أهمية الفقه والعدل في الكتابة إلى المخالفين
في مكاتبة شيخ الإسلام ﵀ يظهر حسن التأتي، فإنه وإن كان عدي بن مسافر الأموي رجلًا صوفيًا وعليه بعض المآخذ، إلا أنه رجل فاضل في الجملة، لكن أتباعه فيما بعد انحرفوا عن طريقة عدي بن مسافر إلى أوجه من البدع المغلظة، بل دخلت عليهم أصول أعظم من ذلك.
ومع ذلك عني الإمام ابن تيمية ﵀ أن يكتب هذه المكاتبة إلى الذين يقصدون إلى ضبط وتحقيق ما كان عليه الشيخ عدي بن مسافر الأموي، وينفكون عما طرأ على طريقته من الزيادات والبدع، وهذا من حسن العقل وحسن الفقه في أهل العلم، وفي هذا الإمام -أعني: شيخ الإسلام - بوجه خاص؛ لأن دعوة الناس إلى أن يتحولوا من آرائهم وما استقر عليه عامتهم وما ألفوه ونحو ذلك هذا شأن فيه استطالة، ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ما بعثهم الله به من الآيات، كما قال ﵊ كما في الصحيح: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر) ومع ذلك فإنه آمن به من آمن، وكفر به من كفر، بل لم يستجب لهم أكثر الناس، ولا سيما في وقتهم، فإذا كان كذلك فكذلك القائم بالسنة والداعي إلى الحق لا بد أن يكون فقيهًا في دعوته، فإذا لم يحصل رد بعض الخلق إلى السنة المحضة فردهم عن كثير من البدعة، ولو بقي شيء مما هو دون ذلك، فإن ذلك خير من بقائهم على البدع المستحكمة المغلظة.
ومن فقه هذا الإمام ﵀ أيضًا أنه لما تكلم عن المعتزلة -ومعلوم ما هي عقائد المعتزلة- قال: "ومع ذلك فإن بعض أئمة هؤلاء ذهبوا إلى الأنصار العجمية فدعوا أولئك العجم إلى الإسلام فأسلموا على طريقة المعتزلة، فإسلامهم على طريقة المعتزلة خير من بقائهم على الكفر المستبين".
فينبغي لطالب العلم في مكاتباته ونصحه أن يقصد إلى تقريب هذا الفهم الذي اختلط ولا سيما عند عوام المسلمين في مسائل العمل حتى غلطوا في مسائل هي أوجه من الشرك في عبادة الله عند المشاهد والقبور وما إلى ذلك، فهذه هي التي ينبغي لطالب العلم في أي بلد كان أن يقصد إلى الاهتمام بها.
أما المسائل التي لا توصل العبد إلى البدعة المغلظة فضلًا عن الشرك -والتي قد قال بها خلق من الفقهاء، أو أفتى بها جمع من المعتبرين في الفقه- فإنه وإن كانت خطأ أو كانت تخالف ظاهرًا في الكتاب والسنة فهذه ليست هي الأولى، لا نقول أنها تترك، لكن نقول: ليست هي الأولى.
فمثلًا: فرق بين القول بأن عندهم إشكالًا وهو أنه إذا أذن مؤذنهم وانتهى من الأذان صلى على النبي ﷺ بصوت يسمعه الناس، وهذا منتشر في أكثر بلاد العالم الإسلامي، فهذه المسألة من حيث الحكم لا تصل إلى مسائل البدع المغلظة، لكن إذا كان بجانب هذا المسجد مشهد من المشاهد يدعوه الناس وربما يذبحون عنده وينذرون له وما إلى ذلك، فنقول: فرق بين تصحيح المقامين.
وكما أسلفت أن من كان في المقدمة الأولى، ومن كان بصيرًا في الاختلاف ترفق بكثير من الأمور.
ومن أمثلة ذلك: مسألة تلقين الميت، فإنه قد يقول قائل: هذه بدعة، وأنا لا أقول: إن هذه لا تسمى بدعة، فإنه لو سماها أحد بدعة فهذا له وجهه وقوته، وهي ليست من السنة بلا شك، لكنها ليست من البدع المغلظة، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون هي البداية في تقليل الإشكال؛ لأن هناك ما هو أكبر منها، مما يتعلق بمسائل أعظم في أصول العلم أو أصول العبادة، فلو ترك العامة عليها بعض الوقت حتى تقرب نفوسهم إلى السنة، ويرجعون إليها؛ لما كان في الأمر كبير إشكال، أي: أنها مسائل تقبل الصبر؛ لأنه نقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا يرون تلقين الميت في قبره، ولذلك لما سئل ابن تيمية ﵀ عن تلقين الميت في قبره قال: "إن كثيرًا من الفقهاء حرمها، ومنهم من استحبها، ومنهم من أجازها، قال: والأمر أنها جائزة، وإن كانت ليست من السنة".
فالفقه في مراتب المخالفة للسنة من أهم ما يكون من أوجه الفقه.
ومن المعلوم أن الرسول ﷺ لم يترك أصلًا في العلم أو أصلًا في العمل خشية قريش أو مخافة الناس، أو لئلا تنكره قلوب الناس، لكن بعض المسائل التي تحتمل التأخير ترك بعض الأوجه فيها، وترك بعض العمل فيها كمسألة إعادة بناء الكعبة ونحوها، مع أنها مقصودة في هديه ﵊.
وهذا الأمر يظهر في قول النبي ﷺ لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم).
فمسألة مخافة أن تنكر قلوب العامة هذا مقصد لطالب العلم، وعامة المسلمين اليوم -وخاصة العوام- يقصدون إلى متابعة النبي ﷺ والاقتداء بهديه وسنته ﵊، ولكنهم يحتاجون إلى ترفق، ويحتاجون إلى بصيرة، ويحتاجون إلى حسن تأتي في مخاطبتهم.
على كلٍ هذا من كلام شيخ الإسلام وحسن تأتيه في هذا المقام، وهذا المنهج الذي ذكرناه لـ شيخ الإسلام في المخاطبة سواء كانت مخاطبة كتابية، أو مخاطبة لفظية، هذا المنهج لا نقول: إنه هو المطرد في كل الأحوال، ولكن يكفي أن نقول: إنه هو الأصل، وقد يخرج عنه في بعض الأحوال.
وهذا الأصل يقوم على حسن التأتي في الحروف مع عدم إنقاص الحقيقة الشرعية؛ فإن بعض الناس قد يكون عنده حسن التأتي في الحروف، ولربما زاد عن حسن التأتي إلى قدر من المجاملة، ولكن الإشكال أنه يدخل عنده المجاملة في المعنى، فيهون هذا الأصل، ويجعله بدلًا من كونه أصلًا مجمعًا عليه مسألة قد تقبل الاختلاف أو لا ينبغي التشديد فيها، أو تفريق الناس بسببها، مع أنها أصل من أصول السلف، وأصل من أصول السنة اللازمة التي درج عليها الصحابة.
فبعض الناس لا يستطيع حسن التأتي وحسن المخاطبة إلا إذا أنقص الحقيقة والمعنى، وبعض الناس لا يستطيع ضبط المعنى وجمعه إلا بشدة في اللسان، وقوة في المجادلة، ولربما استطالة بالحق على الخلق.
والمنهج الذي ذكره الله في كتابه في سير أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أن كلماتهم فيها من حسن التأتي لقومهم لتقريبهم إلى الحق، فكلهم يقول: (يَا قَوْمِ)، وإبراهيم ﵇ يقول لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ﴾ [مريم:٤٢]، ويقول: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم:٤٧]، والله ﷾ لما بعث موسى وهارون ﵉ إلى فرعون قال: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه:٤٤]، فهل استلزم حسن التأتي هذا إنقاص الحقيقة الشرعية التي أمروا بها؟
الجواب: لا، وهذا هو الفقه.
لكن مع الأسف كثر اليوم من يكون رقيق اللسان لكنه ينقص الحقيقة، فهو لا يحسن التأتي إلا بإنقاص الحقيقة الشرعية حتى يخرق الأصول اللازمة، ويعذر في أمور ليست محلًا للعذر، ويفتح باب للاجتهاد في مسائل ليست محلًا للاجتهاد، وما إلى ذلك.
وبعض الناس قد يكون سليط اللسان على الناس، ولربما يستشهد ببعض الآثار أو ببعض الأحوال التي عرضت لبعض أئمة السلف.
وهذا بخلاف الأصل الذي بيناه؛ فإن الله ﷾ يقول لموسى وهارون ﵉: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:٤٤]، وانظر إلى التعريض في قوله تعالى: (لَعَلَّهُ)، وذلك لأن النفس إذا لم تعط كلامًا حسنًا، فإنها في الغالب لا تقبله، وهذا بينٌ في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩]، فإذا كان اللسان فظًا ولو كان معه السنة لم ينفع؛ فهذا النبي ﷺ معه السنة، والله ﷾ يقول له: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩].
أما ما نجده في كلام موسى مع فرعون عندما قال له: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء:١٠٢] وهذا الكلام يظهر فيه الشدة والغلظة والبعد عن اللين، فإن هذه الحال عندما يجد الداعية امن المدعو المعاندة والمكابرة، فهنا يستعمل في حقه بعض الكلمات.
هذا هو منهج القرآن الذي ذكره الله في أهل الكتاب، وهو في أهل الإسلام المخالفين للسنة من باب أولى؛ فإنه إذا كان هو المنهج مع من كفر بالله، فمع من آمن بالله ورسوله لكن خالف السنة في مسائل يكون من باب أولى.
قال الله ﷾ مبينًا هذا المنهج: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت:٤٦] هذا هو الأصل، ثم جاء الاستثناء فقال سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت:٤٦] سواء كان المستثنى متصلًا فيكون الاستثناء بينًا، أو كان منقطعًا فإنه يفسر على وجهه؛ لأن في القرآن كلامًا للأنبياء وفي كلام السلف كلام معروف في بعض المقامات، وإذا أحصينا كم اشتد النبي ﷺ في كلامه على من خالفه لوجدنا أنها ليست بقدر مناسب للكلمات التي ترفق فيها ﵊ مع من خالفه.
وقد بين هذا المنهج شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في آخر العقيدة الواسطية مبينًا أنها مذهب السلف، فقال: "إن من طريقتهم أنهم يرون ترك الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق".
فالاستطالة بغير حق مسألة لا يقع فيها اشتباه، فهي لا تقع إلا عن عدو قاصدًا للمعاداة والعدوان، لكن الذي يقع فيه بعض طلبة العلم أحيانًا فيما بينهم أو في ردود بعضهم على بعض، أو حتى في ردودهم على من يخالف السنة في مسائل أنهم يستطيلون بالحق، فتجد الطالب معه حق، وهو على السنة ومخالفه على بدعة، وهو على الصواب ومخالفه على الخطأ، لكن لا تجوز الاستطالة بالحق على الخلق؛ لأن هذا يقع بسببه العدوان والفتنة، فضلًا عن عدم قبول الحق، ومقصود الأنبياء ومقصود الرسالات هو تصحيح نفوس الناس وردهم إلى الهدى والصواب.
إذًا: المنهج من حيث الأصل هو حسن التأتي في القول، وح
1 / 12