وأصدق ما تقال هذه الكلمة حين تقال عن وليام شكسبير، صاحب الروايات التي امتلأت بعجائب السير من وصفه ومما صنعه على يديه، ولا عجيبة في سيرته من يوم مولده إلى يوم وفاته، إلا ما كتبه بقلمه وابتعثه على مسرح التمثيل ثم أبقاه على مسرح الحياة كأبقى ما يبقى الخلائق الأحياء.
إلا أننا - على ما يقال في أحاديث الأرواح والأطياف - لا نبحث عن العجائب إلا وجدناها أمامنا، وإن لم نجدها على تقديرنا وحسباننا، ولعلنا لا نبحث عن العجائب إلا لأنها تستدعينا وتتخايل من وراء حجابها لنلقاها وتلقانا.
إن عظمة شكسبير أعجوبة خارقة، ولكننا لا نبحث عنها لأننا نراها حيثما رأينا شكسبير في عمله، ورأينا أنه عمل عظيم قليل النظر بين أعمال النابهين على غراره.
ولكن العجيبة في هذه السيرة التي لا عجب فيها أنه ولد حين ولد، وأنه رحل من مسقط رأسه حين رحل عنه، وما من عجب في مولد أحد كما يولد سائر الناس ولا في هجرته من مسقط رأسه كما هاجر في زمنه مئات وألوف، ولكننا نعجب لهذا وذاك؛ لأنهما توفيق من الحوادث يستوقف النظر ولو حسبناه في عداد المصادفات؛ لأن المصادفات من هذا القبيل جديرة بالتنبيه والتسجيل.
ولد شكسبير سنة 1564، في الوقت الذي نشأ فيه المسرح الثابت بخانات لندن وأصبح من ملاهي العاصمة التي لا يستغني عنها أبناؤها ومن يرتادون خاناتها من وفود الريف، وعمد أصحاب الفرق التمثيلية إلى إقامة المسارح خارج أسوار المدينة بنجوة من تشريعها حين اشتدت وطأة الرقابة عليها من جانب عمدة العاصمة وزملائه في إدارة مجلسها، ثم غلبت رغبة النظارة من الخاصة والعامة في هذا الفن الجديد فاجتاحت أمامها عناد المجلس وبقايا العرف الموروثة وصلابة المتطهرين في مقاومة كل بدعة تدخل فيما يسمونه بالملاهي أو الألعاب، فأذنت الملكة بإقامة المسارح في المدينة وسوغت أمرها بما اشترطته آنفا من اجتناب المساس بالدين والأخلاق وشؤون الحكم فيما يعرض على مسارح التمثيل من قصة أو غناء، وعادت الأوامر الملكية التي تخطت تشريع المدينة في هذا الصدد؛ فأكدت ما فرضته من قبل من شروط الاستقامة و«حسن السلوك» فيمن يشتغلون بهذه الصناعة، فلا يقبلون في زمرة الممثلين بالمسارح الثابتة إلا بشهادة من نبيل أو وجيه معروف عند ولاة الأمور.
وهاجر شكسبير إلى العاصمة حوالي سنة 1586، بعد ارتفاع الحظر على التمثيل فيها بقليل.
هاجر إلى العاصمة وهو في نحو الثالثة والعشرين من عمره؛ لأنه كان يعول أسرة عجز عن الإنفاق عليها وتدبير معيشتها بوسائله الميسورة له ولأهله في الريف، وكان أهله من الريفيين ذوي اليسار، فأصابت أباه عسرة وهو في الثانية عشرة، وعاش في كفالة أبيه إلى ما بعد زواجه على اضطرار قبيل بلوغه العشرين، فلم يطق أن يضطلع بأعباء أسرته بعد أن تزوج وولد له الأبناء، وأوشك أن يطالب بالمشاركة في معونة أبيه.
ترى هل كان يهجر الريف إلى المدينة لو دامت لأسرته النعمة التي توارثتها من أسلافها؟
ترى هل كان يخطر له أن يشتغل بالتمثيل لو بقي التمثيل كما كان قبل مولده صناعة من صناعات الأفاقين والجوالين الذين حشرهم العرف والقانون في طغمة اللصوص والطرداء المنبوذين؟
أغلب الظن أنه كان يطاوع ملكة الشعر، فينظم القصيد كما نظمه أمثاله من الموهوبين، ويبلغ فيه غاية ما بلغه من الإبداع في مقطوعات الأغاني والموشحات أو في أقاصيص الغزل وتراجم الأساطير، وغاية ما بلغه في هذا الفن يسلكه في عداد المئات، أو الألوف، من شعراء الأمم في مختلف اللغات، ولكنه لا يرفعه إلى منزلة الآحاد الذين لا تنطبق على عدهم أصابع اليدين، كما ارتفع - بموازين النقد جميعا - في فن الرواية المسرحية: فن الخلق والإبداع في تصوير النفوس وتصوير العلاقات بينها على السواء.
ناپیژندل شوی مخ