قال أفلاذنوش المفسر: هذا ما ابتدأ أبقراط في أول ما وضع من علمه في هذا الكتاب الذي يسمى التفصيل فينبغي لنا أن نعرف (4) أنه لا بد من أن يكون لكل كتاب علم وضعه أحد من الحكماء ثمانية أوجه. منها الهمة والمنفعة والنسبة والصنف والتأليف والصحة والإسناد (5) والتدبير. وهذا تفسير ذلك أنه لا بد لكل من وضع كتابا من أن يكون له فيما وضع (6) منه همة، A ويكون له فيما وضع منه منفعة، وأن يكون له نسبة ينسب إليها، وأن يكون صحيحا، وأن يكون على صنف من أصناف الكتب معروفا، وأن يكون مؤلفا من أجزاء جمله (7) [P3] مختلفة، وأن يكون مسندا إلى وجه من وجوه الحكمة، وأن يكون له تدبير موصوف. فيقول إن أبقراط جمع هذه الأوجه الثمانية في هذا الكتاب. وكانت همته عظيمة لأنه كتاب محيط بأصول علم الطب كله يخبر بأسباب الأمراض وعلاجاتها فصار كتابا جامعا قاصدا. وكانت (8) منفعة ما وضع منه ليست بواحدة لأنه نافع لما فيه من المعرفة التي يحتاج إليها والعلاج الذي لا بد منه وأنه (9) نافع للفطن وغير الفطن وللمجتهد وذي الكسل والأديب والجاهل من أجل أنه كتاب زمام (10) للطب كتب بنوادر محكمة. فإن وقع في يدي فطن مجتهد أديب، طلب معرفة تفسير تلك النوادر وتكشيفها بتكشيف معانيها وما جمع من العلم فيها حتى ينتشط له في ذلك الرأي ويتبين له منه علم كثير. وإن وقع في يدي كسل جاهل غير لقن، لم يخطئه (11) من تصفحه تلك النوادر أن يتناول بعض العلم منها وما يكون له فيه منفعة. فهو كتاب كما قلنا نافع لكل من اطلع طلعته ممن اقتصر على قراءة نوادره ومن لم يرض ذلك دون استبراء ما فيه من العلم المحكم. وله نسبة ينسبها إلى تدبيره الذي دبره أبقراط فجعل علم نسبته كتاب التفصيل [P4] مديه (12) دبره تدبيرا مفصلا فألحق النسبة بالتدبير. وقد كان نسب كتبه على أربعة أوجه. فنسب (13) بعضها إلى فعل الإنسان مثل كتابه في تقدمة المعرفة لأن من شأن الإنسان تقدمة معرفة الأمر قبل أن يكون B بعلامات يراها. ونسب بعضها إلى فعل الشيء الذي وضع الكتاب فيه مثل كتابه في ماء الشعير، إنه ينسبه إلى ماء الشعير. ونسب بعضها إلى ما يدخل علينا عن خارج مثل كتابه في البلدان والمياه والأهوية لأن الذي ينفعنا منها أو يضرنا ليس منا ولكنه داخل علينا من قبل اختلاف حال البلدان والمياه والأهوية. ونسب بعضها إلى تدبير الكتاب الذي وضع مثل ما فعل في هذا الكتاب الذي سماه كتاب التفصيل لأنه فصله فصلا فصلا. وتفسير المفصل أنه قول جامع قاصد لأمور كثيرة وله صحة معروفة بفضل صاحبه الذي وضعه أنه أبقراط العميق الفكر المنفرد بما وضع من الكتب المشهورة بالعلم وهو هذا الكتاب وكتاب ماء الشعير وكتاب تقدمة المعرفة وكتاب البلدان والأهوية والمياه. وهذه كتب لا بد منها ، وسائر كتب الحكماء يحتاج إليها ويؤخذ منها الفذ. وتفسير ذلك أن الأشياء كلها توجد بوجهين: أحدهما ما لا بد منه، والآخر لما يحتاج إليه مما منه بد. فالذي (14) لا بد منه الطعام والشراب والخلاء [P5] والكسوة والمسكن، والذي يحتاج إليه ومنه بد الركوب وتضعيف الكسوة والطعام وما أشبه ذلك مما يتزين به الناس في دنياهم مما لو عدموه لاكتفوا بغيره مما لا بد منه. وكذلك كتب الحكماء ليس منها كتاب إلا وفيه ما لا يحتاج إليه. وأما كتب أبقراط فهي التي لا بد منها لأنه لا قوام للطب إلا بها. وله صنف من أصناف كتب الطب ذو وجهين (15) لأنه مفتاح علم الطب لا بد من له ابتداء به. وله تأليف وفصول بوجوه كثيرة على ما فسر أبقراط وجزأه جالينوس A من بعده على سبعة أجزاء. وله إسناد لأنه يسند إلى جزئي الطب التامين أحدهما ثبات معرفة الأمر بالعقل، والآخر تمام الفراغ منه بالفعل. وهذان الجزآن بمنزلة أصول لما يلحقها من فروع العلم وهي أجزاء ثلاثة: منها جزء معرفة الطبيعة، وجزء معرفة السبب، وجزء معرفة العلامات. ثم يتولد من هذه الأجزاء أجزاء أخر: منها جزء العلاج، وجزء الحمية، وجزء التسكين. وله تدبير لطيف موصوف (16) لأن أبقراط وضع جميع كتبه على ثلاثة أوجه من التدبير: منها وجه الحديث بأشياء كان (17) أكثر فيها الكلام، ووجه التفصيل مثل هذا الكتاب الجامع الكثير العلم بقليل الكلام، ووجه (18) ممتزج فيما بين الحديث والتفصيل. فينبغي لنا أن ننظر الآن في إحكام ما بدأنا به في أول [P6] ما وضع من هذا الكتاب إذ قال «العمر قصير والصناعة طويلة». فنقول إنه يلزم من أراد تفسير قول أبقراط ثلاثة أشياء: أولها تفسير كلامه الغريب بكلام العامة المعروف، والثاني إظهار ما في كلامه من خبيئة عقله ولطيف فطنته وشرح ذلك لمن طلب معرفته بكلام بين، والثالث أن نخبر بأسباب ما في كتابه من أصناف العلم حتى يصح ذلك ولا تكون (19) شبهة على طالبه. فنبدأ بتفسير الكلمة الأولى من كلامه إذ قال «العمر قصير ». فنقول إن اسم العمر واحد وهو منسوب إلى وجوه شتى، منها مسكن الإنسان في بلاد لم يزل فيه فنقول إن عمره كان ببلد كذا وكذا. ومنها حال المعيشة في الرخاء والشدة والصلاح والفساد، فيقال عمره كان صالحا أو فاسدا في رخاء أو شدة. ومنها طول حياة B الإنسان وقصرها، فيقال طويل العمر وقصيره. وهذا وجه يجر(ي) على مساكنة (20) النفس والجسد أو مفارقتها إياه. وهذا العمر عنى أبقراط بقوله «العمر قصير» يعني به بقاء النفس في الجسد. فنسأل أبقراط عن رأيه في هذه الكلمة فنقول: ما بالك يا أبقراط (21) قلت إن العمر قصير، وقد رأينا عمر الإنسان يبلغ عشرين ومائة سنة، فيخبرنا كتابه بجواب ما سألناه عنه من الكلمة الأولى (في الكلمة) التي [P7] تليها (22)، فنقول إن في الكلمة الثانية التي تقول (23) «الصناعة طويلة» بيان الأولى التي تقول (24) «العمر قصير» بقياس طول الصناعة. فإن قال قائل: كيف لنا أن نعرف (25) أن الصناعة أطول من العمر، قلنا: بحق الصناعة أن تكون طويلة من أجل أن لها جزئين تامين المعرفة بالعقل (26) والفعل بالعمل وأن لكل جزء منها (27) أجزاء أيضا غير المعرفة. فأجزاء المعرفة بالعقل (28) ثلاثة أجزاء: منها معرفة الطبيعة، ومعرفة السبب (29)، ومعرفة العلامات. وأجزاء الفعال (30) بالعمل ثلاثة أجزاء أيضا: منها العلاج بالأدوية، والعلاج بالقطع والبط والكي بالأيدي، والتدبير بالطعام (31) والشراب والأدهان والحمامات وما أشبه ذلك مما يدخل في فروع الصناعة (32). فمن أجل كثرة فروع الصناعة كان الأولون يرضون بلزوم بعضها وإحكامه. فكان بعضهم (33) يحكم العلاج بإسقاء الأدوية كلها التي تختلف والتي لا تختلف وبالفرغ من فوق ومن أسفل. وكان بعضهم يحكم العلاج باليد بالقطع والبط وجبر الكسر والكي وأشباه ذلك. وبعضهم يحكم التدبير A بالطعام والشراب والأدهان والحمامات (34) والإدفاء (35) والتبريد (36) وما أشبه ذلك لأنه من أراد إحكام بعض هذه الأجزاء لم [P8] يحكمها إلا بعد عناء ونصب فكيف بمن يريد أن يجمع ذلك كله، وهذه بعد أجزاء غليظة لأنها أجزاء الفعال (37) بالعمل. فأما أجزاء المعرفة بالعقل فأجزاء لطيفة (38) لا تحكم (39) معرفتها إلا من بعد طلب حثيث ومناجزة (40) واستعمال العقل وهو صاف صحيح لأن أجزاء المعرفة بالعقل معرفة الطبيعة ومعرفة السبب ومعرفة العلامات فمن أراد معرفة الطبيعة فلا بد له أن يعرف العناصر الأربعة الأولى (41) لأنها أمهات وأصول خلقت قبل كل شيء سوى دجى فرادى مرسلة ثم خلق بقية الخلق كله بائتلاف منها وتركيب واجتماع كلها أو بعضها؛ وأن يعرف طبائعها إذا انفردت وإذا ائتلفت وامتزاج (42) بعضها ببعض ومذاقاتها (43) وكيف تتألف وتمتزج وفي أي وقت وجزء من أجزاء السنة يكون مزاج كل واحد منها مع صاحبها، ويعرف ائتلاف ما بينها واختلافه، ويعرف غليظها من لطيفها وثقيلها من خفيفها ويابسها من رطبها وباردها من حارها، ويعرف أجزاء السنة الأربعة الربيع والشتاء والصيف والقيظ؛ ويعرف أن العناصر الأربعة هي الأرض والماء [P9] والهواء والنار، وأن طبائعها فرادى الأرض يابسة والماء بارد والهواء رطب والنار حارة، فإذا امتزج بعضها ببعض كانت الأرض باردة يابسة لامتزاج برودة الماء وكان (44) الماء باردا رطبا لمزاج رطوبة الهواء، وكذلك الهواء رطب B حار لمزاج حرارة النار، وكانت النار حارة يابسة لمزاج يبس الأرض لأن الخالق تعالى وعز جعل مسكن الماء في الأرض لأنها أثقل من الماء ومسكن الهواء في الماء لأن الهواء أخف من الماء (45) ومسكن النار في الهواء لأنها أخف من الهواء ورد حرارة النار وشعل المصابيح كلها إلى الأرض لتأخذ النار اليبس من الأرض فيستقيم مزاج العناصر كلها. المذاقات (46) ويعرف أن مذاقة الأرض حامضة (47) ومذاقة الماء مالحة ومذاقة (48) الهواء حلوة ومذاقة النار مرة؛ ويعرف أن مزاج الأرض والماء يكون في جزء الخريف لمكان نار الشمس في أسفل الفلك ومكان الماء في الهواء ونزوله على الأرض، ومزاج الهواء والماء يكون في الشتاء لما فيها من لطيف برودة الماء في الهواء، ومزاج الهواء والنار يكون في الربيع لتعالي نار الشمس في أعلى الفلك وتداخلها الهواء، ومزاج النار والأرض يكون في القيظ لهبوط نار الشمس في [P10] أسفل الفلك، وأن الأرض عند ذلك مخالف (49) تكون ردا (50) لها؛ ويعرف أن الماء ملائم بالبرودة للأرض مخالف للنار، والهواء ملائم للماء بالرطوبة (51) مخالف للأرض، والنار ملائم للهواء بالحرارة مخالف للماء؛ ويعرف أن الخلائق كلها التي خلقت من مزاج هذه العناصر الأربعة ليست بسواء في خلقتها لأن منها ما خلق من عنصرين وآخر مزاجه من ثلاثة عناصر وآخر مزاجه من أربعة عناصر A اجتمعت فيه؛ وأن الخلق أربع درجات يفوق بعضها بعضا في تلك الدرجات: فمنه خلق لا يتحرك ولا يرى ولا ينبت وهو في الدرجة الدنيا وهو خلق الأرض والجبال والحجارة، ومنها خلق أرفع من ذلك في الدرجة الثانية يرى وينبت ولا يتحرك وهو خلق الشجر والنبات كله، ومنها خلق أرفع (52) من ذلك في الدرجة الثالثة يرى وينبت ويتحرك لأن فيه نفسا تحركه ويحس بها وهو خلق الدواب كلها في البحر والبر والطير كله، ومنها (53) خلق أرفع من ذلك كله في الدرجة الرابعة يرى ويتحرك وينبت وينطق ويحس ويعقل وهو خلق الإنسان أتم الخلق وأكمله لما فيه من فضل العقل والمنطق. [P11] ذكر العناصر الأربعة وجواهرها ونعرف أجزاء العناصر الأربعة المؤتلفة في الإنسان أنها أركان جسده الأربعة وأن كل واحد منها على طبيعة عنصره ومذاقته وحالته قائم بها معروف، فيعرف أن المرة السوداء أرضية يابسة باردة غليظة ثقيلة تقوى في الخريف وأن البلغم مائي بارد رطب غليظ يقوى في الشتاء وأن الدم هوائي حار رطب يقوى في الصيف (54) وأن المرة الحمراء (55) نارية حارة يابسة لطيفة خفيفة تقوى في القيظ (56) وأن مذاقة المرة السوداء حامضة ومذاقة البلغم مالحة (57) ومذاقة الدم حلوة (58) ومذاقة الصفراء مرة وأن البلغم المائي ملائم للمرة السوداء الأرضية بالبرودة مخالف للمرة الصفراء النارية وأن الدم الهوائي ملائم B للبلغم المائي بالرطوبة مخالف للمرة السوداء الأرضية وأن المرة الصفراء النارية ملائمة للدم الهوائي بالحرارة مخالفة للبلغم المائي. ويعرف أن صحة الجسد مع اعتدال هذه المزاجات وبانتقاضها تحدث الأمراض كلها فيه وأن ذلك الانتقاض من وجهين: أحدهما إفراط بعض تلك [P12] العناصر على بعض بالزيادة، والوجه الآخر تغير بعضها عن مزاجه (59) في الحرارة والبرد واليبس والرطوبة والغلظ والرقة مع تغير المذاقة. ويعرف أن إفراطها ذلك وتغيرها يأتي من ثمانية أسباب. ذكر الأسباب التي منها التغييرات أولها من قبل الغالب على مزاج الجسد في الخلقة من الأركان الأربعة، وذلك من قبل مزاج أجساد الوالدين في اليبس وغيره. والسبب الثاني سن العمر في الحداثة والشباب والاكتهال والكبر. والسبب الثالث موضع البلد من غور أو نجد أو ريف أو بحر أو بدو أو حضر. والسبب الرابع جزء السنة من ربيع وشتاء وقيظ (60) وصيف. والسبب الخامس عادة الطعام والشراب من ثقيل أو خفيف أو نافع أو ضار. والسبب (61) السادس المعيشة في دعة أو كد أو شدة أو رخاء. والسبب (62) السابع صناعة العمل من سفان في ماء أو حداد قرب نارا وما (63) أشبه ذلك. والحد (64) الثامن العادة التي اعتادها مع المولد والتربية. وإن من قبل هذه الثمانية الأسباب يكون انتقاض اعتدال مزاج الجسد. [P13] وهذا ذكر A قوى الطبائع وما جاء فيها عن الفلاسفة وتعرف أن للطبيعة قوى معروفات على حدتها وأن للنفس قوى معروفات على حدتها وأن قوى الطبيعة عاملة في التربية والنبات وأنها في كل خلق ذي طبيعة مما له نفس وما لا نفس له وأن قوى النفس عاملة على خمس وهن السمع والبصر والشم والمذاقة والمجسة وأنها (65) في كل ذي نفس ليست فيما لا نفس له. ونعرف أن قوى الطبيعة هي المربية للجسد وأنها أربع قوى منها جاذبة وهي ناشفة ومنها ماسكة ومنها مغيرة ومنها مبرزة وأن الناشفة هي التي تورد الطعام والشراب في المعدة وأن الماسكة هي التي تمسكه في المعدة لا يهبط إلى الأعفاج حتى تميز صفوه من ثفله وأن المغيرة هي التي تطبخ ذلك الصفو في الكبد وتذيبه وتنفذه في الجسد وأن المبرزة هي التي تبرز الأثفال وتخرجها من الجسد. ونعرف أن لا بد لكل ما ورد المعدة من شراب أو طعام أن يتماشى في المعدة ويذوب في المعدة بحرارتها ورطوبتها وأنه لا يتماشى شيء أبدا ولا يذوب مع يبس وبرودة ولا رطوبة وبرودة ولا حرارة ويبس دون اجتماع الحرارة والرطوبة. [P14] وهذا ذكر قوى المعدة ووصف جواهرها وإن (66) للمعدة أربع قوى مثل قوى الطبيعة. منها قوة حارة ناشفة تقبل ما ورد عليها من المريء، فإن ضعفت ولم تستمر ما أتاها ردته فقأ. وقوة ممسكة تمسك ما ورد عليها حتى يتماشى ويذوب، B فإن ضعفت أحدرته إلى الأعفاج قبل ذوبه فلم ينتفع به الجسد. وقوة مغيرة تغير ما فيها بالتمشية والذوب (67) حتى يتميز ثفله من صفوه، فإن ضعفت عن ذلك برد ما فيها على حاله ولم يصل إلى الجسد منه منفعة. وقوة مبرزة تحدر الثفل الباقي من بعد ذهاب صفوه في الكبد إلى الأعفاج وتخرجه من الحلقة فافهم. وهذا ذكر قوى الكبد ووصف جواهرها وللكبد تلك القوى الأربع أيضا: ناشفة تنشف صفو الطعام والشراب المتميز في المعدة من ثفله، وممسكة تحبسه فيها إلى أن يبدأ بالنضج، وقوة هاضمة تغيره بطبخه لرطوبة الدم وحرارة المرة الصفراء وتنضجه حتى يحمر ويتدمى، ومبرزة تبرز ما طبخت وأنضجت من أجزاء الكيموسات، وهي الطباع الأربع بعضها [P15] من بعض. وتنفذ كل واحد منها إلى موضع كيموسه في مجار (68) خفية لطيفة بعد النضج فتحبس جزء المرة الصفراء في الكبد وتورد جزء الدم القلب وجزء البلغم الدماغ وجزء المرة السوداء الطحال (69) وتبرز ما فضل من مصالة ذلك الصفو بعد النضج فتنشفه الكليتان وهي مصالة صفو الرطوبات التي تنشف الكبد من المعدة بمنزلة مصالة اللبن من الجبن لأن في الكليتين قوى الطبيعة أيضا. وهذه القوى الأربع أيضا هي في الكليتين وجواهرها (70). قوى الطبيعة أيضا ناشفة جاذبة تجذب (71) تلك المصالة المبرزة من الكبد، وماسكة تمسكه حتى تنضجه أيضا، ومغيرة (72) تطبخ وتنضج البول وهو تلك المصالة حتى يتجزأ (73) ما فيه فينفرج A جزء الهواء متصاعدا ويرسب (74) مما (75) فيه من الجزء الترابي في أسفله ويصفو أفرعه (76) وهو الجزء المائي ثم تنشفه المثانة من بعد ذلك وتبرزه من الإحليل. ونعرف أن ورود الطعام والشراب إلى المعدة يجري مجرى بينا وهو المريء لغلظ ذلك قبل التمشية والذوب وأن أثفال ذلك لا تجري فيما بين ذلك إلى داخل الجسد وتمشي إلا بالتنشف لأن [P16] التنشف يصفيه ولا يقبل شيئا من الأثفال فلذلك وصل ما في المعدة من صفو الطعام والشراب ولطيفها إلى الكبد بالتنشف وليس من مجرى معروف وكذلك ينفذ في الجسد ما يطبخ من ذلك الصفو وهو أطيبه وألطفه ولأنه ينفذ في الجسد غذاء تربية أبدا ولا في غير الجسد من الخلق إلا من بعد الطبخ والنضج وكذلك تنشف الكليتين مصالة تلك الرطوبات من الكبد وتنشفها المثانة من الكليتين فصار تدبير التربية من خارج يجري في مجار (77) معروفة واسعة وخفية وتدبيرها في داخل الجسد يجري بالتنشف. فإذا أثبت ذلك كله معرفة بلغت جزء معرفة الطبيعة. وهذا ذكر أسباب الأمراض ثم ينبغي بعد ذلك المعرفة بجزء أسباب الأمراض من أين يأتي انتقاض (78) هذه القوى الطبيعية العاملة في المعدة والكبد والكليتين وتغير قوى النفس الخمس حتى يقع الضعف والمرض في البصر والسمع والشم والذوق والمجسة. ويعرف وجه ذلك B التغيير من أي عنصر هو من زيادة أو نقصان (79) من ذلك العنصر أو برد أو حر أو يبس أو رطوبة حتى يحكم معرفة جزء الأسباب. ثم يعرف بعد ذلك جزء العلامات. [P17] وهذا ذكر العلامات التي تعرض بها حالات الأمراض وهي علامات تعرف بها حالات الأمراض كلها الحادة منها، والمزمنة، وما يرجى برؤه منها، وما لا يرجى برؤه، وما يعرف به المرض الحاد من المزمن وقرب البرء والموت من بعدهما. وهي علامات تسع لا بد لكل من طلب الطب من إحكام معرفتها: أولها اللون (80) في الوجه وغيره وما يظهر من صحته وتغيره؛ والثانية إحكام النظر في المجسة (81)؛ الثالثة إحكام معرفة البول؛ الرابعة السؤال عن النوم وحسن النظر فيه وما يحدث معه؛ والخامسة إحكام النظر في العرق ومعرفة ما يأتي منه؛ والسادسة معرفة النفث وما يجيء من أصنافه من الأمراض التي يحتاج فيها إلى النظر فيه؛ والسابعة معرفة الاختلاف وما يظهر معه مما يحتاج إلى النظر فيه. ثم ابتدأ أيضا فقال: ولهذا كله وغيره مما يحتاج إليه في صنعة الطب من معرفة ما في الأعشاب والأشجار وأصولها وفروعها وورقها ونوارها وثمرها وزرعها وطعومها وألبانها ولحائها من المنافع وما في المعادن من منافع الأجساد المعدنية والكباريت وما في دواب البر (82) والبحر والسباع [P18] والطير وما في أجسادها وعظامها وشحومها ودمائها وألبانها ومراراتها وأبوالها وزبولها. A (82b) وإنا نجدها من المنافع ومما في غير ذلك مما لا يحيط به علمنا (83).
مخ ۹