمات التي اتكأ عليها من يتكلم في الظاهر والباطن، ومن ذلك قول علي ﵁ كما روى البخاري معلقًا: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وكقول ابن مسعود: (ما أنت محدث قوم حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)، وهذا معناه أن علي بن أبي طالب وابن مسعود ﵄ كانا يفقهان أن للنصوص ظاهرًا وباطنًا، وهذا غير صحيح، وإنما هذا من باب أن بعض المسائل الشرعية قد لا يحدث بها ابتداء بعض العامة قبل أن تسكن قلوبهم بأصول هي أجل منها في الشريعة، فإن التسليم بالأصول يقود إلى التسليم بالفروع؛ ولذلك كان منهج الأنبياء أنهم يخاطبون أقوامهم المشركين بالأصول، فأول ما قام النبي ﷺ داعيًا للعرب لم ينههم عن شرب المسكرات، إنما ابتدأهم بمسألة التوحيد، فمن وحد الله وجعله هو وحده سبحانه المستحق للعبادة وسلم بالنبوة وأن محمدًا رسول الله صار عنده التسليم، وإذا تحقق التسليم تحققت الاستجابة، سواء فقه العلة أو لم يفقهها.
فهذا هو مقصود علي بن أبي طالب ﵁ من أن بعض الكلام قد لا يحدث به العامة، مثل بعض أحاديث الفتن أو ما إلى ذلك، مثل من يكون غارقًا في المعاصي، فقد لا يناسب أن يحدث بأحاديث رويت عن النبي ﷺ وهي صحيحة، لكن فيها قدر من التخويف.
ومثال ذلك: إنسان يرتكب معصية معاكسة النساء، فلا يقال له: إن رجلًا -كما في حديث أبي أمامة في الصحيح- جاء إلى النبي ﷺ وقال: (يا رسول الله! إني خالفت امرأة بالمدينة وأصبت منها كل شيء إلا النكاح، فأعرض عنه، ثم أعرض عنه، ثم قال: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:١١٤])، فهذا الحديث يحدث به قوم دون آخرين؛ لأنه من أحاديث الرجاء، وهي تناسب مقامًا، وأحاديث الخوف تناسب مقامًا، فـ علي وابن مسعود ﵄ لم يكونا يتكلمان عن نظرية الظاهر والباطن.
أيضًا نجد أن العرب الجاهليين لم يكونوا يفقهون أن هذا الكلام -كلام الله أو كلام الرسول ﵊ له في لسانهم فقه ظاهر وفقه باطن؛ بل إن إرادة معنيين مختلفين من المتكلم الواحد إرادة ممتنعة، يقول ابن تيمية ﵀: "إذا قيل: للنص ظاهر وباطن، أي: معنى ظاهر ومعنى باطن، فإن كان الظاهر موافقًا للباطن فلا جديد، وإذا كان الباطن مخالفًا للظاهر فإرادة معنيين مختلفين إرادة ممتنعة"، أي: إذا كان المعنى مضادًا للمعنى فهذا ممتنع من المتكلم.
هذه هي الصورة الثانية من صور الاجتهاد، وهي تختلف مع الأصل الثاني، وهو فقه النص بقواعد الشريعة ومقاصدها، وهذا الاختلاف قد يكون اختلافًا غاليًا أو مقتصدًا أو بينهما.
5 / 8