وكان البارون «دي لينس» مع كثرة ما رآه من البلاد لا يتمالك من العجب لدى نظره هذه المدينة الفائقة ذات المناظر الشائقة، تدخل في البحر كأنها تقتحم أهوال الدأماء، وتتوسد جبالا تأتزر قممها بالسحاب وتعتم بالثلوج الغراء، دورها محكمة البنيان، وأشجارها باسقة الأفنان، وهي تجمع بين مرافق البر والبحر والجبل والسهل.
غير أن أفكار البارون لم ترق بعد كي يلتهي بمحاسن بيروت، ولما كانت خواطره كلها متجهة إلى مصيف سعادة القنصل «ب» ما لبث أن ركب العربة في غد ذلك اليوم ونزل عند الضحى أمام الدار الموصوفة آنفا، فأسرع لاستقباله أهل البيت وتحفوا به وبالغوا في إكرامه حتى نسي بعد هنيهة كل عناء السفر.
والحق يقال إن منزل المسيو «ب» كان يجمع كل أسباب الهناء والراحة، وأصحابه ممن يراعون حقوق الضيف، وهم علاوة على ذلك متصفون بكل ما يجمل الناس من الفضائل الأهلية والآداب الإنسانية.
فما رسخت قدم البارون في هذه الدار حتى انتعشت روحه وشعر بعودة قواه بين أصحاب لم تشب أخلاقهم شائبة، ولم يعكر صفاء مودتهم كدر، فشتان بين ما وجده عندهم من الأنس ورغد العيش وبين أيامه السابقة في عاصمة اليونان؛ إذ كانت تحدق به هموم رتبته فلا يرى مناصا من مخالطة قوم أعماهم الجخف واستفزهم حب الذات، فكان يتنسم في وسط الجبال الريح الطيبة وهو يتهنأ بنسيم الحرية.
ثم أخذ يتجول بصحبة القنصل في الأنحاء المجاورة لمنزله، وربما كانا يتسنمان صهوات الخيل فتارة يطويان البيد وأخرى يهبطان إلى الوديان أو يسعيان في الجبال للصيد والقنص.
ومجمل القول: أن البارون كان يصرف حياته في الهناء بعيدا عن ضوضاء العالم وعن مجالس المسامرات الباطلة التي لا تجدي القلب راحة.
إلا أن ما زاد البارون بسطا وانشراحا إنما كان اجتماعه مع لفيف عائلة القنصل «ب» في طرفي النهار، فينبذ عندئذ كل تكلف، ويطلق لعواطفه العنان، ويقضي بحديث أهل الدار ساعات يعدها من أهنأ زمن حياته.
وكان منذ أول يوم وصوله شعر قلبه مائلا إلى ابنتي القنصل؛ لما وجد فيهما من السجايا الفريدة، وهما شعبتا أصل واحد نتقتهما أمومة في اليوم ذاته.
واسم الأختين «سوسنة» و«وردة»، لم يكد عمرهما يربي على الثماني عشرة سنة، وهما مع ذلك تتشابهان قدا وحسنا.
أما مولد الفتاتين فكان في أرض المغرب لكنهما نمتا وترعرعتا في الشرق، فجمعتا بين خصال الخافقين، فكنت ترى فيهما سذاجة البلاد الشمالية مدمجة بشيء من ترف أهل الشرق ورزانة طباعهم، فتمتزج بشخصيهما أوصاف كلا الصقعين امتزاجا رائقا.
ناپیژندل شوی مخ