فهجرته من قريته في الموعد الذي هاجر فيه بعد أن عال وثقلت نفقته على أهله وثقلت نفقتهم عليه، وولد له في سنة الهجرة توأمان، وأبوه يخسر جاه الوظيفة وجاه التجارة في تلك السنة ولا يحسن بابنه الشاب في نحو العشرين أن يبقى كلا عليه، وباب الهجرة مفتوح على مصراعيه أمام شبان القرى والعواصم مع بعوث السلم والحرب في المشرق والمغرب.
وكما هجر قريته يوم اضطر إلى الهجرة عاد إلى الظهور يوم استطاع أن يظهر بعمل مرضي موفور الكرامة لا يخجله أن ينتسب إليه إذا استعان بمورده منه على معونة أهله.
ولقد كف عن الكتابة قبل الخامسة والأربعين، فكان قعوده عن عمله الناجح من غرائب سيرته التي لا بد لها من تأويل لا يستغربونه كما يستغرب من المؤلف الناجح هذا القعود في عنفوان قواه، فلماذا لا يكون هذا التأويل أنه لم يكتب ولم يقعد عن الكتابة، وإنما كتبت له الروايات والقصائد ومات كاتبها المزعوم فانقطع في وسط الطريق.
ولكن الخامسة والأربعين، أو نحوها، ليست بمنتصف الطريق عند من يبلغ أمده في الثانية والخمسين، وليس المضي في الكتابة بالعمل الميسر لمن يشرف على مسرحه ويشرف معه على مسرحين كبيرين له فيهما حصة الشريك وحصة الخبير بشئون التمثيل والإخراج، وقد تشغله من قبل أسرته وعشيرته أعمال تتجدد وتتكاثر عاما بعد عام، على قلة المعين وشدة العناية بمن يعولهم هنالك من صغار أو كبار.
ونجاح المؤلف في كتابة الروايات لا يعني أنه يملك باختياره أن يمضي في كتابتها إلى غير انتهاء، فربما كان الانتهاء إلى القمة غاية شوط النجاح، وربما كان المؤلف قد استنفد حاجته وحاجة عصره إلى هذا النمط من الروايات كما ظهر من هبوط منزلة المسرح بعد عهد الملكة اليصابات بقليل.
وقد أقام الشاعر في لندن ما أقام فلا نخال أن مقامه بها زهده في معيشة الاستقرار والسكينة بين أحضان الطبيعة؛ إذ كانت لندن في أوائل القرن السابع عشر تستهل عهد العظمة والصولة ولكنها كانت أبعد شيء عن الطمأنينة والدعة، وكانت تجتذب إليها طلاب المغامرة والمخاطرة وتضطرب بلواعج النزاع على مذاهب الدين ومذاهب الفكر ومآرب السياسة بين بيوت الملك وأشياع المتألبين لها من أصحاب الدولة الدائلة أو أصحاب السلطان القائم، وقد رأى شكسبير فيها مصارع خمسة أو ستة من أصدقائه النبلاء والمتأدبين، طاحت رؤوسهم أو نكبوا في مناصبهم وأموالهم، ولم يسلم صاحبه لسيستر من بينهم بعد الحكم عليه بالموت إلا لما صادفه من الحظ والحظوة في أعين الملكة التي كانت تدنيه وتقصيه على حكم الدسيسة والفتنة، ولم يسلم صديقه الشاعر مارلو من الاتهام بالكفر ولا من الاغتيال المريب مع اتصاله الخفي بعيون الدولة وجواسيسها، وليس من شأن هذه الحياة القلقة أن تصرف رجلا في مزاج شكسبير عن الحنين إلى قريته ومآلف صباه، بل لعلها عجلت بعزيمة العودة إليها وجعلت هذه الراحة أمنية من أماني النجاح في عمله، وقد يحن مثله إلى اللياذ بأحضان الطبيعة ولو لم تربطه بها مآلف الصبا وأواصر الجيرة والقرابة.
وقد تقدم أن المتشككين حسبوا من غرائب هذا القروي الذي خرج من مدارس الريف قبل أن يكمل تعليمه فيها أنه يعرف من مراسم القضاء ومصطلحات المحاكم ما تحتويه الروايات المنسوبة إليه، ولكن هذه النشأة القروية - نشأة شكسبير خاصة - أحجى أن تمنع العجب وإن كانت لا تمنع الإعجاب، فإنه نشأ في بيت يكثر فيه الكلام عن القضايا والدعاوى ويعمل أبوه في مجالسها ومنتدياتها، وما لم يعرفه من وظيفة المجلس فهو خليق أن يعرفه من عقود الصفقات والمعاملات التي سيق إليها في حالتي رواجه وكساده، وخليق بابنه الأكبر أن يزداد علما بأحاديث القضايا والذرائع القانونية بعد هجرته من القرية إلى عاصمة المملكة في عصر المحاكمات والتهم والوشايات، وهي من ضروب الأحاديث التي تطول جرائرها إلى زمن بعيد، ولا تخلو حواشي النبلاء وحلقات الأدب والفن من اللغط بها والتشدق بعباراتها وادعاء العلم بخفاياها والتشيع لهذا أو ذاك من المدعين أو المدينين فيها.
أما العلم برياضة الصيد فلا يستغرب من القروي المقيم في الريف، ولا سيما الريف الذي ولد فيه الشاعر واشتغل فيه بتربية الحيوان ورعايته على مقربة من مروج الصيد المشهورة في الأقاليم الإنجليزية، ومن عادة المشاهدين للصيد أن يشهدوه في الخلاء وعند أرباض المدن ولا يشهدوه حيث يقيم النبلاء في عمائرهم وقصورهم، ومنها ما لم يكن محجوبا عن شكسبير أيام انتمائه إلى رعاة المسرح من أولئك النبلاء.
ولنسأل ما شئنا أن نسأل عن غرائب هذه العبقرية العالمية فإننا لا نهتدي إلى جواب سؤال منها إذا ابتعدنا بها عن قريته وأسرته، ولعلنا حين نقترب بها من القرية والأسرة لا نحتاج إلى سؤال.
الرجل
ناپیژندل شوی مخ