ولو أنه سيق اضطرارا إلى رسالة من رسالات الدعوة لما وجد في نفسه طبيعة الدعاة؛ لأنه خلق بطبيعة الحكيم المتأمل ولم يخلق بطبيعة القلق المناضل المدفوع إلى تبديل ما يخالفه من أمور زمنه، وفي وسعه أن يحيط من زمنه بخيره وشره ووفاقه وشقاقه، وليس عسيرا عليه أن يصنع الهوادة مع الحياة على علاتها كيف كانت، وكيف كان.
تتراءى لنا هذه الطبيعة فيه من موقفه بين مذاهب الخلاف في زمنه، وهو من أكثر العصور مذاهب خلاف.
كان فيه خلاف بين الإنسانيين المجددين وبين المحافظين الجامدين، وكان فيه خلاف بين البابويين والمحتجين على البابوية، وكان فيه خلاف بين البابويين في داخلهم من المسلمين بالواقع ومن المعارضين القائلين بالرجعة إلى سنة السلف الأولين ، وكان فيه خلاف بين المتطهرين أنصار الحجر والشظف وبين المترخصين أنصار الهوادة والسماحة، وكان فيه خلاف بين المدرسة التجريبية ومدرسة الفلسفة الإغريقية اللاتينية، وكان خلاف العصر في السياسة بين شيعة الأسرة الذاهبة وشيعة الأسرة المقبلة أشد من خلاف المختلفين على مذاهب الدين والعلم والفن والأخلاق.
وأين كان شكسبير من كل هذا؟ كان في حومتها وكانت كلها في ميزانه بأقدارها وأثقالها، ولم يكن هو ذاهب القرار مختل الوزن بين كفتيها.
هل كان بابويا؟ هل كان بروتستانتيا؟ هل كان منشقا على الكنيسة متبعا لنحلة من نحل المنشقين عليها؟ هل كان من المتطهرين؟ هل كان من الإنسانيين؟ هل كان على عقيدة أو كان منكرا لا يؤمن بدين؟ ...
دافيز ريتشارد القس الكاثوليكي المتوفى سنة 1506 يقول عنه إنه مات على مذهب الكنيسة البابوية، ويدون ذلك في أوراقه التي وجدت بعد موته ولم يعدها للنشر أو الدعاية. وفريب
Fripp
المتوفى سنة 1931 يقول إنه كان من الغلاة في مذهب البروتستانتية، وهو مؤرخ من مترجمي الشاعر المتأخرين ولكنه تولى أمانة التراث الشكسبيري في قريته وتخصص في إلقاء المحاضرات عنه في أندية العواصم الإنجليزية، وشمل بدراسته تراجم أصدقائه وصحبه وتاريخ ستراتفورد في جملته، وهو الذي قال عن الشاعر إنه كان أديبا موفور الثقافة واسع الاطلاع.
وغير هذين يقولون غير هذا وذاك، ولكنهم يأخذون جميعا بالقرينة والاستنتاج من سيرته وأقواله في رواياته، ولا يذكرون لنا خبرا قاطعا عن مذهب معلوم كان ينتمي إليه.
ومن أمثلة هذه القرائن أن القس الذي قام بعمادته كان من غلاة المتشيعين لمذهب البروتستانتية، وأن الشاعر كانت له صدقات لبيوت من معاهد الإحسان لا تتبع الكنيسة البابوية، ولكن القرائن من هذا القبيل لا تقطع بانتمائه إلى البروتستانتية إلا إذا قطعت بانتماء أبناء ستراتفورد جميعا إليها، إذا كان قس كنيستها يقوم بتعميد جميع أبنائها، وكانت صدقات الشاعر تعم المحتاجين إليها من أبناء القرية ولا تخص فريقا منها.
ناپیژندل شوی مخ