مقدمة الرضى بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله الذي جلت آلاؤه عن أن تحاط بعد، وتعالت كبرياؤه عن أن تشتمل بحد، تاهت في موامى معرفته سابلة الافهام، وغرقت في بحار عزته سابحة الأوهام، كل ما يخطر ببال ذوي الأفكار فبمعزل عن حقيقة ملكوته، وجميع ما تعقد عليه ضمائر أولي الابصار فعلى خلاف ما ذاته المقدسة عليه من نعوت جبروته، وصلواته على خاتم أنبيائه، ومبلغ أنبائه، محمد بن عبد الله المبشر به قبل ميلاده، وعلى السادة الأطهار من عترته وأولاده.
وبعد فقد طلب إلي بعض من أعتني بصلاح حاله، وأسعفه بما تسعه قدرتي من مقترحات آماله، تعليق ما يجري مجرى الشرح على مقدمة ابن الحاجب عند قراءتها علي، فانتدبت له (1) مع عوز ما يحتاج إليه الغائص في هذا اللج، والسالك لمثل هذا الفج، من الفطنة الوقادة، والبصيرة النفادة، بذلا لمسئوله، وتحقيقا لمأموله، ثم اقتضى الحال بعد الشروع، التجاوز عن (2) الأصول إلى الفروع،
مخ ۱۷
فإن جاء مرضيا، فببركات الجناب المقدس الغروي (1)، صلوات الله على مشرفه، لاتفاقه فيه (2)، وإلا فمن قصور مؤلفه فيما ينتحيه، والله تعالى المؤمل لارشاد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، * * * .
مخ ۱۸
الكلمة (1) معناها. صلتها بالكلم، اشتقاقها قال ابن الحاجب:
" كلمة لفظ وضع لمعنى مفرد "، قال الرضى:
اعلم أن الكلم جنس الكلمة، مثل تمر، وتمرة، وليس المجرد من التاء من هذا النوع جمعا لذي التاء، كما يجئ تحقيقه في باب الجمع، بل هو جنس حقه أن يقع على القليل والكثير، كالعسل والماء، لكن الكلم لم يستعمل (2) إلا على ما فوق الاثنين، بخلاف نحو:
تمر، وضرب، وقيل إن اشتقاق الكلمة، والكلام من الكلم، وهو الجرح، لتأثيرهما في النفس،
مخ ۱۹
وهو اشتاق بعيد (1).
وقد تطلق الكلمة مجازا على القصيدة، والجمل، يقال: كلمة شاعر، قال الله تعالى:
" وتمت كلمة ربك الحسنى " (2).
واللفظ في الأصل مصدر، ثم استعمل بمعنى الملفوظ به، وهو المراد به هنا، كما استعمل القول بمعنى المقول، وهذا كما يقال: الدينار ضرب الأمير، أي مضروبه.
والكلام بمعناه (3)، لكنه لم يوضع في الأصل مصدرا على الصحيح ، إذ ليس على صيغة مصادر الافعال التي تنصبها على المصدر نحو كلمته كلاما، وتكلم تكلاما (4)، بل هو موضوع لجنس ما يتكلم به، سواء كان كلمة، على حرف كواو العطف أو على أكثر، أو كان أكثر من كلمة، وسواء كان مهملا، أو، لا، (5) أما اطلاقه على المفردات فكقولك لمن تكلم بكلمة، كزيد، أو بكلمات غير مركبة تركيب الاعراب، كزيد، عمرو، بكر: هذا كلام غير مفيد، وأما اطلاقه على المهمل، فكقولك: تكلم فلان بكلام لا معنى له، فالقول، والكلام، واللفظ، من حيث أصل اللغة، بمعنى، يطلق على كل حرف:
من حروف المعجم كان، أو من حروف المعاني، وعلى أكثر منه، مفيدا كان، أو، لا.
مخ ۲۰
لكن القول اشتهر في المفيد، بخلاف اللفظ والكلام، واشتهر الكلام لغة في المركب من حرفين فصاعدا، واللفظ خاص بما يخرج من الفم من القول، فلا يقال: لفظ الله كما يقال: كلام الله وقوله، ثم، قد استعمل الكلام استعمال المصدر فقيل كلمته كلاما، كأعطى عطاء، مع أنه في الأصل لما يعطى، وهذا كما يحكى عنهم: عجبت من دهنك لحيتك بضم الدال بمعنى دهنك بفتحها، وقد اختص الكلام في اصطلاح النحاة بما سيجئ، والمقصود من قولهم وضع اللفظ: جعله أولا لمعنى من المعاني مع قصد أن يصير متواطئا عليه بين قوم، فلا يقال - إذا استعملت اللفظ بعد وضعه في المعنى الأول -: إنك واضعة، إذ ليس جعلا أولا،، بلى (1)، ولو جعلت اللفظ الموضوع، لمعنى آخر (2) مع قصد التواطؤ، قيل انك واضعه، كما إذا سميت بزيد (3) رجلا، ولا يقال لكل لفظة بدرت من شخص لمعنى: انها موضوعة له من دون اقتران قصد التواطؤ بها، ومحرفات العوام، على هذا، ليست ألفاظا موضوعة لعدم قصد المحرف الأول إلى التواطؤ، وعلى ما فسرنا الوضع لم يكن محتاجا إلى قوله " لمعنى "، لان الوضع لا يكون إلا لمعنى، إلا أن يفسر الوضع بصوغ اللفظ، مهملا كان، أو، لا، ومع قصد التواطؤ أو، لا، فيحتاج إلى قوله " لمعنى " لكن ذلك على خلاف المشهور من اصطلاحهم،
مخ ۲۱
ومعنى اللفظ ما يعنى به: أي يراد، بمعنى المفعول، قوله " لمعنى مفرد " يعنى به المعنى الذي لا يدل جزء لفظ على جزئه، سواء كان لذلك المعنى جزء، نحو: معنى ضرب، الدال على المصدر والزمان، أو، لا جزء له كمعنى:
ضرب ونصر، فالمعنى المركب على هذا، هو الذي يدل جزء لفظه على جزئه، نحو: ضرب زيد، وعبد الله، إذا لم يكونا علمين، وأما مع العلمية فمعناهما مفرد، وكذا لفظهما، لان اللفظ المفرد: لفظ لا يدل جزؤه على جزء معناه، وهما كذلك، واللفظ المركب، الذي يدل جزؤه على جزء معناه، والمشهور في اصطلاح أهل المنطق، جعل المفرد والمركب صفة اللفظ، فيقال: اللفظ المفرد، واللفظ المركب، ولا ينبغي أن يخترع في الحدود ألفاظ، بل الواجب استعمال المشهور المتعارف منها فيها، لان الحد للتبيين، وليس له (1) أن يقول: إني أردت بالمعنى المفرد: المعنى الذي لا تركيب فيه، لان جميع الأفعال - إذن (2) - تخرج عن حد الكلمة، ولو قال: الكلمة لفظ مفرد موضوع، سلم من هذا، ولم يرد عليه أيضا، الاعتراض بأن المركبات ليست بموضوعة، على ما يجئ (3) واحترز بقوله " لفظ " عن نحو الخط والعقد والنصبة والإشارة، فإنها ربما دلت بالوضع
مخ ۲۲
على معنى مفرد، ليست بكلمات.
ويجوز الاحتراز بالجنس أيضا، إذا كان أخص من الفصل بوجه، وهو ههنا كذلك لان الموضوع للمعنى المفرد قد يكون لفظا وقد لا يكون (1).
واحترز بقوله " وضع " عن لفظ دال على معنى مفرد بالطبع لا بالوضع كاح، الدال على السعال، ونحو ذلك، وعن المحرف، وعن المهمل، لأنه دال أيضا على معنى كحياة المتكلم به، ولكن عقلا لا وضعا..
وبقوله " لمعنى " عما صيغ لا لمعنى كالمهملات " كلعم " ونحو من الهذيانات، وقد مر الكلام على هذا الاحتراز.
وبقوله " مفرد " عن لفظ وضع للمعنى المركب نحو: عبد الله، وضرب زيد غير علمين.
فإن قيل: ان التاء في لفظ الكلمة للوحدة، لان كلمة وكلما، كتمرة وتمر، واللام (2) فيه للجنس فيتناقضان، لدلالة الجنس على الكثرة المناقضة للوحدة.
فالجواب: أن اللام في مثله ليس للجنس ولا للعهد، كما يجئ في باب لمعرفة، ولئن سلمنا ذلك، قلنا: إن الجنس على ضربين.
أحدهما: استغراق الجنس، وهو الذي يحسن فيه لفظة " كل " كقوله تعالى: " إن الانسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا " (3)، أي كل الانسان، وإلا، لم يجز الاستثناء، لأنه (4)
مخ ۲۳
عند الجمهور من النحاة يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحت المستثنى منه، وهذا الاستغراق مفيد للكثرة فيناقض الوحدة.
والثاني: ماهية الجنس من غير دلالة اللفظ على القلة ولا الكثرة، بل ذاك احتمال عقلي، كما في قوله تعالى: " لئن أكله الذئب " (1)، ولم يكن هناك ذئب معهود، ولم يرد استغراق الجنس أيضا.
ومثله قولك: ادخل السوق، واشتر اللحم، وكل الخبز، فهذا النوع من الجنس لا يناقض الوحدة، إذ لا دلالة فيه على الكثرة.
والمقصود في هذا الموضع هو الثاني، أي ماهية الجنس من حيث هي هي، لان الحد إنما يذكر لبيان ماهية الشئ، لا لبيان استغراقه.
إن قيل: لم لم يقل " لفظة " ليوافق الخبر المبتدأ في التأنيث؟
فالجواب أنه لا يجب توافقهما فيه إلا إذا كان الخبر صفة مشتقة غير سببية، نحو : هند حسنة، أوفي حكمها، كالمنسوب، أما في الجوامد فيجوز (2)، نحو: هذه الدار مكان طيب، وزيد نسمة عجيبة.
وقوله " لفظ " ههنا، وإن كان بمعنى الصفة، أي ملفوظ بها، كما ذكرنا، إلا أن أصله مصدر، ويعتبر الأصل في مثله، نحو: امرأة صوم ورجلان صوم، ورجال صوم، فلا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع.
فإن قيل: كان ينبغي أن يقول " لفظة " ليخرج عنه الكلمتان، إذ هما لفظتان، وكذا الكلمات.
قلت: لا يخرج مثل ذلك بتاء الوحدة، لان مثل قولك: قالا، وقالوا، كارطى،
مخ ۲۴
وبرقع (1) لفظة واحدة، وكذا كل ما يتلفظ به مرة واحدة، مع أن كل واحد من الأولين كلمتان، بخلاف الثانيين.
إن قيل: هلا استغنى بقوله " وضع " عن قوله " مفرد " لان الواضع لم يضع إلا المفردات، أما المركبات فهي إلى المستعمل، بعد وضع المفردات، لا إلى الواضع.
فالجواب أنا لا نسلم أن المركب ليس بموضوع (2)، وبيانه أن الواضع إما أن يضع ألفاظا معينة سماعية، وتلك هي التي تحتاج في معرفتها إلى علم اللغة.
وإما أن يضع قانونا كليا يعرف به الألفاظ فهي قياسية، وذلك القانون إما أن يعرف به المفردات القياسية، وذلك كما بين أن كل اسم فاعل من الثلاثي المجرد، على وزن فاعل، ومن باب أفعل، على وزن مفعل، وكذا حال اسم المفعول، والامر، والآلة، والمصغر، والجمع، ونحو ذلك، وتحتاج في معرفتها إلى علم التصريف.
وإما أن يعرف به المركبات القياسية، وذلك كما بين مثلا، أن المضاف مقدم على المضاف إليه، والفعل على الفاعل، وغير ذلك من كيفية تركيب أجزاء الكلام، وتحتاج في معرفة بعضها إلى التصريف كالمنسوب، والفعل المضارع، وفي معرفة بعضها إلى غيره من علم النحو كما ذكرنا.
إن قيل: ان في قولك: مسلمان، ومسلمون، وبصري وجميع الافعال المضارعة، جزء لفظ كل واحد منها يدل على جزء معناه إذ الواو تدل على الجمعية، والألف على التثنية، والياء على النسبة، وحروف المضارعة، على معنى في المضارع وعلى حال الفاعل أيضا.
وكذا تاء التأنيث في " قائمة "، والتنوين، ولام التعريف، وألفا التأنيث، فيجب أن يكون لفظ كل واحد منها مركبا، وكذا المعنى فلا يكون كلمة، بل كلمتين (3).
مخ ۲۵
فالجواب أن جميع ما ذكرت كلمتان، صارتا من شدة الامتزاج ككلمة واحدة، فأعرب المركب إعراب الكلمة، وذلك لعدم استقلال الحروف المتصلة في الكلم المذكورة، وكذلك الحركات الاعرابية.
ولمعاملتها معاملة الكلمة الواحدة سكن أول أجزاء الفعل في المضارع، وغير الاسم المنسوب إليه نحو: نمري وعلوي ووشوي ونحو ذلك، فتغيرت بالحرفين (1) بنية المنسوب إليه والمضارع وصارتا من تمام بنية الكلمة.
وأما سكون لام الكلمة بلحوق التاء في نحو ضربت، فلا يوجب تغيير البينة، إذ لا تعتبر حركة اللام وسكونها في البنية، كما يجئ في أول التصريف إن شاء الله تعالى (2).
أما الفعل الماضي نحو ضرب ففيه نظر، لأنه كلمة بلا خلاف، مع أن الحدث مدلول حروفه المترتبة، والاخبار عن حصول لذلك الحدث في الزمن الماضي، مدلول وزنه الطارئ على حروفه والوزن جزء اللفظ، إذ هو عبارة عن عدد الحروف مع مجموع الحركات والسكنات الموضوعة وضعا معينا.
والحركات مما يتلفظ به، فهو - إذن - كلمة مركبة من جزأين يدل كل واحد منهما على جزء معناه، وكذا نحو أسد، في جمع أسد، وكذا المصغر، ونحو رجال ومساجد، ونحو ضارب ومضرب، لان الدال على معنى التصغير والجمع والفاعل والمفعول والآلة في الأمثلة المذكورة: الحركات الطارئة مع الحرف الزائد، ولا يصح أن ندعي ههنا أن الوزن الطارئ كلمة صارت بالتركيب كجزء كلمة، كما ادعينا في الكلم المتقدمة، وكما يصح أن ندعي في الحركات الاعرابية، فالاعتراض بهذه الكلم اعتراض وارد، إلا أن نقيد تفسير اللفظ المركب فنقول: هو ما يدل جزؤه على جزء معناه وأحد الجزأين متعقب للاخر (3) وفي هذه الكلم المذكورة: الجزآن مسموعان معا.
مخ ۲۶
اقسام الكلمة قال ابن الحاجب:
" وهي اسم وفعل وحرف " قال الرضى:
إنما قدم الاسم على الفعل والحرف، لحصول الكلام من نوعه دون أخويه، نحو:
زيد قائم، والمقصود من معرفة الكلم الكلام والأحوال التي تعرض له من الاعراب وغيره.
ثم قدم الفعل على الحرف، لأنه، وإن لم يتأت من الفعلين كلام كما تأتى من الاسمين، لكنه يكون أحد جزاي الكلام، نحو ضرب زيد، بخلاف الحرف، فإنه لا يتأتى منه ومن كلمة أخرى كلام.
فان قيل: يجب أن تكون الكلمة هذه الثلاثة معا، لان الواو للجمع، فيكون نحو: أذهب زيد، ونحو مر بزيد، كلمة، لأنه اسم وفعل وحرف.
فالجواب أنه كان يلزم ما قلت لو كان هذا قسمة الشئ إلى أجزائه كما تقول:
السكنجبين (1) خل وعسل، وما ذكره قسمة الشئ إلى جزئياته نحو قولك الحيوان إنسان
مخ ۲۷
وفرس وبقر وغير ذلك، ونريد بالجزئي ما يدخل تحت كلي، ويصح كون الكلي خبرا عنه، نحو: الانسان حيوان، وقولهم: الواو للجمع لا يريدون به أن المعطوف والمعطوف عليه يجتمعان معا في حالة واحدة، كما يجئ في باب حروف العطف، بل المراد أنهما يجتمعان في كونهما محكوما عليهما، كما في: جاءني زيد وعمرو أو في كونهما حكمين على شئ نحو: زيد قائم وقاعد، أو في حصول مضمونيهما، نحو:
قام زيد وقعد عمرو، بخلاف " أو " فإنها في الأصل لحصول أحد الشيئين، فلو قال:
الكلمة اسم أو فعل أو حرف لكان المعنى: الكلمة أحد الثلاثة دون الباقين.
بلى، ان أريد الحصر مع " أو " قدم " إما " على المعطوف عليه نحو: الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف، فتكون القضية مانعة الجمع والخلو، كما هو المذكور في مظانه.
وكذا كان ينبغي أن يذكره المصنف لان مقصوده الحصر بدليل قوله: " لأنها اما أن تدل.. " (1).
فإن قيل: إنك حكمت على الفعل والحرف أن كل واحد منهما كلمة، والكلمة اسم، فيجب أن يكونا اسمين.
قلت: إن أردت بقولك إن الكلمة اسم: أن لفظها اسم لدخول علامة الأسماء كاللام والتنوين عليها، فهو مغالطة لان معنى كلامك، إذن، أن الفعل كلمة من حيث المعنى.
ولفظ الكلمة اسم، وهذا لا ينتج أن الفعل اسم، لعدم اتحاد الوسط، وكذا ان أردت به أن لفظ (2) معنى الكلمة اسم، لأنها لفظ دال على معنى مفرد، وكل لفظ هكذا: اسم، لأنه يصح الاخبار عنه ولو بأنه دال على معنى مفرد كما تقول: ضرب دال على معنى مفرد، أو تقول: ضرب فعل ماض، فنقول: هذا أيضا مغالطة، لان معنى كلامك، وهو أن الفعل كلمة، وكل كلمة اسم: ان الفعل لفظ وضع لمعنى مفرد إذا أريد بذلك اللفظ معناه
مخ ۲۸
الموضوع هوله، كما في، صرب زيد، وكل لفظ هكذا: اسم إذا أريد به مجرد اللفظ، كما في قولك: ضرب فعل ماض، وهذا لا ينتج أن الفعل اسم لعدم اتحاد الوسط.
فإن قيل: فإذا كان نحو " من " و " ضرب " في قولك: من حرف جر، وضرب فعل ماض، اسمين، فكيف أخبرت عنهما بأن الأول حرف والثاني، فعل وهل هذا إلا تناقض؟
قلت: لم نرد أن " من " في هذا التركيب حرف، و " ضرب " فعل، بل المعنى أن " من " إذا استعمل في المعني الذي وضع له أولا نحو: خرجت من الكوفة: حرف، وكذا ضرب فعل ماض في نحو: ضرب زيد.
ومثله إذا قلت مدلول الفعل لا يخبر عنه، فإنك أخبرت عن قولك : مدلول الفعل، بقولك: لا يخبر عنه، لان المراد: مدلول الفعل إذا كان تحت لفظ الفعل، لا يخبر عنه وقولك مدلول الفعل ليس كذا.
وكذا قولك: الفعل لا يسند إليه، أي الفعل إذا كان بلفظه، نحو: ضرب زيد وقصدت معناه الموضوع هو له.
وكذا قولهم: المجهول مطلقا لا يحكم عليه، أي الشئ الذي لا شعور به أصلا لا يحكم عليه، ولفظ المجهول مطلقا، مشعور بمعناه إذ هو: ما لا نعرفه.
ففي جميع ذلك مبتدآن:
أحدهما محكوم عليه بشئ، وهو المذكور في لفظك، والاخر محكوم عليه بنقيض ذلك وهو المكنى بلفظك عنه.
فلا يلزم التناقض لان التناقض لا يكون إلا مع اتحاد الموضوعين (1).
مخ ۲۹
دليل انحصار الكلمة في الأقسام المذكورة قال ابن الحاجب:
" لأنها اما أن تدل على معنى في نفسها، أو، لا، " " الثاني الحرف، والأول إما أن يقترن بأحد الأزمنة " " الثلاثة، أو، لا، الثاني الاسم، والأول الفعل، " " وقد علم بذلك حد كل واحد منها ".
قال الرضي:
اعلم أن اسم " أن " ضمير الكلمة والمضاف محذوف، إما من الاسم أو من الخبر، أي لان حالها إما دلالة، أو لأنها ذات دلالة (1).
ويجوز أن يكون " أن تدل " مبتدأ محذوف الخبر، أي دلالتها ثابتة، ومثله قولك:
زيد اما أن يسافر أو يقيم.
واللام في قوله " لأنها " متعلق بما دل عليه قوله " وهي اسم وفعل وحرف "، إذ المعني:
الكلمة محصورة في هذه الأقسام، واستدل على الحصر بأن قال: هذا اللفظ الدال على معنى مفرد، أعني الكلمة إما أن يدل على معنى في نفسه أو على معنى لا في نفسه: الثاني الحرف أعني: الكلمة الدالة على معنى لا في نفسها، والأول، أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها، إما أن تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، أو، لا، الثاني، الاسم، أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، والأول الفعل، أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة.
فهذه قسمة دائرة بين النفي والاثبات فتكون حاصرة، أي لا يمكن الزيادة فيها ولا النقصان .
.
مخ ۳۰
فتبين بدليل الحصر حد كل واحد من الأقسام، لأنه ذكر فيه جنس كل واحد وفصله كما بينا، والمركب من الجنس والفصل هو الحد.
الكلام معناه وكيفية تركيبه قال ابن الحاجب:
" الكلام ما تضمن كلمتين بالاسناد، ولا يتأتي ذلك إلا في اسمين، أو في فعل واسم " قال الرضي:
إنما قدم حد الكلمة على حد الكلام مع أن المقصود الأهم من علم النحو: معرفة الاعراب الحاصل في الكلام بسبب العقد والتركيب، لتوقف (1) الكلام على الكلمة توقف المركب على جزئه.
ويعني بتضمنه الكلمتين: تركبه منهما وكونهما جزأيه، وذلك من دلالة المركب على كل جزء من أجزائه دلالة تضمن.
وجزءا الكلام يكونان ملفوظين، كزيد قائم، وقام زيد، ومقدرين كنعم في جواب من قال: أزيد قائم، أو، أقام زيد، أو أحدهما دون الاخر وهو إما الفعل، كما في: إن زيد قام أو الفاعل كما في: زيد قام أو المبتدأ، أو الخبر كما في قوله تعالى:
" فصبر جميل " (2).
والمراد بالاسناد أن يخبر في الحال أو في الأصل بكلمة أو أكثر عن أخرى، على أن يكون المخبر عنه أهم ما يخبر عنه بذلك الخبر في الذكر وأخص به.
فقولنا أن يخبر، احتراز عن النسبة الإضافية، وعن التي بين التوابع ومتبوعاتها.
مخ ۳۱
وقولنا في الحال، كما في: قام زيد، وزيد قائم، وقولنا: أو في الأصل ليشمل الاسناد الذي في الكلام الانشائي، نحو: بعت، وأنت حر، وفي الطلبي نحو: هل أنت قائم، وليتك، أو لعلك قائم، وكذا نحو اضرب، لأنه مأخوذ من: تضرب، بالاتفاق، وقياسه: لتضرب، بزيادة حرف الطلب قياسا على سائر الجمل الطلبية، فخفف بحذف اللام وحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال، بدلالة قولك فيما لم يسم فاعله: لتضرب، وفي الغائب: ليضرب، وفي المتكلم: لأضرب، ولنضرب، لما قل استعمالها.
وقولنا بكلمة، كما في: زيد قائم، وقولنا أو أكثر، ليعم نحو: زيد أبوه قائم، وزيد قام أبوه، فكان على المصنف أن يقول: كلمتين أو أكثر، وليس له أن يقول: الأصل في الخبر الافراد، لأنه لا دليل عليه، ويجئ فيه مزيد بحث (1)، إن شاء الله تعالى.
وقولنا: على أن يكون المخبر عنه أهم ما يخبر عنه... احتراز عن كون الفعل خبرا (2)، أيضا، عن واحد من المنصوبات في نحو: ضرب زيد عمرا أمامك يوم الجمعة ضربة،، وضرب زيد يوم الجمعة أمامك ضربة، فإن المرفوع في الموضعين أخص بالفعل، وأهم بالذكر من المنصوبات، كما يجئ في باب المصدر، وكان على المصنف أن يقول: بالاسناد الأصلي المقصود ما تركب به لذاته، ليخرج بالأصلي اسناد المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والظرف، فإنها مع ما أسندت إليه ليست بكلام، وأما نحو: أقائم الزيدان، فلكونه بمنزلة الفعل وبمعناه، كما في أسماء الافعال، وليخرج بقوله: المقصود ما تركب به لذاته: الاسناد الذي في خبر المبتدأ في الحال أو في الأصل، وفي الصفة والحال، والمضاف إليه إذا كانت كلها جملا، والاسناد الذي في الصلة، والذي في الجملة القسمية، لأنها لتوكيد جواب القسم، والذي
مخ ۳۲
في الشرطية لأنها قيد في الجزاء، فجزاء الشرط وجواب القسم كلامان (1) بخلاف الجملة الشرطية والقسمية.
والفرق بين الجملة والكلام، أن الجملة ما تضمن الاسناد الأصلي سواء كانت مقصودة لذاتها أو، لا، كالجملة التي هي خبر المبتدأ وسائر ما ذكر من الجمل، فيخرج المصدر، وأسماء الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والظرف مع ما أسندت إليه.
والكلام ما تضمن الاسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته، فكل كلام جملة ولا ينعكس.
وإنما قال بالاسناد ولم يقل بالاخبار، لأنه أعم، إذ يشمل النسبة التي في الكلام الخبري والطلبي والانشائي، كما ذكرنا.
واحترز بقوله " بالاسناد " عن بعض ما ركب من اسمين كالمضاف والمضاف إليه، والتابع ومتبوعه، وبعض المركب من الفعل والاسم، نحو: ضربك، وعن جميع الأنواع الأربعة الاخر من التركيبات الثنائية الممكنة بين الكلم الثلاث، وهي: اسم مع حرف، وفعل مع فعل، أو حرف، وحرف مع حرف.
وذلك لان أحد أجزاء الكلام هو الحكم، أي الاسناد الذي هو رابطة، ولا بد له من طرفين: مسند، ومسند إليه، والاسم بحسب الوضع يصلح لان يكون مسندا، ومسندا إليه، والفعل يصلح لكونه مسندا لا مسندا إليه ، والحرف لا يصلح لأحدهما.
والتركيب العقلي الثنائي بين الثلاثة الأشياء (2)، أعني الاسم والفعل والحرف لا يعدو
مخ ۳۳
ستة أقسام: الاسمان، والاسم مع الفعل أو الحرف والفعل مع الفعل أو الحرف، والحرفان.
فالاسمان يكونان كلاما، لكون أحدهما مسندا والاخر مسندا إليه، وكذا الاسم مع الفعل لكون الفعل مسندا والاسم مسندا إليه.
والاسم مع الحرف لا يكون كلاما، إذ لو جعلت الاسم مسندا فلا مسند إليه، ولو جعلته مسندا إليه فلا مسند، وأما نحو: يا زيد، فسد " يا " مسد " دعوت " الانشائي (1).
والفعل مع الفعل أو الحرف لا يكون كلاما لعدم المسند إليه، وأما الحرف مع الحرف فلا مسند فيهما ولا مسند إليه.
فظهر بهذا معنى قوله " ولا يتأتى " أي: لا يتيسر الاسناد إلا في اسمين، أو فعل واسم، والباء في قوله " بالاسناد " للاستعانة أي تركب من كلمتين بهذا الرابط، أو بمعنى " مع " أي مع هذا الرابط.
مخ ۳۴
الكلام على الاسم تعريفه قال ابن الحاجب:
" الاسم ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ".
قال الرضى:
لم يقتصر على ما تقدم، مع قوله " وقد علم بذلك حد كل واحد منها "، لأنه أراد أن يصرح بحد كل واحد من الأقسام في أول صنفه، والذي تقدم لم يكن حدا مصرحا به، ولا المقصود منه الحد، بل كان المراد منه الدليل على الحصر، قوله " ما دل " أي كلمة دلت، وإلا ورد عليه الخط والعقد والنصبة والإشارة، وإنما أورد لفظة " ما " مع احتمالها للكلمة وغيرها اعتمادا على ما ذكره قبل من كون الاسم أحد أقسام الكلمة في قوله " وهي اسم وفعل وحرف "، فكل اسم كلمة، لان الكلمة كلي، والاسم جزئي لها، وقوله " في نفسه " الجار والمجرور، مجرور المحل صفة لقوله " معني " والضمير البارز في " نفسه " لما، التي المراد منها الكلمة (1). كما أن الضمير في قوله قبل
مخ ۳۵
" على معنى في نفسها " للكلمة.
وقال المصنف (1): أن الضمير في قولهم: ما دل على معنى في نفسه، وقولهم: في غيره راجع إلى " معنى "، وأن معنى: ما دل على معنى في نفسه، أي لا باعتبار غيره، كقولهم:
الدار قيمتها في نفسها كذا، أي باعتبار نفسها لا باعتبار كونها في وسط البلد أو غير ذلك.
وفيه نظر، لان قولهم في حد الحرف: على معنى في غيره نقيض قولهم على معنى في نفسه، ولا يقال في مقابلة قولك قيمة الدار في نفسها كذا: قيمة الدار في غيرها كذا، بل يقال: لا في نفسها.
ومعنى الكلام على ما اخترنا، أعني جعل " في نفسه " صفة لمعنى والضمير لما: الاسم (2).
كلمة دلت على معنى ثابت في نفس تلك الكلمة، والحرف كلمة دلت على معنى ثابت في لفظ غيرها، فغير، صفة للفظ، وقد يكون اللفظ الذي فيه معنى الحرف مفردا، كالمعرف باللام، والمنكر بتنوين التنكير، وقد يكون جملة، كما في: هل زيد قائم، لان الاستفهام معنى في الجملة، إذ قيام زيد مستفهم عنه، وكذا النفي في: ما قام زيد، إذ قيام زيد منفي، فالحرف موجد لمعناه في لفظ غيره، إما مقدم عليه كما في نحو بصري، أو مؤخر عنه، كما في " الرجل "، والأكثر أن يكون معني الحرف مضمون ذلك اللفظ، فيكون متضمنا للمعنى الذي أحدث (3) فيه الحرف مع دلالته على معناه الأصلي، إلا أن هذا تضمن معنى لم يدل عليه لفظ المتضمن كما كان لفظ البيت متضمنا لمعنى الجدار ودالا عليه، بل الدال على المضمون فيما نحن فيه لفظ آخر مقترن بالمتضمن، فرجل، في قولك: الرجل، متضمن لمعنى التعريف الذي أحدث فيه اللام المقترن به، وكذا: ضرب زيد، في: هل ضرب زيد، متضمن لمعنى الاستفهام، إذ ضرب زيد، مستفهم عنه،
مخ ۳۶