الحوار مع الآخر يعني في نظرنا حوارا مع آخر مغاير قوميا وثقافيا واجتماعيا وفكريا .. إلخ، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك دائما؛ إذ قد يكون الآخر هو الذات نفسها، تاريخا وثقافة وأداء .. ذلك أن الذات المجتمعية عملية لها وجودها التاريخي متعدد المراحل، في تفاعل حيوي مع الواقع والسياق المحلي والإقليمي والعالمي، تفاعل بين ثقافات واقتصاد وعلاقات، بل وقوى قسر وهيمنة. إنها الذات كامتداد تاريخي فاعل أو كما نسميه امتدادا أو فعلا حضاريا وليست هي كامتداد معرفي ثقافي، ذلك لأن الثقافة والمعرفة كلتيهما منتج العقل الحضاري المتطور زمانا ومكانا. ومن هنا يمكن وصف الذات المجتمعية بأنها موقف وخطاب أو محصلة موقف.
لذلك فإن الذات المجتمعية في وضعها الأمثل فاعلة مؤثرة ومتفاعلة؛ ومن ثم متغيرة في تطور تكاملي. ويجري الحوار دائما كنوع من المونولوج بين واقع راهن له مقتضياته من حيث الفعل الإبداعي والمنتج المعرفي والثقافي وبين الذات المجتمعية في حاضرها وموروثها، بين ضرورات الانطلاق من قيود ومحددات حضارة الماضي إلى قيود ومحددات حضارة جديدة. إنه حوار بين السابق والراهن وصولا إلى مستقبل لاحق رهن الوعي والإدراك والإنجاز الإبداعي. إنه فعل التكيف والمواكبة حفاظا على البقاء وتأكيدا لدينامية الوجود، وخوفا من الجمود والركود الذي يعني العيش بغير زمن أو تاريخ؛ حيث الزمن والتاريخ هما الفعالية المجتمعية الإبداعية.
هنا تواجه الذات نفسها وتدخل في توتر بين السكون والتغيير، بين إيثار الحاضر المألوف أو تأكيد قوة الدفع للتجديد في مواكبة وتحد ومنافسة مع ماضيها وواقعها ومع سياقها الإقليمي والعالمي، وهو سياق متغير أبدا ويفرض تحديات جديدة باطراد.
ويتلخص هذا المشهد في عبارة التفاعل الثقافي المتوتر على أصعدة متباينة ومحتويات متنوعة، حوار بين ثقافة الماضي التي ترسخت مرحليا ولفترة من الزمن ونسميها التقليد، وثقافة جديدة هي وليدة فعل مجتمعي ابتكاري جديد، ووعي بتحديات السياق الإقليمي والعالمي. وأن ما نشير إليه باعتباره حوارا مع الذات ماضيها وحاضرها ورؤيتها للمستقبل هو ما نعنيه بالحوار بين التقليد والتجديد، وهو حوار مطرد ومتصل أبدا مع اطراد فعالية المجتمع، ولا ينقطع ويتوقف إلا حين يصاب المجتمع بداء الركود ومن ثم التخلف. ويعني الحوار بين التقليد والتجديد أيضا مراجعة الذات لنفسها، لحصادها ومتاعها الموروث ومدى ملاءمته ليكون قوة دفع على طريق التغيير والتكيف الحضاري والبناء في ضوء فهم عقلاني نقدي للذات. إذن الموروث من حيث هو وعاء ثقافي يشبه المياه الجوفية المتجددة أبدا بفضل الفعل الإبداعي المتجدد أبدا، وليس ينبوعا محدودا جف عطاؤه مع جمود أصحابه.
لذلك فإن الحوار بين التقليد والتجديد ليس قاصرا على مرحلة تاريخية بعينها ولا ثقافة تقليدية بذاتها، وإنما هو مبدأ مطرد. وليس غريبا أن تنبه الفقهاء والحكماء من السلف في عصور النهضة والتغيير الإبداعي إلى هذه الحقيقة وعمدوا إلى تأكيدها وإن نسيها الخلف في عصور الردة والتخلف. مثال ذلك أن قال الفقهاء قديما: «النص متناه، وقضايا الحياة نهر دافق غير متناه»، وهو ما يعني توترا مطردا بين حرفية النص ودينامية الحياة. وتتمثل حكمة هذا القول في استحالة حصر الحياة وقضاياها داخل إطار نص نظنه قابلا للصدق في كل زمان ومكان. وبديهي أن حصر قضايا الحياة في نص مضى زمانه، أو نص غريب عن مكانه، ينطوي على تناقض مع طبيعة الحياة، ويمثل محاولة عقيمة لفرض الجمود على الحركة. وطبيعي أن الجمود أو الالتزام بحرفية الموروث وأبديته في سياق التفاعل داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات إنما يعني شللا محليا .. شلل في الفكر وشلل لفعالية الإنسان/المجتمع؛ وبالتالي العجز الكامل عن التكيف وعن مواكبة التغيير ؛ مما يفضي بالمجتمع إلى تسليم أو لنقل الاستسلام للآخر القادر على التطوير المطرد.
ولعل من المفيد أن أوضح قبل الاستطراد أن فكرة العودة إلى الموروث الأصيل لها ما يبررها أثناء الاستعمار ومعركة الاستقلال؛ إذ إن الغازي عادة يسعى إلى تجريد المجتمع من ثقافته/هويته؛ لذا فإن دعامة المقاومة كردة فعل هي الحفاظ على الأصل والتشبث به وتأكيد الذات المستقلة .. إنه الأنا القومي الوطني الثقافي .. وثقافة الاستعمار هي الآخر العدو. ولكن ثقافة الاستعمار تحمل ضمنا دلالة مكانة وامتياز؛ لأنها ثقافة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يفتقر إليه البلد الثائر. وهنا نجد الموقف من ثقافة الاستعمار موقفا ينطوي على نقيضين: رفض وقبول؛ ولهذا يخطئ البلد الذي يقف عند غاية قوامها الرفض فقط والعودة إلى الأصل، وإنما يتكامل مع الرفض موقف هو حشد القوى المعنوية والمادية للمجتمع من أجل التطوير والنهضة والتقدم واستيعاب روح العصر، وهي اليوم العلم والتكنولوجيا.
لذلك نقول: اتصف عصر الاستعمار وما بعد الاستعمار بأنه عصر المواجهات الثقافية بين الموروث والوافد، وعصر المراجعة النقدية المنهجية للموروث والمستحدث محليا وعالميا في ضوء مقتضيات التطوير. وتباينت مواقف الشعوب في تعاملها مع الجانبين. تولدت لدى بعض البلدان روح المراجعة النقدية قبولا ورفضا إزاء الوافد والموروث لتأكيد الذات في سعيها لإعادة بناء نفسها وتعبئة قواها لمواجهة تحديات النهضة والتقدم، ورأى هذا الفريق أن الهوية عملية أو فعل تاريخي يكتمل مرحليا بفضل الفعالية. وتولدت لدى البعض الآخر روح الانطواء والانكفاء أو لنقل الانتصار للموروث عبر الهرب من المواجهة .. والانتصار للماضي عبر الهرب من المستقبل أو على حساب المستقبل. ونلحظ أن هذه الشعوب أكدت ذاتها بالابتعاد عن فعل التحدي القائم على النهضة والتطوير وتوطين روح وأسس وقواعد وإمكانات العلم والتكنولوجيا وإن قنعت بالتحدي كلاما ومفاخرة انطلاقا وتأسيسا على إنجازات ومفاخر الماضي. ورأى هذا الفريق أن الهوية جوهر كامل، اكتمل في مرحلة ما هي مرحلة أيديولوجية تعود إلى الماضي. وينطوي هذا المذهب على نفي للفعالية ، فعالية الإنسان المطردة والمتصلة في تطور ارتقائي على مدى مراحل التاريخ، وينطوي على نفي لمؤثرات السياق الاجتماعي أو البيئة المحلية أو العالمية.
ويزداد توتر الجدل بين الموروث والمستحدث حدة وخطرا حين يحمل الموروث - اعتسافا - صفة المقدس لفرض الالتزام القسري بالنص وتعميم تأويلاته في شئون وقضايا الحياة المتغيرة بطبيعتها. ويسود وهم المطابقة أو الخلط بين ما هو من شئون الدين (العبادات) وما هو من شئون الفعل الحياتي المنوط بالعقل العلماني؛ أي التفكير عقلا في شئون الدنيا.
ولقد عاشت شعوب في ثقافة لها قوة دمج طاغية ومتماهية مع الدلالة الدينية والقيم الأخلاقية باسم التراث الديني الذي يتسع خطأ ليشمل السياسي والاقتصادي .. إلخ، ويمثل محتوى الوعي الاجتماعي أو أيديولوجيا معنى الحياة. وهذا هو حال الشعوب التي تعثرت خطاها على طريق النهضة وإن علا صوتها باسم المقدس، فظلموا المقدس وظلموا أنفسهم وعاشوا خارج الزمان، بل وبغير مكان؛ إذ أصبحت بلادهم قسمة بين أصحاب القوة والنفوذ.
نجد هذا واضحا جليا في تجارب الشعوب شرقا وغربا، حاضرا وماضيا .. هكذا كانت أوروبا على مدى مرحلة امتدت بضع قرون.
ناپیژندل شوی مخ