تمهيد
1 - نبأ من القاهرة
2 - نبوءة أبي زهرة
3 - شجرة الدر
4 - ملوك أربعة!
5 - غيرة الأنثى
6 - طفل ملك
7 - ملك في قفص
8 - ريبة وقلق
9 - أشواك على الطريق
10 - تدبير وكيد
11 - حساب الماضي
12 - دار على النيل
13 - مساومة على الموت!
14 - هزيمة البطل!
15 - كبير الأمناء
16 - عرش وزوج
17 - قلوب موزعة!
18 - غدر وثأر
19 - ضيافة في سجن
20 - الجاشنكير يحكم!
21 - دولة تركمانية!
22 - البحث عن رجل!
23 - لمن الملك؟
24 - سباق إلى الموت
25 - أشجان الملك!
26 - أوهام أنثى!
27 - الخاتمة
أعلام مشهورة وردت في القصة
تمهيد
1 - نبأ من القاهرة
2 - نبوءة أبي زهرة
3 - شجرة الدر
4 - ملوك أربعة!
5 - غيرة الأنثى
6 - طفل ملك
7 - ملك في قفص
8 - ريبة وقلق
9 - أشواك على الطريق
10 - تدبير وكيد
11 - حساب الماضي
12 - دار على النيل
13 - مساومة على الموت!
14 - هزيمة البطل!
15 - كبير الأمناء
16 - عرش وزوج
17 - قلوب موزعة!
18 - غدر وثأر
19 - ضيافة في سجن
20 - الجاشنكير يحكم!
21 - دولة تركمانية!
22 - البحث عن رجل!
23 - لمن الملك؟
24 - سباق إلى الموت
25 - أشجان الملك!
26 - أوهام أنثى!
27 - الخاتمة
أعلام مشهورة وردت في القصة
شجرة الدر
شجرة الدر
قصة تاريخية
تأليف
محمد سعيد العريان
تمهيد
1
تتحدث هذه القصة عن «شجرة الدر» الملكة المشهورة في التاريخ، التي حكمت مصر في منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
ويعدها بعض المؤرخين آخر ملوك الدولة الأيوبية؛ ويعدها بعضهم أولى سلاطين المماليك.
وسبب هذا الخلاف أن الملكة «شجرة الدر» تعتبر عضوا من الأسرة الأيوبية، وتعتبر في الوقت نفسه عضوا من أسرة المماليك؛ أما أنها كانت عضوا من الأسرة الأيوبية؛ فلأنها كانت زوجة للملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، ولا شك أن زوجة الملك عضو من أسرته، على أنها - فوق ذلك - أم الأمير خليل ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، الذي كان يعده وليا لعهده، ويرشحه لولاية العرش من بعده.
وأما أنها كانت عضوا من أسرة المماليك؛ فلأنها كانت جارية مملوكة قبل أن تكون زوجة للملك؛ فكان المماليك لذلك يعدونها واحدة من أسرتهم، ينتسبون إليها وتنتسب إليهم، فلما تولت الحكم بعد وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب، كانت في رأي الناس واحدة من الأسرة الأيوبية التي تتوارث عرش مصر منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، ولكنها لما نزلت عن العرش بعد ذلك، تولاه بعدها مملوك من مماليك الملك الصالح؛ هو الأمير عز الدين أيبك التركماني، ثم صار عرش مصر بعد ذلك وراثة للمماليك، يتوارثونه مملوكا عن مملوك نحو ثلاثة قرون - وتسمى هذه الفترة في تاريخ مصر باسم «عصر سلاطين المماليك» - لذلك لا يخطئ من يقول إن تولي «شجرة الدر» عرش مصر يعتبر أول عصر سلاطين المماليك؛ لأنها كانت مملوكة مثل سائر المماليك الذين تولوا العرش بعدها.
2
وشجرة الدر - أو شجر الدر كما جاء في بعض التواريخ - اسم مشهور جدا في تاريخ مصر، بل إنها تعتبر أشهر امرأة في هذا التاريخ، لعدة أسباب:
منها: أنها أول امرأة وآخر امرأة تولت عرش مصر الإسلامية، فلا نعرف امرأة قبلها ولا بعدها - منذ أول عهد الإسلام إلى اليوم - تولت عرش هذه البلاد، تأمر وتحكم وتولي وتعزل، وتسير الجيوش للحرب، وتوقع معاهدات الصلح، وتعين الوزراء، وتعقد الألوية للقواد، وينقش اسمها على الدراهم والدنانير، ويدعى لها على المنابر في المساجد.
ومنها: أنها كانت أول «مملوكة» تجلس على العرش، فتصير ملكة يدين لها الملايين بالطاعة والولاء، بعد أن كانت جارية مشتراة بالمال، يأمرها سيدها فتأتمر، وينهاها فتنتهي!
ومنها: أن عهدها كان حدا فاصلا بين مرحلتين من مراحل التاريخ؛ فقد كانت ولايتها آخر عهد الدولة الأيوبية، وأول عهد المماليك.
ومنها: أن عصرها كان مزدحما بالحوادث التاريخية العظيمة؛ ففي عهدها انكسر الصليبيون كسرة شنيعة، وكانوا قد زحفوا من فرنسا وسائر بلاد أوربة، ليستولوا على مصر والشام؛ فانهزموا عند مدينة المنصورة شر هزيمة، وقتل قوادهم وأسر ملكهم لويس التاسع ملك فرنسا، واعتقل في دار الأمير فخر الدين بن لقمان بالمنصورة، فلم يفرج عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمال، وعاهد على ألا يعود إلى غزو مصر.
وفي عهدها كان قد بدأ زحف المغول من أواسط آسيا على البلاد الإسلامية للاستيلاء عليها وإذلال أهلها، واستمر زحفهم حتى استولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وتوغلوا فيها يفتكون ويهتكون ويسفكون الدم ويحطمون العروش، حتى أوشكوا أن يبلغوا حدود مصر بعد أن قطعوا إليها مئات الآلاف من الأميال؛ ثم كانت هزيمتهم الساحقة الماحقة على يد الجيش المصري في موقعة «عين جالوت» بفلسطين، بعد وفاة شجرة الدر بأمد قليل، فلم تقم لهم قائمة بعد هذه الهزيمة التي لم ينهزموا قبلها قط.
وفي عهدها بدأت عادة تسيير المحمل في كل عام من مصر إلى الحجاز في موسم الحج، يحمل كسوة الكعبة كما يحمل كثيرا من المؤن والأموال لأهل بيت الله الحرام، وتصحبه فرقة كبيرة من الجيش المصري لحماية الحجاج. وما تزال هذه العادة متبعة إلى اليوم.
وفي عهدها نبغ كثير من الأدباء والشعراء المصريين الذين يذكرون في تاريخ الأدب العربي؛ كبهاء الدين زهير، وجمال الدين بن مطروح وغيرهما ...
ومن أسباب شهرتها وبقاء اسمها مذكورا إلى اليوم المسجد العظيم الذي بنته في حي الخليفة في القاهرة؛ لتدفن فيه بعد موتها، ولم يزل قائما إلى اليوم - بالقرب من مسجد السيدة نفيسة - يقصده الزوار وتؤدى فيه الصلوات.
وما يزال اسم زوجها الملك الصالح كذلك مذكورا مشهورا في مصر إلى اليوم؛ وجميع أهل القاهرة يعرفون «كوبري الملك الصالح»، الذي يوصل بين الفسطاط وجزيرة الروضة؛ وسبب تسمية هذا الجسر بهذا الاسم أن الملك الصالح نجم الدين أيوب - زوج شجرة الدر - بنى له قصرا وقلعة في هذه الجزيرة التي يوصل إليها هذا الجسر، أما القصر فكان يقيم فيه هو وزوجه شجرة الدر، وأما القلعة فكان يقيم فيها - بالقرب منه - مماليكه الأتراك الذين صاروا فيما بعد ملوكا؛ ولذلك يسمون في التاريخ باسم «المماليك البحرية»؛ لأن قلعتهم هذه كانت تشرف على البحر؛ أي النيل.
3
هذا حديث قصير عن الملكة شجرة الدر، وعن زوجها الملك الصالح أيوب.
والآن فلنذكر طرفا من التاريخ الذي يعين على فهم حوادث هذه القصة:
كانت مصر منذ دخلها الإسلام يحكمها أمير من أمراء المسلمين، يعين من قبل الخليفة، في المدينة أو في دمشق أو في بغداد، ويكون تابعا له.
وظل الأمر كذلك إلى أن ولي مصر الأمير أحمد بن طولون في منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) في عهد الخليفة المعتز العباسي، فاستقل ابن طولون بملك مصر، وجعلها دولة مستقلة له ولأولاده من بعده، ولكن هذا الاستقلال لم يستمر إلا نحو خمسين سنة؛ إذ ضعفت الدولة الطولونية، فعادت مصر تابعة للخليفة العباسي في بغداد. •••
واستمرت مصر تابعة لبغداد ثلاثين سنة أخرى، إلى أن وليها الأمير أبو بكر محمد الإخشيد في عهد الخليفة المقتدر العباسي؛ ففعل مثل ما فعل ابن طولون من قبل، واستقل بمصر، وصار عرشها وراثة له ولأولاده من بعده، واستمرت «الدولة الإخشيدية» في مصر بضعا وثلاثين سنة، وكان آخر ملوكها كافور؛ وهو عبد مملوك من مماليك بني الإخشيد! •••
ثم ضعفت الدولة الإخشيدية، فطمع في ملك مصر ملك من ملوك المغرب، اسمه المعز لدين الله الفاطمي، فزحف عليها من تونس في جيش كبير، فملكها في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).
وكان هذا الملك «المعز لدين الله» يقول إنه من أبناء السيدة فاطمة بنت سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ ومن أجل ذلك كان يسمي نفسه «الفاطمي»، ويرى أنه أحق بالخلافة من العباسيين في بغداد؛ فأنشأ خلافة فاطمية في مصر، وأعلن الاستقلال عن الخليفة العباسي في بغداد، وصار عرش مصر وراثة له ولأسرته من بعده أكثر من مائتي سنة.
وكان للفاطميين مذهب في الدين لا يوافقهم عليه أكثر المسلمين؛ لذلك لم تكد بوادر الضعف تظهر على ملوك الدولة الفاطمية في منتصف القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، حتى أخذ أصدقاء الخلافة العباسية في المشرق يتطلعون إلى غزو مصر، ليخلصوها من الفاطميين ومذهبهم «الشيعي». •••
وكان مما ساعد على ضعف الدولة الفاطمية، غزوات الصليبيين المتوالية على مصر والشام، فانتهز «صلاح الدين الأيوبي» هذه الفرصة ودخل مصر، وكسر شوكة الصليبيين، وقضى على الدولة الفاطمية، واستقل بحكم البلاد وأزال منها مذهب الفاطميين، وأعلن ولاءه للخليفة العباسي في بغداد؛ وكان ذلك في الثلث الأخير من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). •••
وكان صلاح الدين قائدا من أعظم القواد ، وحاكما من أعدل الحكام؛ وأصل أبيه من بلاد الكرد، واسمه «أيوب بن شاذي»، فلما ملك صلاح الدين بن أيوب مصر، انتقل أبوه وأسرته إليها، وصار عرش البلاد وراثة لهم، يتوارثونه أيوبيا بعد أيوبي؛ ولذلك تسمى دولتهم «الدولة الأيوبية».
وفي عصر الدولة الأيوبية اتسع ملك مصر حتى شمل الحجاز واليمن إلى شواطئ المحيط الهندي، وامتد على بلاد الشام إلى أطراف العراق وحدود الموصل، ووصل إلى أواسط آسيا وحدود التركستان.
وظلت هذه البلاد تحت حكم الأيوبيين أكثر من ثمانين سنة، من عهد صلاح الدين إلى عصر شجرة الدر، ثم انتقل الحكم إلى المماليك الذين أنشأهم ورعاهم الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وخلال هذه المدة التي حكم فيها الأيوبيون هذه البلاد، كان في كل بلد منها أمير أيوبي؛ ففي دمشق أمير، وفي حلب أمير، وفي اليمن أمير، إلى أمراء آخرين في كثير من البلاد، ولكن أكبر هؤلاء الأمراء وأعظمهم هو السلطان الذي يجلس على عرش قلعة الجبل في القاهرة.
4
وكان الذي يجلس على عرش القاهرة حين بدأت حوادث هذه القصة، هو الملك الكامل ناصر الدين ابن الملك العادل سيف الدين أخي صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة.
وكان أكبر بنيه هو الأمير نجم الدين أيوب - الذي سمي فيما بعد الملك الصالح - وكان في ذلك الوقت واليا من قبل أبيه الملك الكامل على حصن من حصون المشرق، اسمه «حصن كيفا»، وكان معروفا أن نجم الدين هو ولي عهد أبيه الكامل، وأن ملك مصر سيئول إليه بعد أن يتخلى أبوه عن العرش، وكان مما يقوي هذا الظن، أن نجم الدين كان ينوب عن أبيه في الحكم حين يضطر أبوه إلى الخروج من مصر للحرب أو لسبب آخر.
وكان لنجم الدين أخ أصغر منه، هو الأمير سيف الدين - الذي سمي فيما بعد الملك العادل - وكانت أمه أقرب إلى قلب الملك من أم الأمير نجم الدين، وكانت أم سيف الدين مصرية خالصة النسب، وكان أبوها من شيوخ الفقه المشهورين في مصر، واسمه الشيخ نصر الفقيه.
5
هذا هو الأمير نجم الدين الذي كان زوجا لشجرة الدر، وهذا هو موقفه من أبيه وأخيه وأسرته، أما شجرة الدر نفسها فكانت فتاة مقطوعة الجذر، لا يعرف لها أب ولا أم ولا أصل، ولم تترك بعد موتها ولدا ولا بنتا ولا ذرية، فكانت حياتها من أعجب العجب؛ إذ ليس لها أصل يذكر ولا فرع يبقى! وماتت قبل أن يأفل شبابها، ومع ذلك ظل ذكرها باقيا على توالي القرون منذ القرن السابع الهجري إلى اليوم، وإلى الغد وإلى الأبد ...
أي قوة من قوى الغيب تجمعت في هذه الجارية الأنثى، فكتبت لها في التاريخ هذا الخلود؟!
كانت جارية ذات أدب وعلم وفن!
وكانت أنثى ذات جمال وفتنة وحيلة!
وكانت زوجة ذات حب ووفاء وغيرة!
وكانت ملكة ذات حزم وإرادة وتدبير!
صفات أربع لا يجتمع مثلها في امرأة، واجتمعن في شجرة الدر.
أحبت وتزوجت وحملت ووضعت، ولكنها لم تنس في أي أحوالها أنها ملكة، على رأسها تاج، وفي يدها صولجان، وتحتها عرش، وبها ترتبط مصاير أمة؛ فكانت - حتى في اللحظة التي تنسى فيها كل أنثى أن لها إرادة - ملكة ذات إرادة وتدبير وكيد ...
وملكت وتسلطت وقبضت على الصولجان، وركع تحت قدميها الرجال، ولكنها لم تنس في لحظة من لحظات السلطان الباطش أنها أنثى، وأن لكل أنثى رجلا تخضع له، وتذوب إرادتها في إرادته، فكانت - حتى في اللحظة التي ينسى فيها كل ذي سلطان أنه بشر - أنثى تستسلم للحب استسلام كل ذات قلب.
فلما جدت في آثارها الحوادث، وأرغمتها على أن تختار بين أن تكون امرأة لرجل أو ملكة لعرش وتاج وصولجان، تنازعتها الكبرياء والغيرة، فطاشت فلم تكن في طيشتها أنثى ذات قلب، ولا ملكة ذات تدبير، وفقدت الرجل والعرش والحياة جميعا. •••
تلك شجرة الدر: تاريخ أمة في تاريخ أمة!
وفي التاريخ قصص كثيرة لملكات غير شجرة الدر، ولكن التاريخ لم يأثر عن ملكة منهن ما أثر عن شجرة الدر من صفات لم تجتمع مثلها في أنثى ولا في ملكة.
محمد سعيد العريان
الفصل الأول
نبأ من القاهرة
أطرق الأمير صامتا
1
وطوفت أفكاره تجتاز المسافات وتقطع الأبعاد النائية؛ فهو في مجلسه من ذلك الحصن الذي اتخذه قاعدة لإمارته في أقصى المشرق، ولكنه مما يصطرع في رأسه من الخواطر، وما يتراءى له من صور الماضي القريب والبعيد، كالتائه في البيداء المترامية قد انفسح مداها وتباعد ما بين أطرافها بعد ما بين حصن كيفا والقاهرة.
أفمن أجل ذلك أخرجه أبوه من مصر وانتزعه من بين مماليكه وجنده، وقذف به إلى ذلك المنفى السحيق؟
وثقلت وطأة الصمت على أصحابه، وإن كانوا ليعلمون ما يصطرع في رأسه من خواطر، حتى كأنهم يسمعون حديثه إلى نفسه ويبادلونه الرأي، فقد طالعوا منذ لحظات ما جاء به البريد من أنباء القاهرة، فعلموا أن أميرهم منذ اليوم ليس وليا للعهد؛ لأن ولاية العهد قد صارت منذ اليوم لأخيه الصبي سيف الدين.
صبي لم يبلغ الحلم، والدولة يكتنفها الخطر ويتربص بها الأعداء من كل جانب؛ فثمة الصليبيون يتحفزون للوثبة على سواحل مصر والشام، والخطر المغولي يمد مده نحو الغرب، ويكاد يبلغ بغداد عاصمة الخلافة ليثب منها إلى الشام ومصر، فماذا يملك مثل ذلك الصبي أن يدفع من هذا الويل؟ ألأن أمه «سوداء بنت نصر»
2
أحظى نساء الكامل وآثرهن عنده؟! فليهنه رضاها، ولا عليه بعد ذلك أن يتبدد ملك بني أيوب وتطأه خيل الصليبيين والمغول.
وإذن؛ فسيبقى الأمير نجم الدين في حصن كيفا أميرا على ما يليه من بلاد الموصل، وسيبقى معه أصحابه وبطانته؛ فإن القاهرة منذ اليوم - أو منذ غد - قاعدة ملك الأمير سيف الدين!
وهم الأمير فخر الدين بن الشيخ
3
أن يتكلم، ثم أمسك حين ارتفع صوت من وراء الحجرات ينشد شعر الإربلي:
4
وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم
قطعوا إليك مسافة الآجال
وصل البنون إلى محل أبيهم
وتجهز الآباء للترحال!
ورفع الأمير نجم الدين رأسه وأدار عينيه فيمن حوله، وهو يردد في صوت خافت:
وتجهز الآباء للترحال!
قال الأمير فخر الدين قلقا: أتعني يا مولاي ...؟
فابتدر الأمير وعلى شفتيه ابتسامة خابية:
5
ماذا فهمت بالله يا فخر الدين فنال منك الجزع؟ إن هو إلا شعر طرق مسمعي فجرى على لساني، وإنه لأبي وإن غلبته على حزمه وإرادته سوداء بنت نصر!
ثم زم شفتيه وأردف: ولكن ذلك الصبي لن يبلغ ما أرادت له أمه، ولن يكون له عرش مصر!
ثم انفض المجلس، وتفرق أصحاب الأمير، فمضى كل منهم إلى وجه، وخلا الأمير إلى نفسه يدبر أمره، ولزم الطواشي صواب
6
بابه شاكي السلاح متأهبا لما يصدر إليه من أمر. •••
لم تكن الأنباء التي جاء بها البريد في ذلك اليوم من القاهرة مفاجأة غير منتظرة؛ فقد كان الأمير يعلم علم اليقين منذ أبعد عن القاهرة إلى حصن كيفا، أن ثمة أمرا قد أحكمت بنت نصر تدبيره؛ ليخلو لسيف الدين وجه أبيه، ولكنه مع ذلك لم يكن يتوقع أن يتم ذلك التدبير سريعا قبل أن يستكمل أهبته للمقاومة، ويتكثر من الجند والعتاد، ويصطنع أسباب المودة بينه وبين جيرانه من أمراء الموصل،
7
وبينه وبين ذوي قرابته من أمراء بني أيوب،
8
وليس معه في هذا الحصن النائي من صحابته الأدنين إلا بضعة نفر، وليس له من المماليك إلا بضع عشرات، إلى بضع فرق من الجند لا تغني غناء، ومن أين له بهؤلاء أن يغلب أخاه على العرش حين تحين الساعة؟
وتذكر نجم الدين أميرا من أمراء الموصل يرابط في طريقه إلى مصر متربصا به؛ ذلك هو بدر الدين لؤلؤ، وإن له عند نجم الدين ثأرا منذ غلبه نجم الدين على سنجار
9
فاحتازها إلى إمارته وترك جيشه أباديد
10
على ظهر البادية، وما كان لبدر الدين أن ينسى ثأره!
وتذكر نجم الدين كذلك ثأرا آخر بينه وبين السلطان غياث الدين صاحب بلاد الروم.
11
أفيكفيه شر ذلك كله بضع عشرات من مماليكه إلى بضع مئات من الجند؟ ولكنه قد عقد النية على أن يكون له دون غيره عرش الأيوبية؛ ولا بد أن يتم له ما أراد.
ذلك كان هم الأمير، على حين كان لكل واحد من أصحابه في ذلك الحصن هم يشغله:
هذا الأمير فخر الدين بن الشيخ، قد أرق جفنيه وأقض مضجعه ما جرى على الأمير نجم الدين، وما يخشى أن يئول إليه أمره وأمر الدولة إذا بدا له أن يشق عصا الطاعة، أو يتمرد على أمر أبيه، وإن على فخر الدين تبعات
12
تقتضيه أن يرحل إلى القاهرة بعد أيام، وليس يدري ما يكون شأن نجم الدين بعد أن يفارقه ويمضي لوجهه.
وهذا الصاحب بهاء الدين زهير
13
قد برح به الحنين إلى مصر وإلى أصحاب هنالك وصواحب، وإلى منازل آهلة ومغاني مأنوسة، كان يمني نفسه بأن يعود إليها، فالآن هيهات هيهات المعاد وقد صار عرش مصر لغير نجم الدين أيوب، فهو منذ بلغه ذلك النبأ يحسو
14
دمعه وحيدا وينشد:
إلى كم حياتي بالفراق مريرة؟!
وحتام طرفي ليس يلتذ بالغمض؟!
وكم قد رأت عيني بلادا كثيرة!
فلم أر فيها ما يسر وما يرضي
ولم أر مصرا مثل مصر تروقني
ولا مثل ما فيها من العيش والخفض
15
وبعد بلادي فالبلاد جميعها
سواء، فلا أختار بعضا على بعض
إذا لم يكن في الدار لي من أحبه
فلا فرق بين الدار أو سائر الأرض
وهؤلاء المماليك الكثر من حاشية الأمير في الحصن لا يعنيهم من حياتهم إلا ما يستمتعون به من طيبات الرزق، وما يتقلبون فيه من ألوان النعمة، إذا اجتمعوا فليس لهم هم إلا العبث والفكاهة والضحك العريض، وإذا افترقوا فليس لواحد منهم هم غير طعامه وشرابه، وزيه وشارته، وغلامه وجاريته ...
أما أمير الحصن وسيده، فإنه من الهم والفكر واشتغال البال ...
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق!
الفصل الثاني
نبوءة أبي زهرة
وكان «أيبك» الجاشنكير
1
من الهم والفكر واشتغال البال في مثل حال سيده الأمير نجم الدين.
بلى، إنه رجل ليس له شأن ولا خطر في ذلك الحصن، ولكنه مما يتخايل لعينيه من بعض الأوهام والأماني في هم مقيم مقعد.
رقيق من الترك، قذفت به المقادير إلى ذلك الحصن في مجموعة من الأرقاء والجواري، فزم الخدمة في مطبخ الأمير جاشنكيرا، يشرف على إعداد الطعام، ويتذوقه قبل أن يمد الأمير إليه يده؛ ليستوثق من جودة طهيه وطيب مذاقه، فأتاحت له هذه الفرصة أن يكون أدنى إلى الأمير منزلة وأحظى لديه من عامة المماليك، وقد كان سعيدا بهذه المنزلة التي بلغ، لولا حديث جرى منذ أيام بينه وبين أبي زهرة المنجم، فرده من السلام والطمأنينة إلى حال من القلق واشتغال الفكر، لا طاقة لمثله باحتمالها؛ فهو منذ سمع ذلك الحديث في هم وفكر ووحشة، لا يكاد يتحدث إلى أحد أو يستمع إلى حديث أحد؛ وما ظنك بمملوك ممتهن بين الأوعية والقدور، يقع في وهمه أن سيصير يوما ملكا يجلس على العرش، وتأتمر بأمره الملايين!
وقد ضاق أيبك آخر الأمر بسره ذاك، فأفضى به إلى طائفة من صحابته ليتخفف منه، فما كان إفضاؤه به إليهم إلا هما على هم، فقد ركبه أصحابه بالعبث والسخرية، وجعلوا حديثه نادرة وأفكوهة يتملحون بها كلما طاب لهم الحديث في سر أو علانية، وكان أشدهم سخرية منه وعبثا به أصحابه الثلاثة: آق طاي، وبيبرس، وقلاوون.
2
ولم يكن همه الجديد عبثهم وسخريتهم؛ فإنه لأرحب صدرا من أن يستفزه الغضب لمثل ذلك، ولكنه يخشى أن يمتد الحديث حتى يبلغ الأمير فتكون الطامة، وهل يقع في وهم أحد أن يطمع مثل أيبك في العرش والإمارة إلا إذا كان منطويا لأميره على نية الغدر!
فإنهم لفي حديثهم وعبثهم به ذات يوم، إذ قال قلاوون: فإن كان أيبك قد خيلت له أوهامه أنه سيصير يوما ملكا تأتمر الملايين بأمره، فإن من حق تلك الفتاة التي التقطها الجند منذ أسابيع في سنجار أن تكون ملكة على عرش بني أيوب!
قال بيبرس عابثا: وإنها لأهل لذاك.
فانتفخت أوداج أيبك واحمرت عيناه غضبا لرجولته، وهتف مغيظا: بالله ماذا تعني يا بيبرس؟!
قال آق طاي في هدوء: حسبكم أيها الرفاق، فإنكم لتوشكون أن تقتحموا مهلكة؛ إذ تخوضون في حديث هذه الفتاة؛ فليس يجمل منذ اليوم أن يجري حديثها على لسان وقد احتظاها سيدنا ومولانا الأمير نجم الدين، فهي اليوم سرية من سراياه،
3
بل إنها منذ نزلت دار الحريم أحظى جواريه إليه وآثرهن عنده.
ثم أردف باسما وهو يقلب وجهه بين أيبك وقلاوون: ولم يبعد قلاوون حين بدا له أنها أدنى منزلة إلى العرش من أيبك، وإن كانت أنثى؛ إلا أن يكون أيبك أكثر إدلالا بحظوته عند الأمير!
وأغرق المماليك الثلاثة في ضحك عريض واحمر وجه أيبك، ولكن شفتيه لم تنبسا بحرف؛ فقد آثر أن يتوقى الهلكة وقد عرض ذكر مولاه، ثم لم يلبث أن نهض ليشرف على إعداد مائدة العشاء للأمير، وسرح كل واحد من أصحابه في واديه!
الفصل الثالث
شجرة الدر
لم يكن أحد في حصن كيفا يعرف إلى أي جنس من الناس تنتسب تلك الفتاة الملثمة التي التقطها جند الأمير ذات غداة في سنجار؛ فلا هي تركية ولا أرمنية ولا جركسية ولا من بنات الفرنجة، فليس في وجهها ولا في لسانها ولا في حركتها ما يومئ إلى الأصل الذي انشعبت منه،
1
ولكنها فتاة من بنات حواء، قد اجتمع لها من خصائص الحسن النسوي ما تفرق في النساء ألوانا وفنونا؛ ففيها من كل جنس وليست إلى جنس، وإنها إلى ذلك لداهية أريبة، ذات تدبير وكيد وتحسن الخط والقراءة والغناء ... وما كانت تعلم عن ماضيها ونشأتها أكثر مما يعلم الناس، فقد أصبحت ذات يوم فإذا هي جارية في دار؛ وما كان أكثر الجواري اللاتي لا يعرف لهن آباء ولا أمهات ولا وطن في ذلك التاريخ البعيد! كالأعشاب الطافية تقذفها على الساحل موجة المد، لا يعرف أحد أين كان منبتها قبل أن يقذفها الموج على الساحل، ولا تعرف هي نفسها، وكان المغول مندفعين يومئذ في موجة اكتساح هائلة قد بدأت من أقصى المشرق، وقد طفا على ثبجها غثاء وعشب قد اجتثته من منابت متباعدة، ثم قذفته على الساحل.
وكانت طفلة حين احتملتها الموجة فرمت بها إلى حيث رمت، فلما بلغت سن التمييز عرفت نفسها جارية في دار، فأقامت بها حينا، ثم حملتها الأقدار على موجة ثانية، فرمت بها في دار غيرها لم يطب لها فيها المقام، فمضت على وجهها حتى التقطها جند الأمير نجم الدين، فنزلت عنده منزلا رحبا، وتفيأت ظلا ظليلا. •••
قال الأمير نجم الدين: ولكنك لم تذكري لي يا فتاة ما كان من خبرك في قصر الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، حتى آثرت الفرار إلى حيث التقطك عسكرنا!
فرفعت الفتاة إليه طرفا نديا، ثم أطرقت وتسابقت على وجنتيها الدموع، فدنا منها نجم الدين وضمها إليه في حنان وعطف، ثم أرسلها من بين يديه وهو يقول: لا عليك يا فتاة مما كان، ولن أهيجك بعد بذكره، فطيبي نفسا!
ثم خلاها بين يدي ماشطتها وخرج لبعض شأنه. •••
قال الطواشي بدر الدين صواب لمولاه وقد خلا لهما المجلس: كأن قد عرفت ما كانت تحرص الفتاة على كتمانه من خبر ماضيها، لقد اختار الله لك يا مولاي واختار لها.
قال الأمير في لهفة: ماذا عرفت من خبرها يا صواب؟
قال صواب: إنه تاريخ بعيد يا سيدي، أفضى إلي بسره جندي من الخوارزمية
2
كان من خاصة السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، وقد عرفها منذ كانت طفلة في حجر السيدة فاطمة خاتون قبل أن تصير السيدة زوجا للسلطان!
3
قال نجم الدين مدهوشا: تعني فاطمة بنت طغرل السلجوقي؟
فأومأ صواب برأسه: نعم، ملكة تبريز وسيدة العجم، وزوج السلطان أزبك البهلوان، فلما انقطع ما بين الخاتون وأزبك حين أسرف في اللهو والفاحشة، وأهمل تدبير الملك، خلعت الخاتون طاعته، وانفصلت عنه، واستقلت بالحكم في تبريز، ثم حالفت جلال الدين واتخذته زوجا، وخاضت معه الغمرات حتى أدركه الأجل في حرب المغول وتبدد ملكه، فذهبت في الأرض، وقذفت المقادير بفتاتها إلى بدر الدين صاحب الموصل!
4
قال نجم الدين: هيه! ثم ماذا يا صواب؟ فوالله ما خابت فراستي فيها، وإن في وجهها أمارات الملوكية!
قال صواب: ثم لم يطب لها المقام ثمة حين أراد بنات بدر الدين أن يمتهنها مهنة الجواري، وإنها لأعرق أرومة من بدر الدين وبنات بدر الدين، إنها لدرة يا مولاي لم يلتقط مثلها غواص!
قال نجم الدين وقد تهيأ للقيام: بل هي يا صواب «شجرة الدر!» •••
وحظيت الفتاة منذ ذلك اليوم عند الأمير نجم الدين أيوب، فليس لغيرها من حظاياه ونسائه مكان في قلبه، ثم زادت حظوة حتى صارت صاحبة الرأي والمشورة، ثم زادت حتى ليس لغيرها مع الأمير رأي ولا مشورة، واستأثرت بالسلطان.
على أن مكانة شجرة الدر عند الأمير لم تكن دون منزلتها عند سائر المماليك والجند وأصحاب الوظائف في الحصن؛ فقد كانت من حصافة الرأي وسعة النفس وبسطة الكف بحيث صارت بين الجميع ملكة بلا تاج ولا عرش، يدينون لها بالحب والولاء والطاعة، وكأنما كانت نشأتها الملوكية في حجر فاطمة بنت طغرل ملكة تبريز، وتنقلها بين ألوان من السلطان في بلاط آل سلجوق، وأزبك، وجلال الدين إرهاصا
5
لما بلغته من المجد والجاه في بلاط الأمير نجم الدين أيوب، سليل الغطاريف
6
من خلفاء صلاح الدين.
وسري عن الأمير بعض همه، ووجد روح الاطمئنان وهدوء القلب في جوار صاحبته الفاتنة، ولكنه إلى ذلك لم يغفل لحظة عما كان يجري في القاهرة من أحداث، فلا يزال يترقب الفرصة التي تهيئ له أن يرد إلى عرش الأيوبيين هيبته، ويدفع عن البلاد ما يتربص بها من شر الصليبيين والمغول، ولا يزال يردد مصبحا وممسيا بيتا من شعر الإربلي هتف به الهاتف من وراء الحجرات ذات يوم، كأنما هو إنذار من وراء الغيب بيوم قريب للملك الكامل:
وصل البنون إلى محل أبيهم
وتجهز الآباء للترحال!
وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ في القاهرة يرقب كذلك ويتربص!
الفصل الرابع
ملوك أربعة!
- سترتقي إلى العرش يوما أيها الفتى، وتبلغ من المجد والسلطان ما لم يخطر لك على بال، ولكن ... - ماذا يا أبا زهرة؟ - لا شيء، أفليس يكفيك أيها المملوك أن تبلغ العرش؟ أفتطمع فوق ذلك في مزيد من السعادة؟ - بلى، ولكنك لم تفصح لي عن كل ما في نفسك، أثمة ما تخاف أن تفضي به إلي من أنباء الغد؟
ابتسم أبو زهرة المكفوف وهز رأسه هزات دائرية متتابعة ، ثم تنفس نفسا عميقا، وراح يمشط بأصابع يسراه لحية مسترسلة على صدره وهو يقول ساخرا: نعم، نسيت أن أقول: إنك ستتزوج، ثم تموت!
ردد أيبك في بلاهة: أتزوج، ثم أموت؟
قال أبو زهرة وهو يتحسس موضع عصاه إلى جانبه لينهض: ألا تصدق هذا؟ أتظن أن تموت أولا ثم تتزوج بعد؟!
وقهقه في سخرية، ومضى في طريقه يدب على عصاه، وترك أيبك في بحرانه!
1 •••
ذلك كل ما جرى من الحديث بين أيبك الجاشنكير وأبي زهرة المنجم، ولا يزال أيبك منذ سمعه في هم وقلق، ولا يزال أصحابه منذ حدثهم بخبره يركبونه بالعبث والدعابة والسخرية، لا يكاد يطالعهم وجهه حتى يجدوا من تشقيق ذلك الحديث مادة للضحك والفكاهة.
على أن حديث ذلك المنجم لم يلبث أن فقد سحره بين هؤلاء النفر من المماليك، فقد أسر أبو زهرة إلى بيبرس، كما أسر إلى قلاوون، حديثا مثل حديثه إلى صاحبهم أيبك أو قريبا منه، فإن صح ما حدثهم به، فسيكونون جميعا ملوكا ويتزوجون ثم يموتون! وأين البلد الذي يتسع عرشه لثلاثة ملوك، أو أربعة!
قال آق طاي عابثا:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
2
صدق الله وكذب المنجم!
فضحك بيبرس وقال: أفلست تريد أن تستنبئه مثلنا أنباء غدك، فلعله أن يبايعك مثلنا ملكا رابعا!
قال آق طاي: حسبه أن يسخر منكم، أما أنا فلست أريد أن أكون ملكا، وليس يعنيني أن أتزوج قبل أن أموت، أو أموت ثم أتزوج!
وأغرق المماليك الأربعة في الضحك، ثم تفرقوا فذهب كل منهم إلى وجه. •••
ومضت أيام قبل أن يتجدد حديث أبي زهرة بين المماليك، ذلك أن أيبك الجاشنكير قد أشرف على الموت، ولم يتزوج ولم يبلغ العرش، وهؤلاء أصحابه قد تحلقوا حول فراشه مشفقين جزعين، وهو يئن ويتلوى، قد احتقن وجهه وتقلص جبينه، وهذا رسول الأمير نجم الدين يسأل عن حاله قلقا مثلهم، مشفقا أن ينال ذلك المملوك المخلص سوء.
وظل أيبك في الفراش أياما، يتوقع أصحابه في كل لحظة أن ينتزعه الموت من بينهم، ثم زايله الخطر ونجا، وزفت البشرى إلى الأمير نجم الدين فسري عنه واستبشر، فما كانت نجاة أيبك إلا نجاة للأمير من شر كان يتربص به؛ فقد كان الأمير جالسا إلى مائدته ذات مساء وقد قدم إليه عشاؤه، وتذوق الجاشنكير الطعام على عادته قبل أن يمد الأمير إليه يدا، فلم يكد يحس مذاقه حتى صاح عجلا: في الطعام سم يا مولاي!
وغثيت نفسه ودار رأسه، فلولا أنه استند إلى الجدار لهوى بين يدي مولاه، ونهض الأمير عن المائدة لم يصب منها شيئا، وحمل أيبك الجاشنكير إلى فراشه والسم يمزق أحشاءه.
وكافأه الأمير على ما ناله، فعقد له على جارية من بنات الإغريق، ذات جمال ودلال وفتنة، كانت من سبايا الأمير غداة عودته من حرب غياث الدين صاحب بلاد الروم، ولكنها تزعم أن لها نسبا ملوكيا في بلاد الأشكري صاحب القسطنطينية،
3
وكانت بجمالها ودلالها وما تزعم من عراقة أصلها ذات حظوة بين جواري الأمير، حتى غلبتها على مكانتها شجرة الدر، ثم زينت شجرة الدر للأمير من بعد أن يهبها لمملوكه أيبك؛ لتخلص منها ويخلو لها وجه الأمير. •••
قال بيبرس لصاحبه ضاحكا: هذه نبوءة من نبوءات أبي زهرة قد تحققت يا أيبك، وتزوجت قبل أن تموت!
قال آق طاي: ولكن نبوءة أبي زهرة لم تبلغ به العرش، وكان حقيقا بأن يبلغه قبل أن يتزوج، لو صدق المنجم!
قال قلاوون ساخرا: بل أراه قد بلغ أو كاد، أليست زوجته من بنات الأشكري فيما تزعم؛ فقد أوشك أيبك أن يجلس على عرش أبيها في القسطنطينية!
قال أيبك مسترسلا فيما بدأ أصحابه من الدعابة: ويكون من وزرائي آق طاي وبيبرس وقلاوون!
فصاح آق طاي مصطنعا هيئة الغضب: إخسأ! أيكون مثلي وزيرا لك؟!
قال قلاوون: أما أنا فقد رضيت أن أتوزر لك، على أن تجعل لي العرش من بعدك!
قال بيبرس: بل يكون لي العرش من بعده، وتكون وزيري وولي عهدي يا قلاوون.
قال آق طاي: اقتسموها بينكم على أي وجه شئتم، أما أنا فلن أطلب العرش قبل أن أطلب زوجة من بنات الملوك لم تدخل تحت رق قط!
الفصل الخامس
غيرة الأنثى
جلست شجرة الدر بين يدي ماشطتها ترجل لها شعرها وتضمخه بالطيب، وتعقد منه ما تعقد حلقات وترسل ما ترسل، وشجرة الدر في غفلة عن نفسها وعن ماشطتها وما تفتن فيه من أسباب زينتها، قد سرحت خواطرها هنا وهنالك، ترود أقطارا لم تقع عينها عليها قط، ولم تتمثلها في وهم ولا في حقيقة، ترى ماذا في القاهرة وعلى النيل من مغاني الحسن ومجالي الهوى، حتى لتفعم وجدان كل من في هذا الحصن حنينا ولهفة! فلا تزال كلما أرهفت أذنا سمعت منشدا يشدو أو جارية تغني:
1
حبذا دور على النيل وكاسات تدور
ومسرات تموج الأرض منها وتمور
وقصور ما لعيش نلته فيها قصور
2
كم بها قد مر بي - أستغفر الله - سرور
كل عيش غير ذاك العيش في العالم زور
منزل ليس على الأرض له عندي نظير! «دور، وكاسات، ومسرات، وقصور، وسرور، وكل عيش غير ذلك زور.»
تلك أغنية الجميع في ذلك الحصن؛ شبابا وكهولا ومشيخة، حتى الأمير نفسه - على ما فيه من وقار الإمارة - لا يكاد يخلو إلى نفسه ساعة حتى يجري على لسانه بيت أو أبيات من مثل ذلك الشعر، فيه الهوى والحنين واللهفة، ولا يزال بهاء الدين زهير ذلك الشاعر الوشاء
3
ينظم كل يوم جديدا من الشعر يذكي
4
به عواطف الشباب والكهول، ويبعث الشوق والحنين.
وهاج بها داء الأنثى
5
فتخيلت في نبر كل أغنية من تلك الأغاني نبضة قلب عاشق مفارق، فنهشتها عقارب الغيرة، إنها لتريد نجم الدين خالصا لها من دون النساء!
وفرغت الماشطة من زينة سيدتها، ولم تؤب السيدة بعد من سرحتها في عالم الأوهام، وهتفت بها الماشطة: سيدتي!
فانتبهت شجرة الدر كأنما آبت من سفر بعيد، واعتدلت لترى صورتها في المرآة مقبلة ومدبرة، ثم ابتسمت فأشرقت ابتسامتها بالنور على وجه لم ينطبع في المرآة أجمل منه، فرضيت وقرت عينا، وعطفت جيدها إلى الماشطة شاكرة: لله ما صنعت يداك يا فتاة!
قالت الجارية : بل سبحان الذي خلق فسوى يا مولاتي! لقد آثر الله مولاي الأمير من هذا الجمال بنعمة لم يظفر بمثلها أحد من ملوك الأرض، وإنه لحقيق بما نال!
فانبسطت نفس الأميرة بما سمعت من ثناء الجارية، وأنست إليها، فأقبلت عليها تحدثها وتستمع إليها، كأنما تريد أن تزيدها حديثا عن جمالها، أو أن تبدأها حديثا آخر عن الأمير الذي تريد أن تستأثر بحبه فيكون قلبه خالصا لها من دون النساء.
قالت شجرة الدر: منذ كم تعيشين في قصر الأمير يا فتاة؟
قالت الفتاة: منذ نشأت يا سيدتي، وكانت أمي ماشطة السيدة «ورد المنى» والدة الأمير، فاختصصت بخدمة مولاي منذ كان نائبا عن أبيه الملك الكامل في القاهرة.
6
ثم أردفت الفتاة وفي عينيها حنين ولهفة: آه يا سيدتي لو رأيت القاهرة! إنها عروس المدائن! ولقد شهدت في رحلتي إلى هذا الحصن، دمشق وبغداد وكثيرا من بلاد المشرق، فوالله ما رأيت بلدا كمصر، ولا نهرا كالنيل!
فأسبلت شجرة الدر جفنها وقالت وعلى شفتيها ابتسامة: لعل لك هوى في القاهرة يا جهان!
فاحمر وجه الفتاة من حياء وأغضت ثم قالت: إن هواي يا مولاتي حيث يكون هوى الأمير!
قالت شجرة الدر في خبث: وأين هواه اليوم؟
قالت وفي عينيها إعجاب: إن هواه اليوم يا مولاتي حيث تعرفين، وإنه حديث كل من في الحصن!
وسمعت خطوات تقترب من باب المخدع، فهمت الفتاة بمغادرة المكان، وخطفت شجرة الدر نظرة إلى مرآتها قبل أن تخطو إلى الباب لتستقبل مولاها.
وخلا المكان إلا من اثنين، ولكن الأمير ظل صامتا جامد الوجه، قد سرح فكره وصوب نظره ثابتا لا يكاد يطرف، وتعلقت به عينا صاحبته صامتة مثله لا تجرؤ على أن تبدأه الحديث، وطال بينهما الصمت، فما قطعه إلا صوت مطرب يغني من وراء الحجرات بشعر زهير:
حبذا دور على النيل وكاسات تدور!
وثابت إلى الأمير نفسه فتنفس نفسا عميقا، ثم هز رأسه وهو يردد:
حبذا دور على النيل ...
وانقبضت نفس صاحبته واعتادها داؤها، وتخيلت ما تخيلت من أوهام الأنثى ، ولكنها كظمت نفسها، وقالت وهي تصطنع الهدوء: أرى مولاي بحاجة إلى أن يسمع غناء ليتخفف من بعض أثقاله ويزيل متاعبه!
قال الأمير باسما: حبذا ... يا شجرة الدر!
فقامت إلى خزانتها فأخرجت عودا فاحتضنته وحنت عليه، وراحت أصابعها تجس أوتاره، ثم رفعت إلى الأمير عينين فاتنتين وهي تقول: أفيريد مولاي أن أغني له ذلك الصوت أم يقترح صوتا غيره؟
قال الأمير: بل تقترحين أنت!
فأنغضت
7
رأسها ومرت أصابعها على العود وارتفع صوتها رويدا رويدا:
8
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني خبأتك في جفوني
إلى يوم القيامة ما كفاني!
قال الأمير وقد استخفه الطرب: ولا كفاني!
ثم مد إليها يدا فأنهضها، ومضيا يجوسان خلال الغرفات سعيدين بما بلغا من نعمة الحب والوفاء.
لقد عرفت شجرة الدر مكانها من نفس أميرها، وعرف نجم الدين مكانه، وكانت من الغيرة عليه والرغبة في الاستئثار به، في مثل غيرته وأثرته، فلم تدع له منذ تواثقا على الحب أن يفكر إلا فيها أو معها، ولم يدع لها: لا تريد ولا يريد أن يستأثر أحدهما دون صاحبه بشيء، ولا أن يفكر منفردا في أمر؛ فهما سواء، وعلى رأي مشترك في الحب وفي الحرب، وفيما يصطنعان من أساليب السياسة لإدراك العرش، وعادت غيرة الأنثى على رجلها غيرة ملكة على السلطان، تريد أن يمتد ظلها على البسيطة ويدين لها الملايين بالطاعة والولاء!
الفصل السادس
طفل ملك
اطمأن الملك الكامل إلى عاقبة أمره وسلامة تدبيره حين استخلف ولده العادل سيف الدين على عرش مصر، وجعل ولده الصالح نجم الدين على عرش المشرق، وخيل إليه أنه مستطيع أن يخلد إلى الراحة والسلام ما بقي من أيامه، وقد بلغ الستين من عمره، جلس منها على عرش مصر أربعين عاما، نائبا عن أبيه عشرين منها، ومستقلا بالحكم عشرين.
على أن الملك الكامل - على حنكته
1
وأصالة رأيه وطول تمرسه
2
بالحكم - لم يلق بالا إلى ما قد يجد تدبيره ذاك من معارضة الأمراء العظام من آل أيوب، ومنهم إخوته وأبناء عمه أمراء الشام، وكلهم يرى نفسه أحق بعرش مصر من ذلك الصبي، كما غفل عما قد يلقى ذلك التدبير من مقاومة ولده الصالح نجم الدين نفسه، وهو أرشد بنيه وأحقهم بخلافته على عرش بني أيوب.
فلم تكد تذيع تلك الأنباء من القاهرة حتى تمرد أمراء الشام وشقوا عصا الطاعة؛ فنشبت سلسلة من المعارك بينهم وبين الكامل لم تدع له فرصة لما كان يأمل من الطمأنينة والسلام، على حين كان ولده الآخر في حصن كيفا يدبر تدبيره في صمت، ويتحين الساعة التي ينقض فيها على عرش القاهرة فيستخلصه لنفسه، وكانت تؤازره في التدبير زوجه الشابة الطموح شجرة الدر، وقد ارتفعت منزلتها عند الأمير منذ ولدت له، فلم تعد كما كانت منذ قريب جارية محتظاة، ولكنها زوجه وأم ولده وصاحبة تدبيره وشريكته في الجهاد، وقد أجد لها هذا المولود أماني واسعة؛ فهي اليوم زوجة الأمير الذي يهيئ نفسه لعرش مصر والشام والجزيرة وما يليها من البلاد، وهي في غد أم السلطان خليل ابن السلطان نجم الدين وخليفته على عرش بني أيوب، وتجتمع في يديها كل السلطات! •••
قال الأمير وقد تناول الطفل بين يديه وتمثل في نظرة عينيه كل حنان الأبوة: هذا يومك يا بني، فليت لي علما عن غدك!
فبرقت عينا أمه وسرحت بخواطرها تتخطى الزمان والمكان وثبا، فكأن قد رأت نفسها على عرش مصر سلطانة ورأت فتاها، فلم يردها من سرحتها إلا حاضنة الصبي قد افتر ثغرها عن ابتسامة الأمل وهي تقول: سيبلغ حيث أردت يا مولاي بتوفيق الله، وتهتف باسمه الخلائق في شرق الأرض وغربها، ويفيض المجد على كل من حوله من آل بيته!
قالت شجرة الدر وقد اتسعت نفسها حتى شملت كل ما حولها برا ورحمة: ويفيض بره على حاضنته خاتون التي بشرت بما يبلغه من المجد قبل أن يدرج من مهده!
قالت الحاضنة: وتكون كل سعادتي يومئذ يا مولاتي أن أباهي بأنني حاضنة السلطان خليل وصفية أمه، إن راقك يا مولاتي أن تصطفي مثل جاريتك خاتون!
فربتت الأميرة كتفها قائلة: بل إن أمه يومئذ لتباهي بأنك حاضنة ولدها!
ودس الأمير يده في جيبه ونثر كيسا من ذهب في حجر الجارية، ثم انصرف لشأنه وخلى المرأتين تتحاوران إلى جانب مهد الصبي. •••
قالت خاتون: إن لأبي زهرة المنجم يا مولاتي أسبابا وثيقة إلى الغيب، وإنه لشيخ قد عمي وكف بصره، ولكنه فيما يروي من أنباء الغد كأنما يقرأ في لوح مسطور!
قالت شجرة الدر: وتؤمنين بما يهرف به هؤلاء المشعوذون يا خاتون؟
قالت: إنه إلا يصدق يا مولاتي فيما يحدث به من أنباء الغيب، فحسبه أن يبذر بذور الأمل وينشر السلام والطمأنينة، وقد استمعت إليه منذ أيام يتحدث إلى جهان ماشطة مولاتي حديثا ما يزال له حمرة في وجنتيها وبريق في عينيها، كأن قد بلغت كل المنى، وما زاد الأمر على حديث سمعته!
قالت شجرة الدر جادة: ماشطتي جهان؟ فادعيها إلي لأسمع حديثها!
فعضت خاتون على شفتها وقالت: معذرة يا مولاتي، فما قصدت أن أفشي سر جارية من جواري مولاتي تخلص لها الحب، وإنما استرسل بي الحديث وأغراني عطف مولاتي!
قالت: لا عليك من ذلك يا خاتون، وإنما يشوقني حديث تلك الجارية، فنهضت خاتون لأمر سيدتها، ومالت شجرة الدر على مهد الطفل النائم تنشق من عبق أنفاسه روح الأمل. •••
وكانت جهان فتاة مشبوبة العاطفة مرهفة الحس، وقد نشأت جارية في بيت بني أيوب بالقاهرة، ولكن مكانة أمها من «ورد المنى» أم الأمير نجم الدين قد هيأت لها بين جواري الأمير منزلة خاصة فرضت عليها نوعا من الوقار والتزمت
3
حال بينها وبين كثير من مسرات الشباب، فظلت عذراء القلب، إلى عاطفة مشبوبة وحس مرهف، ثم تهيأت لها الفرصة ذات يوم للحديث إلى المملوك بيبرس، فسرى بينهما تيار الحب، وما كشف لها عن ذات صدره ولا كشفت له، ثم أغلق من دونهما الباب فما رأته ولا رآها من بعد، ووقع في شرك الحب قلبان لا يجدان وسيلة إلى اللقاء ولا سبيلا إلى السلوان!
ولم تكن الفتاة تدري بما يعتلج في نفس صاحبها من الهوى ولا كان هو؛ ولكنها من الوحدة والكتمان كانت أشب عاطفة وأشد قلقا، فالتمست أبا زهرة المنجم تستعينه على أمرها وتستنبئه أنباء الغد، فأنبأها ولم يزل لحديثه منذ ذلك اليوم حمرة في وجنتيها وبريق في عينيها، وعرفت خاتون من خبرها على لسان المنجم ما عرفت، فتحدثت به إلى مولاتها شجرة الدر. •••
قالت الأميرة: وإذن؛ فأنت على ثقة من حبه يا جهان!
فأنغضت رأسها وتضرجت وجنتاها من حياء ولم تجب.
قالت شجرة الدر: لا تراعي يا فتاة! إن بيبرس جندي من جند الأمير يرجى غده، وإنك لتعرفين مكانك من نفسي ومن نفس الأمير، فسيجتمع شملك ببيبرس وتكونين له ويكون لك، ولكن عليه قبل أن يظفر بهذه الأمنية أن يؤدي ثمنها!
ثم استضحكت وقالت: وفي دار على النيل يا جهان ليس مثلها في الأرض، يكون اجتماع شملك بمن تحبين، وتغنين له ويستمع إليك:
حبذا دار على النيل ...
أما هنا فلا، إن عليه سفرا طويلا قبل أن يبلغ منزلك!
قالت الفتاة ولم تزل في إطراقها: شكرا يا مولاتي.
فمدت الأميرة إليها يدا فأنهضتها وهي تقول: لا شكر اليوم يا بنية، فانتظري حتى تري ونرى ما يكون غدك!
ودرى بيبرس بكل ما كان من خبره وخبر صاحبته، فاعتقدها يدا للأميرة عنده تقتضيه الوفاء، فكان همه منذ اليوم أن يلتمس أسباب رضاها، وأفعم قلبه الأمل!
الفصل السابع
ملك في قفص
لم يجد الملك الكامل ما كان يأمل من الطمأنينة والسلام، فلم يكد يقضي على أسباب الفتنة التي أشعل نارها أمراء الأيوبيين في الشام حتى بغته الموت؛ ثم لم يكد يوارى الثرى في دمشق حتى تجددت مطامع الأمراء في عرش بني أيوب.
وبلغ النعي الملك الصالح نجم الدين في حصن كيفا، فأعد عدته للمسير إلى مصر.
واستأثر العادل سيف الدين بالملك، وتبوأ عرش أبيه في قلعة الجبل، ووضع يده على خزائنه وما خلف من مال ومتاع، واتخذ له حاشية وبطانة.
وبدأ زحف الصالح نجم الدين أيوب من المشرق ليستخلص لنفسه العرش، وكان على رأس جنده بيبرس وأيبك وقلاوون وآق طاي، وإلى يمينه وشماله مشيران أمينان: شجرة الدر أم خليل، والصاحب بهاء الدين زهير.
وتتابعت الرسل من القاهرة تستحثه على الإسراع، فأغذ السير مغربا وقد طفحت نفسه بالآمال، ولكن كمينا كان قد أعده بدر الدين لؤلؤ عند سنجار قد برز فجأة في طريقه، فتبعثر جنده واقتيد أسيرا إلى قلعة سنجار، ليس معه إلا زوجه وقليل من صحابته وحيل بينه وبين أمانيه.
قال نجم الدين مستيئسا: هذا يا شجرة الدر آخر المطاف؛ فما أظنني أخلص وإياك من هذا المعتقل، وإن لبدر الدين عندي ثأرا لا ينساه وقد أذللت كبرياءه، وحطمت جنده وجعلته مثلا بين الأمراء، وقد أقسم من يومئذ إن حصلت في يده ليحطمن كبريائي، فيقتادني إلى بغداد حبيسا في قفص مصفدا بالأغلال!
1
قالت شجرة الدر: لا عليك يا مولاي من وعيد بدر الدين، فما أراه والله بالغا من ذلك شيئا، ولن يحصل في يده نجم الدين، ولا شجرة الدر، وسيبوء
2
بالخسران في العاقبة كما باء في الأولى!
فهز نجم الدين رأسه وارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يقول: ومن أين لنا الخلاص ومن دوننا هذه الأسوار وهؤلاء الحراس، وليس لنا من الجند قوة تغني في اقتحام هذا الحصن!
فجاوبته ابتسامة بابتسامة وقالت: دع تدبير ذلك لي يا مولاي؛ فوالله لا يكون إلا ما تريد!
فلما كان المساء، كان القاضي بدر الدين السنجاري مرتفقا
3
إلى نافذة من نوافذ القلعة تشرف على الطريق، يتهيأ لأمر قد أعدت عدته، فلما تجلبب الكون بالظلام
4
نهض فانتطق بحبل من كتان
5
ودلاه صاحباه من النافذة رويدا رويدا حتى لامست قدماه الأرض، فحل منطقته ومضى في طريقه مغربا لا يلوي على شيء، وطال به السرى والتهجير،
6
لا ينشد الراحة لحظة، حتى بلغ مضربا من مضارب الخوارزمية فتمهل، ثم سأل عن خيمة الأمير حسام الدين بركة مقدم الخوارزمية، فدل عليها؛ فاستأذن ودخل، ثم دفع إليه رسالة من شجرة الدر؛ فما كاد يتلوها حتى أدناها من شفتيه فقبلها، ثم رفعها إلى رأسه تكريما!
وأصبح منذ الغد على الطريق إلى سنجار جيش من الخوارزمية يقوده حسام الدين، وغباره يحجب وجه الشمس!
وكان الخوارزمية - منذ انحلت دولتهم وغلبهم المغول على بلادهم بعد مصرع السلطان جلال الدين - قد تفرقوا في البلاد يرتزقون بسيوفهم في جيوش الإمارات المتنافسة، فهم جند كل ذي مال من الأمراء، يغلب بهم ما وسع عليهم في الرزق، فإذا قبض يده انفضوا عنه يلتمسون رزقا جديدا في جيش جديد؛
7
على أن بقية من الحفاظ
8
والمروءة كان تحفزهم أحيانا إلى ألوان من البطولة والنجدة تذكر ببعض ما كان لهؤلاء الجند أيام عز دولتهم من المجد والكرامة؛ وقد جاءهم كتاب شجرة الدر فلم يسعهم أن يتخلوا عن تقاليد الفروسية المجيدة التي ناشدتهم إياها، فهبوا لنجدة الأسيرين الكريمين في قلعة سنجار.
وكان الملك الصالح نجم الدين قد بلغ منه القلق مبلغه، لا يدري أين ينتهي به الأمر وقد أغلقت من دونه أبواب هذه القلعة؛ على أن شر ما كان يخشاه أن يفطن آسره إلى مكان شجرة الدر، فيقتادها إلى الموصل حيث كانت قبل أن تأوي إلى كنفه، ويثأر ثأرين من عدوه نجم الدين!
9
ومضى نجم الدين يجوس خلال القلعة قلقا حيران، فإذا جماعة من صحابته في الأسر قد تحلقوا حول شيخ مكفوف البصر يستمعون إليه خاشعين مستغرقين في الفكر، فلم ينتبهوا إلى موقف الأمير منهم على مقربة.
ذلك أبو زهرة المنجم، وكان قد خرج في ركب الأمير يقصد مصر، فاقتيد أسيرا مع الأسرى، وأولئك أصحاب الأمير يستمعون إلى ما يحدثهم به من أنباء الغيب؛ ليصرفهم ذلك عن بعض ما يلقون من الضيق والقلق والملال.
ووجد الأمير في حديثه ما يصرفه عن بعض ما يلقى، فدعاه إلى خلوته وجلس يستمع إليه.
وكان جند الخوارزمية يقتربون من القلعة وقد سبقهم الغبار؛ فأسرعت شجرة الدر إلى الأمير تنبئه النبأ، ورأت أبا زهرة في مجلس الأمير فقالت ضاحكة: لعل المنجم يا مولاي قد سبق إليك بالبشرى!
فرفع الأمير إليها رأسه وقال في لهفة: ما وراءك يا شجرة الدر؟
قالت: الخير يا مولاي كل الخير .
ثم صحبته إلى حيث يرى.
وأطبق الخوارزمية على جند صاحب الموصل، فلم يدعوا لهم فرصة للدفاع ولا سبيلا إلى الفرار، وغص الميدان بأجساد القتلى والجرحى، وتخضبت الأرض بالدم، ونجا بدر الدين لؤلؤ برأسه وحيدا على فرس عاطل
10
يطلب البيداء.
وانفتح باب القلعة وخرج الملك الصالح وأصحابه يستأنفون السير إلى مصر، ووراءهم من الخوارزمية جيش لجب، وانفسح أمامهم المدى!
الفصل الثامن
ريبة وقلق
وعلى امتداد الطريق بين الموصل والشام، كان إلى جانب مركب الأميرة مركب آخر يضم طفلا بين يدي حاضنته، وليد لم يبلغ سن الفطام، مهزول ضعيف، ولكنه من عظم الشأن بحيث لا تكاد الأميرة شجرة الدر تفكر إلا فيه أو تحمل إلا همه، ألم يحدثها أبو زهرة المنجم أنها ستبلغ باسمه العرش، فتملك وتحكم وتبلغ من المجد ما لم تبلغه امرأة في تاريخ المشرق والمغرب؟
ولكن أبا زهرة لم يفصح عن كل ما في نفسه، فلم ينبئها ماذا سيكون شأن ذلك الصبي، وإنما حدثها عما سيكون شأنها هي باسم الصبي!
ما معنى هذا؟ وما دلالته؟
على أن ثمة إشارات أخرى غامضة كانت تتخلل حديث ذلك المنجم لا تكاد تفطن إلى مفهومها، ولكنها تملأ نفسها قلقا وريبة؛ وإنها إلى ذلك لتحس أن في نفس الملك الصالح من القلق والريبة مثل ما بها، منذ بغتته ذات يوم يتحدث إلى ذلك المنجم في قلعة سنجار.
أتراه قد أسر إليه حديثا عنها وعن ولدها مما يقلق ويريب؟
وتوزعتها الظنون فلم تكد تستقر على رأي، ثم ثابت
1
إلى الطمأنينة والسلام، وطرحت كل ما كان يعتمل في نفسها من الأوهام.
وأوت إلى زوجها ذات ليلة فاحتضنت عودها وجلست تغنيه صوتا بعد صوت، وتتنقل به في مجالي الأنس مرحلة بعد مرحلة، وغنت:
دع النجوم لطرقي يعيش بها
2
وبالعزيمة فانهض أيها الملك!
إن النبي وأصحاب النبي نهوا
عن النجوم، وقد أبصرت ما ملكوا!
وهب الملك واقفا فدنا منها وهو يقول: لله أنت يا شجرة الدر! فبالله إلا ما حدثتني من أين لك العلم بمكنون صدري؟!
3
فاستضحكت وقالت : لأنني من ذلك الصدر يا مولاي في أرحب مكان!
وسري عن الملك ما كان ينتابه من القلق والريبة منذ استمع إلى حديث أبي زهرة المنجم في قلعة سنجار، فساء ظنا بولده وبزوجته وبحاشيته جميعا، وعجب لنفسه كيف اطمأن إلى حديث ذلك الشيخ المكفوف، وأنكر ما تراه عيناه في زوجه من صدق الإخلاص وحسن المودة وكريم التقدير، ألأنها - فيما زعم المنجم المكفوف - تسعى إلى العرش وتلتمس الأسباب إلى السلطان وتصطنع من بطانته من تصطنع لهذه الغاية باسم ولدها؟ وماذا يريبه في ذلك وهي زوجه وأم ولده؟
وعاد ما بين الزوجين إلى الصفاء والمودة!
الفصل التاسع
أشواك على الطريق
وبلغ الملك الصالح بجيشه دمشق، فتلبث ينتظر ما يكون من أمره وأمر أمراء الأيوبيين في الشام، وما يأتيه من أنباء القاهرة.
وكان العادل في مصر قد ساء سيرة وفسد سريرة، وأسرف في بذل المال حتى أوشكت أن تنفد خزائنه، وقد غلبه أصحابه على رأيه، فأعطاهم مقادته يصرفون الأمر في الدولة كيف يحلو لهم؛ ليفرغ لشهواته ومباذله، واطرح أمراء أبيه وأقصاهم عن السلطة، وأمعن في مطاردتهم والميل عليهم.
وترامت إليه الأنباء بحركة أخيه الملك الصالح نجم الدين، فقبض على أصحابه واستصفى أموالهم، وألزمهم دورهم أو ساقهم إلى معاقل الأسر، وقبض على الأمير فخر الدين بن الشيخ، وإنه وإخوته يومئذ لأعظم أمراء الدولة حرمة وأرفعهم منزلة؛ إذ كانوا - فوق مكانتهم في العلم والدين وماضيهم المجيد في خدمة الدولة - إخوة أبيه الملك الكامل بالرضاع، وكان أحظى لديه من سائر أمرائه وأدناهم إلى الشعب منزلة.
وضاق الناس بالعادل وثقلت عليهم أيامه، فتوجهوا بقلوبهم إلى المشرق يؤملون أن يطلع عليهم من هناك من يخلصهم من بغي ذلك الملك الصبي!
وترادفت الرسل على الملك الصالح نجم الدين أيوب. •••
على أن طائفة من أمراء الأيوبيين بالشام كانوا يطمعون في عرش مصر؛ منهم من يستعلن بنيته، ومنهم من يستخفي، وكان أكثرهم سعيا إلى تلك الغاية هو الناصر داود - ابن عم نجم الدين - أمير الكرك والشوبك وما يليهما من أرض الأردن
1 - وكانت زوجه «عاشورا خاتون» بنت الملك الكامل، وأخت الملك الصالح نجم الدين - فاصطنع الناصر أسلوبا من السياسة بين الأخوين المتنافسين على عرش الأيوبية، إن لم يبلغ به ما يؤمل من الوصول إلى العرش، فحسبه أن يبلغ به عرش الشام خالصا له وحده.
فراح يتودد إلى الملك الصالح نجم الدين، وإن رسله ورسائله لتتردد في الوقت نفسه بينه وبين العادل في مصر.
وانحاز إليه طائفة من أمراء الشام، وبقي على الولاء للعادل أو للصالح طائفة، وآثرت طائفة ثالثة أن تعمل لنفسها أو تعتزل الطائفتين جميعا، وغص الميدان الشامي بأصحاب المطامع. •••
كان الملك الصالح بنابلس
2
ليس بينه وبين الظفر إلا مرحلة، ولم يكن معه ثمة إلا طائفة قليلة من عسكره، على حين كان سائر جنده منبثين في مدائن الشام يوطئون لمولاهم سبيل الوصول إلى غايته.
وكان القمر يسطع في السماء قد أوشك أن يصير بدرا، وقد عكف المؤمنون على صلواتهم، طيبة نفوسهم قريرة أعينهم، قد امتلأت قلوبهم بشرا ومسرة؛ فقد كانت تلك ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، ذكرى مولد النبي الأعظم
صلى الله عليه وسلم .
وعلى حين غفلة دوى نفير الحرب، فهب الملك الصالح وأصحابه إلى آلة حربهم يظنون أن قد طرقتهم خيل الصليبيين،
3
ولم تكن إلا مكيدة مبيتة من الناصر للإيقاع بالملك الصالح نجم الدين، فما كاد يبرز من خيمته إلى العراء حتى أحاط به طائفة من جند الناصر، فاقتادوه على بغلة بلا سرج ولا ركاب، يغذون به السير في البادية إلى قلعة الكرك، واقتيدت معه امرأته وولده وقليل من صحابته، فألقى بهم في غيابة القلعة أسارى لا حول لهم ولا حيلة، وأبلغ النبأ إلى العادل في مصر، وكتب إليه الناصر يقتضيه الثمن!
4
وأقيمت الزينات الملوكية في القاهرة؛ فرحا بخذلان عدو السلطان العادل وذهاب أمره.
على أن العادل لم يكن ليطمئن ويهدأ باله، وعدوه ما يزال حيا ولا سبيل له عليه، فبعث إلى الناصر بمال جم على أن يسلم إليه أخاه ليقتله فيتخلص منه إلى الأبد!
ولكن الناصر لم يكن ليخدعه المال عن الأمل الكبير الذي يأمله، فبعث إلى العادل يطلب إليه أن يدع له عرش الشام خالصا قبل أن يسلم إليه أخاه!
وترددت بينهما الرسل والرسائل أشهرا، والملك الصالح في معتقله لا يكاد يجد كفاية من الطعام والشراب وراحة الجنب، ولا يكاد يخلص إليه شيء من أنباء ما يجري وراء أسوار القلعة؛ فلولا ما تحاول شجرة الدر أن تقدم إليه من أسباب التسرية والمسرة، ولولا ما يسمع من حديث صاحبه البهاء زهير، وما يرى من مظاهر إخلاص الطائفة القليلة من المماليك الذين صحبوه إلى معتقله
5
لضاق بحياته فزهقت نفسه.
الفصل العاشر
تدبير وكيد
افتقد مماليك الأمير في الحصن ذات صباح صاحبهم بيبرس فلم يجدوه، فانتابهم القلق وظنوا الظنون، ودرى بمغيبه الملك الصالح فزاد قلقا وهما، وكانت جهان ماشطة الأميرة شجرة الدر أشد الجميع قلقا وأكثرهم هما، فلم تطعم شيئا منذ بلغها النبأ، وانطوت على نفسها حزينة دامعة العين، لا تخف إلى خدمة ولا تجيب نداء!
فرد واحد من هذه الأسرة الملوكية التي أحيط بها في هذا المعتقل كان يبدو هادئ النفس مطمئنا، كأنما لا يعنيه شيء من غياب ذلك المملوك الباسل، ولا يفكر من أمره في شيء؛ تلك هي شجرة الدر!
ورفعت جهان عينيها إلى مولاتها وهمت أن تقول شيئا، ثم أمسكت وطأطأت رأسها في انكسار وحزن، وأحست الأميرة بما يعتلج في نفس جاريتها، فأدركتها رقة وهمت أن تقول لها شيئا، ثم أمسكت كذلك، وتدابرتا فمضت كل منهما إلى طريق وعلى شفتيها كلام لم تسمعه أذنان!
ومضت أيام قبل أن يعود بيبرس، فتطمئن الخواطر وتهدأ الظنون، ولكن بيبرس منذ عاد من غيبته تلك لم يتحدث إلى أحد، ولم يحاول أحد أن يتحدث إليه أو يعرف فيم كان غيابه ولم عاد!
وهدأ وجيب القلوب إلا قلبا واحدا كانت تتوزعه الظنون والأوهام؛ ذلك قلب جهان ماشطة الأميرة، فلم تكد تطمئن على سلامة صاحبها حتى أجد لها الفكر مذاهب أخرى من القلق والريبة، وظنت به ظنون كل أنثى بمن تحب.
وكأنما أحست شجرة الدر بما يعتمل في نفس جاريتها، فقالت باسمة: ليهنك يا جهان عودة بيبرس موفقا من سفارته، وإنه لحقيق بأن يؤدي عاجلا ما عليه من الثمن قبل أن يظفر بأمنيته الغالية، ويجتمع شمله بمن يحب، في دار على النيل!
قالت جهان وقد سري عنها ما بها ورفت على شفتيها ابتسامة رضا واطمئنان: شكرا يا مولاتي، إنني وبيبرس لخليقان بأن نبذل دمنا في سبيل مرضاتك ومرضاة مولانا الملك الصالح. •••
في مساء ذلك اليوم كانت امرأتان جالستين وجها لوجه في غرفة قد خلت إلا منهما، يتبادلان الحديث في همس.
قالت إحداهما: قد جاءني النبأ يا خاتون بما تم عليه العهد بين زوجك الناصر والعادل سيف الدين، وإن نجم الدين أخوك يا عاشورا، وما أظن نفسك تطيب بأن يسلمه زوجك إلى أخيه العادل فيسفك دمه أو يلقي به في جب القلعة حتى يموت صبرا.
قالت صاحبتها: نعم، ولكن من أين لي أن يقتنع الناصر بما أدعوه إليه، وقد وعده العادل بأن يكون له عرش الشام إذا أسلم إليه أخاه، وإن الناصر - كما تعلمين - لحريص على أن يبلغ هذه المنزلة!
قالت شجرة الدر: وترين العادل أهلا لأن يفي له بما وعد؛ فأنى له ذلك وليس له سلطان على الشام، وإنما هي تحت يد الصالح إسماعيل، فليستخلصها العادل من يد صاحبها قبل أن يعد بها الناصر، وإلا فإنها موعدة إلى غير وفاء!
فأمسكت عاشورا خاتون زوجة الناصر لحظة تفكر، ثم قالت: وماذا يغري الناصر بإطلاق سراح نجم الدين، وليس في يده ما يؤديه إليه ثمنا لحريته؟
قالت شجرة الدر: وهل رأيت أخاك الصالح أهلا لأن ينكث بما وعد؟ فيستخلص الشام من يد الصالح إسماعيل، وسيكون له عرش مصر، وتجتمع في يديه السلطات، وإنه حينئذ لخليق بأن يحقق للناصر مأمله ويقاسمه الغنيمة؛ فتكون لنا قلعة الجبل،
1
ويجلس الناصر على عرش بني أمية في دمشق.
سرحت خواطر عاشورا خاتون، وغلبتها على رأيها أماني الملك والسلطان، واطمأنت إلى ما وعدتها شجرة الدر، فنهضت تحاول مع زوجها الناصر تدبيرا لإطلاق سراح أخيها الملك الصالح نجم الدين. •••
وانتصف رمضان ولم يزل نجم الدين حبيسا في قلعة الكرك، لا يكاد ينشق روح النسيم أو يرى وجه السماء، إلا أن يأذن له زريق حارس الباب، فلولا ما يسري عنه من حديث زوجه شجرة الدر، ومن ألطاف أخته عاشورا خاتون زوجة الناصر، لهلك غما.
ونهض الأمير ذات مساء لصلاة العشاء، فلما أدى الفريضة وصلى التراويح، جلس في مصلاه يذكر الله ويدعو، وعلى مقربة منه جلست شجرة الدر صامتة وقد تعلقت به عيناها لا تكاد تطرف، وإن رأسها ليموج بما فيه من خواطر.
وكان الأمير يتلو:
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . فابتسمت شجرة الدر وقالت: برد وسلام، وروح وريحان، وجنة نعيم!
كف الأمير عن التلاوة ورفع إليها عينيه، واستطردت شجرة الدر: فهل ذكرت يا أميري أننا من هذه القلعة في البلد الذي أعدت فيه النار لإبراهيم فلم تكن عليه إلا بردا وسلاما، وباء أعداؤه بالخذلان!
2
فاستبشر الأمير وقال باسما: نعم، فليت كل نار تشب للعدوان في هذا البلد تحور بردا وسلاما، ويبوء المعتدون بالخذلان.
قالت: لعل الله أن يستجيب لك، فهل ذكرت إلى ذلك أنها ليلة القدر: سلام هي حتى مطلع الفجر؛ لأنها ليلة السابع عشر من رمضان؟
3
فانبسطت نفس الأمير وقال في بشر واطمئنان: لك الله يا أميرتي، فلولاك ...
وسمع طرقا على الباب فأمسك، ودخل حاجبه يؤذنه بمقدم ابن عمه وآسره الناصر داود. •••
وأطلق سراح الأمير منذ الليلة، ليأخذ طريقه إلى مصر فيستخلص عرش الأيوبيين من يد العادل، ويدع للناصر عرش الشام ونصف الخراج.
4
والتأم جيش الملك الصالح نجم الدين بعد شتات، وسارع إليه جنده من كل صوب، ومضى في طريقه فلم يتوقف حتى بلغ العريش، فأقام قليلا يتأهب للمرحلة التالية، ثم استأنف مسيره إلى بلبيس.
وحقت الهزيمة على العادل فاقتيد أسيرا إلى قلعة الجبل، وجلس الملك الصالح نجم الدين أيوب على عرش أبيه، ودانت له البلاد.
وبلغت شجرة الدر ما كانت تأمل، وقاسمت زوجها المجد والسلطان، وهتفت الملايين باسم أم خليل زوجة الملك الصالح أيوب.
ثم لم يلبث أن فسد ما بين الناصر والملك الصالح بعد أن بلغ العرش، فخرج الناصر مغاضبا له وهو يعض بنان الندم، وعاد إلى إمارته الصغيرة في أرض البلقاء، لم يظفر بعرش الشام ولا بعرش اليمن!
الفصل الحادي عشر
حساب الماضي
- ماذا تقول يا حسام الدين؟ - هو الحق يا مولاي، فليس في خزانة الدنانير إلا دينار واحد، وليس في غيرها من الخزائن إلا ألف درهم، ذلك كل ما بقي في خزانة الدولة يا مولاي.
قال الملك مغيظا حنقا لا يكاد يصدق ما سمعته أذناه: انظر جيدا يا حسام الدين؛ فقد كان في خزائننا منذ قريب يوم مات الكامل، ستة آلاف ألف دينار - ستة ملايين - وعشرون ألف ألف درهم - عشرون مليونا - فأين يذهب كل ذلك في بضعة عشر شهرا؟!
1
قال صاحب بيت المال: ذهب كله يا مولاي إلى بيوت أصحاب العادل، وقد رأيت عمال الخزانة لعهده يحملون المال إلى أصحابه في الأقفاص على رءوس الحمالين. - إذن؛ فادع لي كل من تعرف ممن ناله شيء من مال السلطان لندبر أمرنا وأمره. •••
ومضى يومان، والتأم في القاعة الكبرى من قصر القلعة مجلس حافل يضم عديدا من الأمراء والقضاة ورؤساء الجند ومقدمي المماليك وكل ذي جاه ومال من بطانة العادل، وتوسط الملك الصالح المجلس، فدار بعينيه في وجوههم فردا فردا قبل أن يتوجه إليهم بسؤاله في لهجة التأنيب والملامة: لماذا خلعتم سلطانكم وكان له في أعناقكم حق الطاعة؟
ونظر المجتمعون بعضهم إلى بعض، كأنما يعجبون أن يؤنبهم على أن أتاحوا له بخلع أخيه أن يرتقي إلى العرش، ولكنهم كان لا بد أن يجيبوا، فقال قائلهم: قد خلعناه؛ لأنه سفيه لا يحسن تدبير الأمر ولا سياسة الملك!
قال الملك باسما: فهل علمتم - وفيكم الفقهاء والقضاة وأصحاب الرأي - أن تصرف السفيه ينفذ؟
2
فردوا على الدولة ما أخذتم من يده؛ إذ كان السفيه لا يملك أن يهب ولا أن يشتري ويبيع!
وعاد المجتمعون ينظر بعضهم إلى بعض، ثم أذعنوا راضين أو مكرهين !
وأحصى الملك ما ردوا إلى الخزانة من المال، فإذا هو قد بلغ ثمانمائة ألف دينار، وألفي ألف وثلاثمائة ألف درهم. •••
قالت شجرة الدر: بلى، قد أذعنوا يا مولاي لأمرك وأعطوك مقادتهم، وكانوا من قبل أصفياء العادل وبطانته، فانفضوا عنه حين زال عنه الجاه والسلطان، فلا يملك لهم نفعا ولا مضرة؛ وإني لأخشى هؤلاء الكرد
3
أن يخامروا عليك كما خامروا على أخيك من قبل، وكانت في أعناقهم له البيعة، وهؤلاء أبناء عمومتك في الشام لا يريدون أن يدخلوا في طاعتك راضين، فلا يزال فيهم من يحاربك طمعا في الاستقلال بما تحت يده من بلاد الدولة، وإن منهم من يستنصر بالصليبيين ليكسر شوكتك ويفل جندك؛ وقد رأيت يا مولاي بلاء الترك من مماليكك في حرب العدو،
4
فإن شئت كان لك جيش منهم لا يثبت له جيش في الأرض، وتثبت دعائم ملكك فلا تخشى من بعد تمرد الأيوبيين ولا انتقاض الكرد.
قال نجم الدين: نعم الرأي ما أشرت به يا أم خليل، وسأشرع منذ الغد في بناء قلعة بالجزيرة
5
تتسع للآلاف من المماليك، يكونون للدولة سندا وقوة. •••
ولم يتمهل الملك في تنفيذ ما اعتزم، فبنى قلعة الجزيرة، واتخذ له ثمة قصرا،
6
وحشد في برج القلعة من المماليك جيشا ذا عدد وقوة، وجعلهم طبقات وفرقا، على كل فرقة منهم مقدم من خاصة مماليكه يتولى أمرهم وينظر في مصالحهم، وأقطع هؤلاء المقدمين أرضا ورتب لهم ألقابا ووظائف، ومنحهم سلطة الأمراء.
وقوي شأن الترك في الدولة بقدر ما ضعف شأن الكرد، وأثبت جيش المماليك قوته وبأسه في عدة معارك مظفرة، وبرزت أسماء الأمراء: فارس الدين آق طاي، وركن الدين بيبرس، وسيف الدين قلاوون، وعز الدين أيبك الجاشنكير، إلى عشرات من الأمراء ذاع لهم صيت وجاه، وكانوا منذ قريب أرقاء في يد النخاس يساوم عليهم بالمال!
واختفت أسماء الأمراء العظام من بني أيوب، فلا يكاد يذكرهم ذاكر، وكان لهم الجاه والعز والكرامة!
7
وثبتت دعائم الدولة، وقوي شأن الملك الصالح نجم الدين أيوب، لولا بعض الفتن التي يثيرها أمراء الأيوبيين في الشام، وفلول الصليبيين على الساحل.
الفصل الثاني عشر
دار على النيل
وجلست شجرة الدر في شرفة مطلة على النيل من قصر الجزيرة، تسرح الطرف على امتداده، فترى النخيل مثقلة بأحمالها تتمايل مع النسيم ولها حفيف يتجاوب، وشمس الأصيل منبسطة على صفحة الماء في النيل وقد امتدت على شاطئيه المزارع الخضر الناضرة مرصعة بألوان الزهر، والصحراء الممتدة إلى حيث لا يدرك الطرف غاية ولا نهاية، قد قامت عليها الأهرام منتصبة شامخة تهزأ بأحداث الزمن، فكأنما أجدت هذه المناظر الفاتنة للأميرة ذكرى بعيدة، فتنفست نفسا عميقا، وراحت تدندن بأغنية عتيقة قد طال بها العهد:
حبذا دور على النيل ...
1
وتحولت عن الشرفة قليلا، فرأت بين يديها ماشطتها جهان، قد سرحت نظرتها إلى بعيد وفي عينيها ظمأ وحنين!
وتذكرت الأميرة موعدا بينها وبين الجارية قد طالت عليه السنون، فأخذتها على الفتاة رقة ومالت عليها تربت كتفها قائلة: ليهنك يا جهان ما بلغ فتاك من المجد والحظوة لدى مولاه، وقد حق له ولك - بما بذل وبما صبرت على الوفاء - أن تقطفا ثمرة هذا الحب، فإذا انقضى هذا الشهر وحان موعد وفاء النيل، فسأشهد ويشهد الملك زفاف جاريته جهان على الأمير ركن الدين بيبرس، وتكون لكما دار على النيل ...
فاغرورقت عينا الفتاة ومالت على يد مولاتها تقبلها وتبللها بالدمع، شاكرة لها ما حبتها وحبت فتاها من النعمة.
ولم تنم الفتاة منذ تلك الليلة إلا على ذكرى، ولم تستيقظ إلا على أمل، وأرقها الرجاء الداني كما كان يؤرقها اليأس البعيد، فباتت تعد الليالي وترقب القمر في سراه، وتستنبئ ماء النيل في مجراه تحت شرفة القصر عن موعد الوفاء. •••
ووفى النيل في ميعاده، ولكن المقادير لم تف للفتاة بما وعدت؛ فقد كان القصر والقلعة والمدينة كلها يوم وفاء النيل في حزن شامل، وقد لبس الجميع البياض حدادا على موت الملك المنصور خليل
2
ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب.
واحتجبت شجرة الدر في مقصورتها، تبكي حتى تشرق بالدمع على وحيدها الذي كانت ترقب له أعظم الآمال !
وبكت حاضنته خاتون ما بكت؛ أسفا على ما كانت تأمل أن تبلغه من الحظوة والسلطان يوم يبلغ الملك الصغير أشده ويجلس على عرش أبيه!
وبكت جهان الماشطة حتى قرح الدمع أجفانها؛ لأن القدر لم ينسأ
3
في أجل الصبي حتى يفي النيل وتزف إلى فتاها الذي ترقب موعده منذ سنين!
وبكى أمراء المماليك؛ لأن مولاتهم التي يضمرون لها الحب والولاء ويدينون لها بالطاعة قد مات وحيدها الذي كانت تهيئه لولاية العهد، وسيكون ولي عهد المملكة من بعده أميرا آخر من أمراء بني أيوب، لا تربطهم به آصرة وليس لهم عليه يد تقتضيه لهم الوفاء!
وخيم على القصر والقلعة والمدينة كلها جو من الحزن والكآبة! •••
وجلس الملك إلى زوجته الثكلى يحاول أن يواسيها ويسري عنها، وفي قلبه من الهم ما لا يجد عزاء منه ولا سلوانا.
قالت شجرة الدر: ليس ما بي والله يا مولاي أن خليلا قد مات وحرمت الأنس به، ولكني أخشى على هذه الدولة أن ينفرط عقدها إذا آل الأمر - بعد عمر مديد - إلى ولدك الأمير غياث الدين، وليس فيه كياسة تؤهله لولاية العرش.
4
فتأوه نجم الدين وحضره بثه، فأطرق لحظة يفكر، ثم رفع رأسه وهو يقول: لا تذكري غياث الدين للعرش يا أم خليل؛ فما أراه يصلح له أو يستقيم أمره، حسبه أن يظل في حصن كيفا أميرا على ما يليه من بلاد المشرق؛ فإني لأخشى إن نازعته نفسه إلى العرش أن يسعى بقدمه إلى حينه ويخترم في الشباب!
5
قالت شجرة الدر: مولاي، ولكن تراث الخالدين من بني أيوب أمانة بين يديك، فهلا عهدت إلى أحد من أهلك يحفظ الأمانة بعدك؟
قال الملك وقد بدا في عينيه انكسار وحزن: فقد عهدت إليك يا شجرة الدر أن تسلمي البلاد للخليفة من بعدي،
6
فلا يتنازعها الأمراء حتى تذهب قوتها وتطأها خيل الصليبيين.
قالت مواسية: عمرك الله يا مولاي حتى تنجب وليا للعهد تنشئه على عينك وتهيئه لحمل أمانتك، ويمتد بك العمر حتى تراه يحكم باسمك فيحسن الحكم والسياسة؛ إنك يا مولاي لم تزل في ربيع الحياة، وإن الله لأبر بك!
الفصل الثالث عشر
مساومة على الموت!
جلس الأمير ركن الدين بيبرس ساهما قد توزعه الفكر وضاقت به مذاهبه؛ أكلما خيل إليه أنه قاب قوسين أو أدنى مما يأمل، تنكر له حظه واعترضت سبيله المقادير؟!
إنه لم يزل منذ سنين يرقب ذلك اليوم الذي يزف فيه إلى فتاته ليسعد إلى جوارها فترة من العمر في دار على النيل، تغني له ويستمع إليها هانئا نشوان، ولكن ذلك اليوم لا يريد أن يأتي، ولعله لا يأتي أبدا؛ فكلما بدا له أنه قريب قريب على مد يده، أو على مد عينيه، ماجت من حوله الأحداث فاحتملته أمواجها إلى بعيد، لا تناله يد ولا تمتد إليه عينان، فلا يزال مقبلا مدبرا بين الرجاء واليأس، وفتاته المحبوبة من دونها أسوار وحجب، قد حالت غيرة الأمير وتقاليد القصر بينه وبينها، فلا يكاد يراها أو يتحدث إليها ويستمع إلى حديثها إلا في الندرة النادرة، وفي العام بعد العام!
فبينما هو في مجلسه ذاك ساهما يفكر، إذ مثل بين يديه الأمير عز الدين أيبك، يدعوه إلى مقابلة شجرة الدر.
وخف إلى مجلسها وفي نفسه أمل، وكانت - لم تزل - في بياض الحداد على وحيدها المنصور خليل، وقد التثمت بفضل ردائها
1
لا يكاد يبدو من وجهها إلا عينان ساحرتان، فيهما أمر واجب الطاعة.
ووقف بباب مقصورتها مستأنيا حتى تأذن له، ثم دخل.
وكانت جهان إلى جانب مولاتها.
قالت شجرة الدر: لأمر ما دعوتك يا أمير ركن الدين.
ثم نقلت عينيها بين الأمير وصاحبته، ولكن الأمير وصاحبته مما غلبهما من الوجد لم يكونا يريان أو يسمعان.
فابتسمت الأميرة واستأنفت: قد كنت أرجو يا بيبرس لو أن القدر قد وفى لي ولكما؛ ولقد حملت يا أمير كثيرا من هم الدولة، فلست أكلفك إلى ذلك أن تحمل هم من بقي ومن مات، فإن شئت جلوت عليك عروسك غدا أو بعد غد إن طاب لك التعجيل!
رفرف قلب جهان بين أضالعها رفرفة الطائر، وأنغض بيبرس رأسه حياء وهو يقول في تلعثم: لا زلت ولية النعمة يا مولاتي، وما كان لي ولا لجهان أن نلتمس أسباب المسرة وما تزال في القلب حسرات على فقد مولانا الملك المنصور خليل!
وبرق الدمع في عيني الأميرة، وعض بيبرس على شفته، وطأطأت الفتاة رأسها في انكسار.
قالت شجرة الدر: فليكن زفافكما إذن غداة مقدمك مظفرا من حرب صاحب دمشق، ويومئذ أسأل مولاي الملك الصالح أن يوليك إمارة من إمارات الشام تتمتع فيها أنت وعروسك جهان بما تأملان من النعمة والسلام؛ جزاء ما بذلت وما صبرت.
قال بيبرس هادئا: في طاعتك يا مولاتي وطاعة مولاي الملك الصالح، يطيب لي أن أبذل دمي.
ثم حيا واتخذ طريقه إلى الباب، وبين قلبه وعقله صراع تكاد نظرة عينيه تكشف سره! •••
وتهيأ الملك الصالح للخروج بجيشه إلى الشام ليقضي على ما بقي من فتنة أصحاب المطامع ويوطئ لعرشه؛ وصحبته شجرة الدر وزيرة ومشيرة ومؤنسة؛ وما كان له أن يخليها في القاهرة ويمضي إلى سفر بعيد.
وكان مقدم جيشه فخر الدين بن الشيخ، يؤازره من أمراء الجند: عز الدين أيبك، وفارس الدين آق طاي، وركن الدين بيبرس، وسيف الدين قلاوون، وترك في القاهرة نائبه حسام الدين مفوضا في الحكم حتى يعود.
وتوالت هزائم العدو وتهاوت معاقلهم معقلا وراء معقل، وأوشكت أن تطهر الشام من فلول المتمردين على عرش الملك الصالح أيوب.
ثم جاءه البريد ذات صباح برسالة، فلم يكد يفض ختامها حتى خلى الميدان وأزمع المآب، وترك على دمشق نائبه الصاحب جمال الدين بن مطروح.
2
وبات الملك على الطريق إلى مصر متعبا منهوكا، قد هاجت به علة ذات الصدر، إلى قرحة في مأبضه لا تزال تدمى.
3
قالت شجرة الدر مترفقة: متعك الله يا مولاي بالصحة وأنعم بك، فهلا أخبرتني ماذا بك؟
قال متجلدا: أراني بخير يا شجرة الدر ما بقيت بجانبي، وإنما هو ما يعتادني من ذات الصدر ومن تلك القرحة إذا طرقني هم، وقد كنت أظن أولئك الصليبيين قد ثابوا إلى الرشد بعد ما نالهم من الهزائم في كل ما خاضوا من المعارك، حتى جاءني البريد عنهم اليوم بنبأ جديد، فقد أقلعوا من جزيرة قبرص منذ قريب على قصد دمياط، على رأس جيش لم يجتمع لهم مثله من قبل.
4
قالت: هون عليك يا مولاي، فوالله لا يكون إلا ما تقر به عينا، ويبوءون بالخسران في حملتهم هذه كما باءوا في كل ما سبق من حملاتهم الغاشمة، وإن دمياط لأمنع مما يؤمل هؤلاء الصليبيون، وإن بها من الجند والعتاد وأسباب الحرب ما يدفع عنها، ويرد إلى البحر كل من تحدثه نفسه باقتحامها، وحسبك من فيها من بني كنانة الأنجاد.
الفصل الرابع عشر
هزيمة البطل!
برح الداء بلويس التاسع ملك فرنسا حتى أشفى على الموت، وحار الأطباء في علاجه؛ فإنه لفي غمرة من غمرات المرض إذ ألقي إليه أن يقسم إن برئ من دائه ليقومن عن رأس حملة صليبية عظيمة إلى المشرق؛ قربانا إلى ربه وشكرا لنعمته. ثم لم يلبث أن برئ فأخذ في تنفيذ ما اعتزم،
1
فجمع جيشا لم يجتمع مثله قط، فأبحر من مرسيليا على ألف وثمانمائة سفينة قد اجتمعت له من بيزا وجنوة والبندقية وغيرها من بلاد الساحل، واتخذ سبيله إلى مصر.
وتلبث الجيش فترة في قبرص حتى يستكمل أهبته قبل أن يستأنف سيره إلى دمياط، وبلغت أنباؤه الملك الصالح أيوب، فأسرع عائدا إلى مصر، واتخذ المنصورة مركزا للقيادة العامة، وبعث بالأمير فخر الدين بن الشيخ إلى دمياط على رأس جيش كبير لتدبير أسباب الدفاع.
ولم تكن هذه أولى حملات الصليبيين على دمياط؛ إذ كان موقعها على مصب الفرع الشرقي للنيل، مغريا لهؤلاء الغزاة على قصدها، ليركبوا النيل منها إلى القاهرة فلا يعترض سبيلهم شيء - فيما يزعمون - دون امتلاك البلاد.
على أن دمياط كانت من المناعة وعظم الاستعداد بحيث لا يسهل على العدو أن يقتحمها دون أن يتعرض للهلكة وبعد حصار طويل يستنفد قوته وجهده، وقد ثبتت لحصار الصليبيين ذات مرة منذ بضع عشرة سنة،
2
فلم يستطيعوا أن يقتحموا أسوارها إلا بعد سبعة عشر شهرا؛ ولم يكن بها يومئذ من المقاتلة قوة ذات شأن، فأنى للصليبيين ما يأملون منها اليوم، وفيها من فيها من الأمراء والجند وأبطال بني كنانة، وعلى رأس قوات الدفاع الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ؟! •••
كان الأمير فخر الدين هو كل من بقي من ذوي الحسب الرفيع من أمراء دولة بني أيوب في مصر، وكان أميرا مهيبا له وقار وسمت، وفيه أريحية ونخوة، وله مشاركة في العلم والأدب، وماض في الجهاد، ووجاهة بين الناس، وكان إلى ذلك كله أثيرا لدى الملك الصالح؛ إذ كان أخا بالرضاع لأبيه الملك الكامل، وله عليه يد؛ إذ هيأ له السبيل لاعتلاء العرش بعد خلع أخيه العادل، وقد أدنته مكانته تلك من الملك؛ فلا يوصد دونه باب، ولا يعترض سبيله حجاب، وكان يتمتع من الجاه والحظوة لدى شجرة الدر بمثل ما يتمتع به لدى مولاها؛ إذ كانت تقدر له بلاءه في خدمة الدولة وتعرف مكانه، فلما برح الداء بالملك الصالح واقترب موعده، لم تجد شجرة الدر حولها من الأمراء من تؤهله صفاته لمؤازرتها فيما تضطلع به من الأعباء غير الأمير فخر الدين، فكأنما أرادت أن تمهد له السبيل إلى أمل تأمل أن يبلغه في يوم قريب، فأشارت على الملك أن يوليه قيادة الجند.
على أن حظوة الأمير فخر الدين لدى الشعب، ولدى الملك والملكة، قد أثارت غيظا كظيما لدى أمراء المماليك، فتداعت أمانيهم،
3
ولكنهم كانوا من الولاء والطاعة لمولاهم ومولاتهم بحيث لا يملكون إلا الرضا والتسليم!
وكأنما أحس فخر الدين بما يصطرع حوله من نوازع الخير والشر، فامتطى فرسه على رأس الجيش إلى دمياط وفي نفسه قلق وريبة، لا يدري أين تنتهي به المقادير، ولا كيف تكون عاقبة أمره وأمر الدولة، وهذه صحة الملك تزداد كل يوم سوءا، فلولا ثبات جنانه وقوة نفسه لأثبته المرض في فراشه لا يملك أمرا ولا نهيا، وحقت على البلاد الهزيمة! •••
ونزل العدو على الساحل، فما كانت إلا كرة بعد كرة حتى تقهقرت قوات الدفاع وألقي الرعب في قلوب الحامية ، فلم تثبت لهجوم الفرنجة وأخلت معاقلها!
وجاس العدو خلال الديار يهتك ويفتك ويسفك، ومضى الجيش المصري على وجهه موليا أدباره لا يقف في سبيله شيء، ووراءه الآلاف من أهل المدينة رجالا ونساء وأطفالا يتخطفهم الموت على الطريق، وقد امتلأت الأرض بجثث القتلى وأجساد الجرحى، تطؤها أقدام الفارين وتحطمها سنابك الخيل، واستولى الفرنجة على دمياط بلا كبير عناء، لم يحمها بنو كنانة ولا جيش فخر الدين!
وبلغ الفارون المنصورة وشاعت أنباء الهزيمة القاصمة وتناقلتها الطير إلى مختلف البلاد.
وارتاع الملك ولكنه لم يفقد ثباته، فأمر بأمراء الجند فعلقوا على الأعواد، وشنق خمسين أميرا من بني كنانة، وأمر أن يحمل إليه رأس الأمير فخر الدين.
قالت شجرة الدر: وماذا كان يملك فخر الدين أن يفعل يا مولاي وقد انخزل بنو كنانة وانفض عنه عسكره؟
قال الملك: كان يملك أن يثبت على فرسه وحيدا حتى يدركه الموت!
قالت: ذلك حق يا مولاي، ولكن من تراه يقوم مقام فخر الدين من أمرائك إن هلك، أفلا يشفع له بلاؤه في خدمة الدولة منذ كان، وما خاضه من المعارك الدامية؟
قال الملك: فقد وهبت لك دمه يا شجرة الدر!
قالت: عمرك الله يا مولاي حتى تقتضيه ثمن هذه المنة.
ولكن الملك الصالح لم يعمر طويلا حتى يشهد بلاء فخر الدين في دفاع العدو، فمات في ليلة النصف من شعبان سنة 647.
الفصل الخامس عشر
كبير الأمناء
العدو على الأبواب قد ملك ناصية الطريق، ورابطت سفنه في النيل، وتوشك خيله أن تطأ أرض الوادي فتحوزه من أطرافه.
والملك مسجى في فراشه قد أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة فلن يفتحهما أبدا، ولم يول عهده أحدا يحمل راية الجهاد من بعده.
وولده الوحيد بعيد في حصن كيفا على حدود المشرق، وليس له من الحزم وحسن التدبير ما يؤهله لولاية العرش في هذا الوقت العصيب.
وأمراء بني أيوب في الشام يتواثبون تواثب الضفدع: يخيل إلى من يراه أنه نشاط وجهاد، وما هو من ذلك في شيء، وكلهم يطمع في العرش، وما فيهم أهلية لحمل تبعات العرش.
وهؤلاء أمراء المماليك لا يزال في دمهم من طباع الأرقاء، قد بلغوا مرتبة الإمارة، فإن كلا منهم لا يزال ينظر إلى زميله نظره إلى الرقيق المجلوب ولا ينظر إلى نفسه.
فأين يبلغ شأن هؤلاء وأولئك جميعا إذا عرفوا أن العرش قد خلا من سيده، وأن رب التاج قد مات؟ وماذا يفعل العدو ولم يزل في نشوة انتصاره الأولى؟
وأسبلت شجرة الدر أجفان الملك الشهيد، وشدت لثامه ومدت على وجهه الغطاء، ثم أغلقت من دونه الباب وأوت إلى خلوتها تفكر ...
امرأة في رونق الصبا قد فقدت رجلها ...
ملكة ذات سلطان توشك أن تنزل عن العرش ...
قائد في المعركة قد أحيط به، ويوشك أن يتخلى عنه عسكره ...
كل أولئك شجرة الدر!
الرجل والعرش والنصر؛ ثلاثة أهداف بعيدة يجب أن تحرص على بلوغها.
وازدحمت الصور على عينيها متتابعة لا تعرف ما تأخذ منها وما تدع، واحتضرها الماضي القريب والبعيد، وذكرت فقيدها الصبي الملك المنصور خليلا، آه لو كان اليوم حيا!
وتذكرت إلى ذلك حديث أبي زهرة المنجم: «ستبلغين به العرش يا مولاتي، وتهتف باسمه الخلائق في شرق الأرض وغربها.»
ولكن خليلا قد مات، أفيتاح لنبوءة الشيخ أن تتحقق على وجه ما، فتبلغ العرش بأنها أمه، وتهتف باسمه الخلائق لأنها تحكم باسمه؟ أذلك ما كان يعنيه الشيخ؟ وماذا يمنع أن يكون؟ ألأنها امرأة؟ فقد كانت سيدتها ملكة تبريز وسيدة العجم فاطمة خاتون بنت طغرل السلجوقي امرأة، فأحسنت تدبير الملك والسياسة، لم تمنعها أنوثتها أن تكون ملكة، ثم لم تمنعها الملكية أن تكون أنثى، فخطبت نفسها إلى السلطان جلال الدين بعد أن انفصلت عن زوجها أزبك.
1
أين تذهب بها خواطرها الساعة؟ ما لها ولهذا الحديث، وإن عليها أن تدبر الأمر قبل أن يدري العدو بمهلك الملك، فيشتد أزره ثم تكون الطامة، وتفقد الزوج والعرش والمعركة جميعا، ومن يدري! فقد تفقد حياتها أو تفقد حريتها، فتعود جارية كما بدأت، يساوم عليها في سوق السبايا!
وأجمعت نيتها على أمر، فبعثت تدعو إليها الأمير فخر الدين. ••• - هذا العدو قد تجاوز باب الدار يا فخر الدين، ولا ملك على العرش، وقد دعوتك لترى رأيك قبل أن يعرف العدو وتقع الكارثة. - الرأي ما ترين يا مولاتي، وإنك لأعلى عينا وأخبر بسياسة هذه الدولة، وقد عاصرت أحداثها بضع عشرة سنة، ولقد فقدت مصر ملكها الشهيد، ولكنها لم تفقد حسن تدبير شجرة الدر. - ماذا تعني يا فخر الدين؟ - لست أعني إلا ما قلت يا مولاتي؛ فإنك لأهل لاحتمال تبعاتها حتى تنجلي هذه الغمة. - ولكنني امرأة يا أمير، فمن أين لي أن أبلغ هذه المنزلة؟ - وهل كانت الصاحبة صفية خاتون بنت الملك العادل ابن أيوب إلا امرأة، وقد حكمت مملكة حلب، ودبرت أمرها فأحسنت التدبير والسياسة.
2 - ولكن صفية خاتون يا أمير، كانت تحكم باسم حفيدها الصبي صلاح الدين. - وباسم ولدك الشهيد الملك المعظم خليل، تجلسين على عرش مصر وتحكمين!
اغرورقت عينا الملكة الشابة وقالت في صوت يختلج: ولكن خليلا يا فخر الدين قد مات، لم يجلس على العرش ولم يوص به لأحد من بعده. - وباسم من كانت تحكم يا مولاتي فاطمة خاتون بنت طغرل السلجوقي على عرش تبريز؟!
3
ومن قبلها جدتها تركان خاتون على عرش خوارزم وخراسان؟! وهل كانت السلطانة رضية ملكة دهلي
4
في الهند إلا امرأة؟! وقد استقلت بالملك بضع سنين.
5 - ولكننا في مصر يا أمير - لا في الهند ولا في خراسان - حيث تجد من أمراء آل أيوب أو من أشياعهم من يقول في غير تعريض: هل كانت شجرة الدر في قصر الملك الصالح إلا جارية، ارتقى بها السعد حتى بلغت منه منزلة الزوج وأم الولد؛ فكيف تطمع في أن تجلس على عرش فرعون؟ وينسون يا أمير ما أفاضت شجرة الدر من برها عليهم، وما بذلت للدولة، وما تضمر من نية الإصلاح والخير. - يا مولاتي! بالله لا تذكري الآباء والأجداد؛ فمن أين لهم أن يعرفوا من كان أبوك؛ فلعله - لو عرفوه - كان أعرق أرومة
6
من أيوب بن شاذى،
7
وأنى لهم أن ينكروا عليك حقك في ولاية العرش وقد جلس عليه كافور منذ قرون،
8
لم يرده عن هذه المنزلة أنه عبد أسود أمي مشقوق الشفة لا يصلح للحمل ولا للمهنة!
أشرق وجه الملكة بابتسامة رضا، وهي تقول: صدقت يا أمير، وإن شجرة الدر بما بذلت للدولة وما تضمر من نية الإصلاح لأدنى منزلة إلى العرش من مثل كافور، ولكن ... - مولاتي! - إنني امرأة ذات حجاب يا فخر الدين، وليس يجمل بي ولا ينبغي لي - بعد الملك الصالح - أن أبرز إلى الرجال أو أشهد مجلس الحكم والمشورة. - إن أمراء دولتك يا مولاتي ليسدلون عليك الستر العالي من الإجلال والمهابة، فلو اتخذت أميرا منهم كبيرا لأمنائك لكفاك وجنبك أن تبرزي إلى الرجال أو تشهدي مجالسهم، وإن أمره في النهاية لمردود إليك، ومستمد منك؛ وإن شئت يا مولاتي كشفت الحجاب بينك وبينه على شرع الله وسنة نبيه.
9
أنغضت المرأة رأسها من حياء، ثم رفعته شامخة الأنف وقالت في كبرياء: فقد اخترتك كبيرا لأمنائي يا فخر الدين إن طاب لك أن تحمل هذه التبعة!
تعاقبت على وجه الأمير ألوان شتى، واصطرعت في رأسه خواطر جمة، وحضرته ذكريات وأماني، وانبهرت أنفاسه فلم يملك جوابا سريعا!
واستطردت الملكة: ولكن علينا قبل ذلك كله يا أمير أن ندبر أمرنا وأمر رؤساء المماليك وأمراء الجند، فإنه ليبدو لي أنهم - وقد مات مولاهم وولي أمرهم - قد يرون من حقهم أن يستشاروا، وقد بلغوا من الجاه والقوة مبلغا ينبغي أن يحسب حسابه.
قال فخر الدين: وماذا يعني هؤلاء المماليك يا مولاتي من ذلك الأمر، وإنما هم جند وحاشية، ليس عليهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا! - بلى، إنهم جند وحاشية، فهل نسيت العدو الذي يتربص بنا يا أمير؟ فإن علينا أن نسترضي هؤلاء الجند قبل أن نقتضيهم حق الولاء والطاعة، لنطمئن إلى صدق بلائهم في قتال ذلك العدو.
ثم أطرقت الملكة هنيهة تفكر، وعادت تقول: وإني لأخشى إلى ذلك أن يدري أولئك الصليبيون بمهلك الملك الصالح، فيهتبلوا الفرصة قبل أن يستتب لنا الأمر، ويتوغلوا في البلاد فلا نستطيع لهم دفعا، والرأي عندي أن نكتم ذلك النبأ، فلا يدري به أحد ولا يعرفه العدو حتى نستطيع تدبير أمرنا معه.
قال الأمير مرتابا: ويمكن ذلك يا مولاتي؟!
قالت: لا عليك من ذلك يا فخر الدين، ودع لي تدبير الأمر كله. •••
واستسر النبأ فلم يدر به إلا بضعة نفر: شجرة الدر وفخر الدين والطبيب هبة الله والخادم سهيل، ثم الأمير حسام الدين بن أبي علي نائب الملك في القاهرة.
وحنط جثمان الملك الصالح وأودع صندوقا من خشب الصندل، ثم حمل في سفينة على النيل إلى القاهرة لا يدري أحد من ملاحيها ماذا تحمل؛ وأرسيت السفينة على ساحل جزيرة الروضة، وحمل الصندوق مغلفا بأسراره إلى القصر.
واستمرت الرسوم في القصر الملكي بالمنصورة جارية على عادتها، لم تتغير منها شيء مما يألفه الناس: ترفع الكتب والأحكام إلى القصر ليرى الملك فيها رأيه، فتخرج وعليها توقيع الملك برأيه وخطه، لا يشك من يراها أن الملك قد قرأها وجرى قلمه عليها بما جرى.
ويعد طعام الملك في موعده، ويمد سماطه ثم يرفع، لا يشك من يرى ذلك أن الملك قد أكل طعامه وشرب شرابه.
وتصدر الأوامر إلى الأمراء والقادرة ورؤساء الجند وعليها طابع الملك وخطه، لا يشك من تصدر إليه أنها أوامر الملك الذي يدين له الجميع بالولاء والطاعة.
ويستأذن عليه من يستأذن من أهله وخاصته وأصحاب الرأي في دولته؛ فيخرج إليه الحاجب معتذرا بأن الملك متعب ولا يستطيع أن يلقى أحدا.
شيء واحد أثار الريبة في نفوس بعض ذوي الإدلال من الخاصة، هو كثرة تردد الأمير فخر الدين على القصر مصبحا وممسيا، كأن له وحده الحظوة من دون الأمراء، وكان منذ قريب متهما يطلب الملك رأسه؛ لأنه لم يحسن الدفاع عن دمياط!
ماذا تغير من الأمر فدنا وحظي حتى ليس لأحد غيره من الأمراء في القصر حظوة ولا مكان؟
وتذكر من تذكر ما كان من مرض الملك وشكواه من علة في الصدر وقرحة في المأبض، ولحظ من لحظ أن الطبيب هبة الله يلزم القصر، ولكنه لا يكاد يخف إلى عمل أو يغادر حجرته.
وهمس هامس في أذن صاحبه: أحسب أن الملك قد مات. - بلى، إني أكاد أستيقن ذلك يقينا. - فما هذه الكتب التي تخرج كل يوم وعليها توقيع الملك بخطه؟ - علم ذلك عند شجرة الدر وخادمها سهيل، وكلاهما كاتب يحسن إمساك القلم. - وتراها تجرؤ؟ - ومم تخاف؟ - ولماذا تخفي؟ - علم ذلك عند الأمير فخر الدين!
الفصل السادس عشر
عرش وزوج
مالت الأفواه على الآذان همسا، ثم ارتفع الهمس فصار حديثا على الشفاه؛ وانتشر الحديث حتى سمعه كل ذي أذن في المدينة، وسارت به الركبان، فلولا التوقير والمهابة لشخص الملك، ولولا أثارة
1
من الريب في بعض النفوس، ولولا ما يشغل الناس من أنباء الحرب؛ لكان ذلك الهمس حديثا على المنابر.
وقال الأمير فارس الدين آق طاي مقدم المماليك لأصحابه: إني لأتوقع أن يكون صحيحا ذلك النبأ، لم يمنع إذاعته إلا حذر العدو أن يزيد قوة!
قال بيبرس: حذر العدو، أو حذر الأمراء؟
قال قلاوون: وحذر الأمراء أيضا؛ أفلست ترى مكانة فخر الدين في القصر؟ فكيف يطمئن مثله إلى نجاح تدبيره لو علم الأمراء؟
قال أيبك: وهل يطمع ذلك الجبان الرعديد، وقد انهزم أمام العدو في أول جولة، أن يكون له شأن دون سائر الأمراء؟
قال آق طاي عابثا: أفتطمع أنت يا أيبك، تصديقا لحديث أبي زهرة الدجال،
2
ولا يطمع مثل الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ؟!
فاحمر وجه أيبك، وقال قلاوون دهشا: أتعني أن فخر الدين يطمع في العرش؟ لقد أبعدت في الظن يا آق طاي، فأين توران شاه ابن مولانا الملك الصالح؟ لا كان والله شيء من ذلك وفي أغمادنا سيوف!
قال آق طاي هادئا: من أجل ذلك يحرص فخر الدين على إخفاء الأمر، وما أبعدت والله في الظن يا قلاوون، وإنما أبعد فخر الدين في الأمل وأسرف في قدر نفسه! •••
وكأنما خشي التركمانية من أمراء المماليك أن يثب إلى العرش أمير من غير جلدتهم، لا يفوقهم فروسية ولا يفضلهم تدبيرا وسياسة؛ فأجمعوا على الدعوة لابن مولاهم، وبعثوا إلى حصن كيفا من يدعو الملك المعظم توران شاه ليتسلم عرش أبيه.
وكان آق طاي على رأس وفد الأمراء إلى المشرق، ومعه رسالة من الأمير حسام الدين نائب الملك في القاهرة.
وعرفت شجرة الدر بما اجتمع عليه رأي التركمانية، فلم تقاوم ولكنها لم تستكن؛ إنها لتعرف توران شاه فتى ضعيف الرأي طياشا، لا يحسن السياسة وتدبير الملك؛ وإنها لتعرف ما كان رأي أبيه فيه حين آثر إبعاده عن العرش حرصا على رأسه، ولكنها إلى ذلك لا تحب أن تعارض ما اجتمع عليه رأي الأمراء؛ لأن بها حاجة إلى رضاهم واستبقاء مودتهم، ولا تريد - إلى ذلك - أن يعرف توران شاه أن أمراء المماليك كانوا أحرص على تمليكه من امرأة أبيه، فلترسل إليه رسولا كما أرسلوا إليه، وليسبق رسولها رسولهم؛ لتكون لها بذلك يد عنده، وليدع له على المنابر كما يدعى لأبيه، ولتؤخذ له البيعة بولاية العهد منذ الآن قبل أن يستيقن الناس موت أبيه؛ فإن ذلك كله خليق بأن يمكن سلطانها ويبعد عنها التهمة، ويهيئ لها الأسباب لتظل قابضة على السلطة تصرف أمور الدولة كيف تشاء، وماذا يعنيها من شخص الملك ما دامت في يديها كل السلطات؛ فهي الملكة وإن لم يكن لها عرش ولا تاج! •••
وقدم على توران شاه رسول الملكة شجرة الدر، وقدم عليه كذلك آق طاي برسالة الأمير حسام الدين.
وتهيأ للرحلة من حصن كيفا إلى القاهرة على الطريق الطويل الذي سلكه أبوه منذ عشر سنين.
الفصل السابع عشر
قلوب موزعة!
وكان موت الملك لا يزال سرا مطويا، لم يذعه القصر ولم يتحدث به نائب الملك إلى أحد من الخاصة أو العامة، ولكنه مع ذلك حديث شائع يتردد على أفواه الناس في شتى أنحاء البلاد، لا يؤمنون به ولا يكادون ينكرونه.
وكانت معركة الصليبيين لم تزل دائرة، قد حشد لها الفرنجة كل ما يملكون من قوة وعتاد، وجمع لها المصريون كل ما يستطيعون من أسباب الدفاع والمقاومة.
وكأنما كان سقوط دمياط في أيدي الصليبيين، وما نال أهلها من القتل والتشريد والمذلة، حافزا لكل ذي يدين أن يتهيأ لحمل سلاحه؛ للذود عن حياته وعرضه وحماه، وكأنما كانت هزيمة فخر الدين في تلك المعركة شرارة ألهبت دمه، فأخذ يعد عدته للثأر ويستجمع قوته للوثبة.
وأنفقت شجرة الدر ليلها ونهارها ترقب حركات العدو في الميدان، وترسم الخطط للإيقاع به وإحباط مسعاه، من غير أن تبدأ هجوما عليه أو تهيئ له فرصة لاستئناف الزحف.
وتألفت فرق من الفدائيين تنقض على معسكر العدو على امتداد الساحل، في هدأة الليل أو في قيلولة النهار، فلا تزال تجندل القتلى، وتحمل الأسرى عشرات ومئات، وتخرب المنشآت العسكرية.
وضاق العدو آخر الأمر بمكانه، فلولا خشيته أن يكون وراء موقف المصريين مكيدة مبيتة لاستدراجه لاستأنف الزحف غير متلبث.
وانتصف الشتاء، وقلت ذخيرة العدو من الأقوات والوقود، وهبت الأعاصير على سفنهم الراسية في النيل، فدمرت منها أكثر من مائتي سفينة، وتتابعت غارات الفدائيين حتى حرمتهم هدوء النهار وراحة الليل، وأوشك الخلاف أن ينشب بين قادة الصليبيين فيتدابروا وتذهب ريحهم.
ثم جاءتهم الأنباء بموت الملك الصالح، فخرجوا في حمية يقصدون المنصورة في عدد وعدة، فلم تمض إلا أيام حتى كانوا تجاه المنصورة؛ يتهيئون لاجتياز البحر الصغير إلى المدينة التي اتخذها المصريون قاعدة للدفاع.
وشرع الفرنجة يقيمون على البحر معبرا يجتاز عليه الجند، فخلاهم المصريون وما أرادوا، حتى إذا فرغوا منه أو كادوا، حفر المصريون خندقا مثل الهلال عند نهايته، فاندفع إليه ماء البحر وجرف قاعدته فانهار المعبر وحمله التيار!
وطفقوا يقيمون على الساحل أبراجا من الخشب الغليظ ليحرسوا مراكزهم ويرقبوا حركات عدوهم، فما كادوا يفرغون منها حتى انصبت عليها القذائف النارية من أفواه المجانيق،
1
فردتها أنقاضا ورمادا على رءوس من فيها من الحرس والجند، وشرعوا يقيمون غيرها، فلم يكن حظها خيرا من حظ سابقتها.
وقل الخشب في معسكر الصليبيين؛ حتى لم يبق عندهم إلا السفن يستلون ألواحها ليتخذوا منها وقودا أو يبنوا بها أبراج الدفاع، ولا تزال «النار الإغريقية» تنصب على معسكرهم من المجانيق التي نصبها المصريون على الساحل المقابل، فتلقي في قلوبهم الرعب وتوقع في صفوفهم الخلل، ولم يكن للفرنجة عهد بهذا السلاح الناري المبيد المهلك، فلا يكادون يرون تلك الكرات النارية الهائلة تتهاوى من السماء على رءوسهم شعلا وجمرات، حتى يأخذهم الفزع فيتفرقوا في كل وجه، قد ركب كل منهم قفا صاحبه!
ولم يزل الفدائيون يهبطون عليهم ساعة بعد ساعة في الليل أو في النهار، يتخطفونهم أحياء أو يتخطفون أرواحهم بالمدى والخناجر.
وألزمتهم المقادير مكانهم ذاك، يحيط بهم الماء من كل جانب، فليس لهم سبيل إلى الأمام ولا إلى الوراء.
ثم دلهم بعض الرواد ذات صباح على مخاضة
2
في البحر إلى المنصورة، فاجتازها الأمير أرتوا - شقيق الملك لويس - على رأس فرقة من الفرسان.
وحطوا أرجلهم على الساحل ودوى النفير.
وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ في الحمام، فخرج معجلا لم يستكمل عدة حربه، ووثب على ظهر فرسه وانطلق على حمية ليلقى طلائع الجيش الغازي، وليمحو عن جبينه وصمة دمغته منذ تخلى عن دمياط!
ودارت المعركة، وأبلى الأمير فخر الدين بلاء حسنا في الدفاع والمقاومة، وكان يتخايل لعينيه بين بريق السيوف وجه شجرة الدر تشجعه وتشد عزمه، وكان منظر الأمير أرتوا في ثيابه الملكية الفاخرة يجد له أماني لا تزال تداعبه حلما في الليل وخيالا في اليقظة، منذ حديثه ذاك إلى شجرة الدر.
وجال فخر الدين بسيفه في العدو ذهابا وجيئة، وإلى يمين وشمال، وصوب طعنة إلى صدر الأمير أرتوا، ولكن طعنة أخرى قد نالته قبل أن يشفي ذات صدره بمصرع عدوه!
وتجندل الأمير فخر الدين على الثرى ونجا غريمه، وغسل عاره الماضي بدمه، وخلا الميدان من بعض فرسانه!
واندفع الأمير أرتوا وفرقته إلى المدينة، ودارت المعركة في الشوارع، بالسيوف حينا وأحيانا بالعصي، وقطع الحجارة تتساقط عليهم من أسطح الدور والنوافذ.
واشترك النساء والأطفال والشيوخ في المعركة وجها لوجه أو من وراء الأبواب وخلف أستار الخدور!
وظلت طليعة الغزاة تتقدم، لم يثنها ما خلفت وراءها من قتلى وجرحى، حتى بلغت ساحة القصر، وكانت فرقة الحرس برياسة الأمير ركن الدين بيبرس مرابطة على الأبواب.
وكانت شجرة الدر ترقب المعركة من النافذة بقلب واجف، وقد وقفت إلى جانبها فتاة موزعة القلب بين مولاتها وبين الطريق، قد زاغت عيناها فلا تكاد تثبت على منظر.
وتقدم الأمير أرتوا نحو باب القصر؛ وهزت شجرة الدر كتف الفتاة إلى جانبها وهي تقول: اهتفي به يا جهان ... أسمعيه صوتك!
وهتفت جهان جهرة وعلى مسمع من مولاتها لأول مرة بالاسم الذي تهتف به كل يوم آلاف المرات في خلواتها همسا وفي حنين وشوق: بيبرس! بيبرس! هذا يومك يا بيبرس!
ودوى هتافها في ساحة القصر وصافح أذني فتاها، فرفع عينيه إلى حيث سمع مصدر الهتاف، ثم اندفع شاهرا سيفه فاعترض سبيل العدو، واندفع وراءه جنده.
وجال بيبرس بسيفه في الميدان؛ يحز الرقاب، ويقد الضلوع، ويشق المرائر، ويطيح الهام، ويجندل الأبطال؛ حتى فتح ثغرة في جيش العدو، فنفذ منها إلى القلب، وصوب رمية إلى صدر أرتوا فجندله!
ثم ترجل عن فرسه والسيف في يده يقطر دما، ووقف يجيل عينيه فيما حوله وفيمن حوله يطلب من يبارزه، ولكن جيش العدو لم يثبت وقد تجندل قائده، فتفرق أباديد في ساحة القصر وقد ركبه الحرس بالسيوف فلم يبق منه بقية!
وارتدت فلول الفرنجة إلى مراكزها على العدوة الأخرى
3
من البحر، وقد خلفت في طرقات المدينة ألفا وخمسمائة قتيل من زهرة المحاربين والفرسان، بينهم الأمير أرتوا شقيق الملك لويس التاسع، ولولا نسيئة القدر
4
للحق الملك لويس بأخيه في تلك المعركة، هو وأخواه الأميران: آنجو وألفونس!
وسرحت البطائق
5
في أجنحة الحمام إلى القاهرة بأخبار النصر، فازينت المدينة واستبشر الناس وقويت روح الشعب. وذاع بين المماليك مقتل الأمير فخر الدين، فأهرع عامتهم إلى داره يقتسمون ماله!
ووقع الخلل في صفوف الصليبيين بعد تلك المعركة الدامية، فالتزموا الدفاع في أماكنهم وبينهم وبين عدوهم البحر، على أن المصريين لم يدعوا لهم لحظة للاستقرار، فلا يزالون يصلونهم نارا ويرمونهم بالمجانيق ويتخطفونهم أحياء ويتصيدونهم بالنبال!
ثم أعدوا عدتهم ليقطعوا عليهم طريق العودة، ويحصروهم حيث كانوا حتى يطلبوا الأمان أو يموتوا ، فصنعوا أسطولا من السفن المحاربة وحملوه في البر قطعا إلى حيث أنزلوه في بحر المحلة، واتجهوا به إلى ما وراء خطوط الصليبيين، فقطعوا عليهم طريق العودة إلى دمياط وطريق التموين جميعا.
وقل الزاد في معسكر العدو وتناثرت على جوانبه جثث القتلى وطفت على سطح الماء، فانتشر الوباء وأصاب الخيل والناس جميعا، فلم يجد الصليبيون مناصا من الرحيل برا إلى دمياط عن طريق فارسكور.
حينئذ تهيأ المصريون للهجوم؛ إذ لا يملك العدو عن نفسه دفعا؛ وكان ما لا بد أن يكون!
وتبعثرت الحملة الصليبية السابعة أشلاء ممزقة ورمما، وبلغ عدد القتلى ثلاثين ألفا.
وسيق من بقي إلى معتقل الأسرى حتى يفتدي نفسه، وأسلم الملك لويس التاسع نفسه فاقتيد أسيرا إلى المنصورة، حيث اعتقل في دار القاضي فخر الدين بن لقمان، وجعل في رجليه قيد من حديد، ووكل بحراسته الخصي صبيح المعظمي، واقتيد معه إلى الأسر أخواه الأميران ألفونس وآنجو، وبضع عشرات من النبلاء والسادة ... •••
وكان الملك المعظم توران شاه في طريقه إلى مصر قد بلغ دمشق، وفي ركابه الأمير فارس الدين آق طاي، وعشرات من مماليكه وخاصته، قد عاد بهم من حصن كيفا ليكونوا له حاشية وبطانة!
الفصل الثامن عشر
غدر وثأر
وبلغ الملك المعظم توران شاه مصر، فنزل بالصالحية،
1
واستقبله الأمير حسام الدين نائب السلطنة مهنئا، فخلع عليه الملك ورده إلى نيابته.
وأذيع يومئذ نعي الملك الصالح نجم الدين أيوب - في منتصف ذي القعدة - بعد مهلكه بثلاثة أشهر، ونودي بتوران شاه سلطانا على البلاد.
ورحل السلطان إلى المنصورة، فنزل بدار أبيه، وخلا بأصحابه يدبر أمره.
وكان توران شاه - كما وصفه أبوه - فتى طياشا
2
سفيها ضعيف الرأي منقادا للشهوات، ليس له همة ولا مروءة، فاستطاع أصحاب السوء أن يغلبوه على إرادته ويستبدوا بالأمر دونه؛ وزينوا له أن يبطش بأصحاب أبيه لينفردوا بالرأي والمشورة ويتخذوه في يدهم ألعوبة، وأوغروا صدره
3
على امرأة أبيه شجرة الدر، وعلى أمراء المماليك.
وغدر توران شاه بآق طاي، وكان قد وعده في الطريق أن يقطعه بعض البلاد .
وعزل حسام الدين عن نيابته، ولولاه ما دعاه داع إلى عرش مصر.
وأقصى قلاوون وأيبك وبيبرس وكل التركمانية من مماليك أبيه، وكانوا دعاته وحزبه.
وأرسل رسله إلى دار الأمير فخر الدين بن الشيخ، فاحتملوا إليه كل ما فيها من مال ومتاع ورقيق، فلم يدعوا فيها شيئا يقوم بمال!
وبعث إلى شجرة الدر يناقشها حساب ما أنفقت وما أبقت من تركة أبيه، ويسألها أن ترد إليه ما تحت يدها من مال وجواهر.
وجاس خلال غرفات القصر يعابث الغلمان المرد
4
والجواري، واقتحم على حظايا أبيه خدورهن، فلم يترك على وجه حجابا، وأسفر عن وجه وقاح.
5
وأهرعت جهان ذات صباح إلى مولاتها وقد قد قميصها:
6
الحماية يا مولاتي! - ماذا بك يا جهان؟ - السلطان يا مولاتي! - مالك وللسلطان؟ - لا يريد أن أكون لبيبرس! - وما شأنه ببيبرس؟ - لا شأن له به يا مولاتي، ولكنه يدعوني إلى ما لا أطيقه ولا يطيقه بيبرس. - أتعنين ... - نعم يا مولاتي، وقد قد قميصي ففرت من بين يديه ألتمس حمايتك. - وإذا أعاد محاولته يا جهان؟ - أقول له إنني لبيبرس، ولن أكون لغيره! - وإن أبى أن يستمع إليك؟ - لن يغلب إباؤه إبائي! - فإذا اغتصبك يا جهان؟ - أذود عن نفسي بيدي حتى أموت، ولا أخون أمانة بيبرس! - حماك الله يا جهان! •••
ووفت جهان بما وعدت، فلم تخن أمانة بيبرس، ذلك أن الملك العابث لم يكف عن محاولته تلك الدنيئة، ولم يعف حين أتيحت له الفرصة، فجد في أثر الفتاة البريئة يريد أن يغتصبها، فأبت عليه الفتاة ما أراد، تصونا ووفاء،
7
ولكن كبرياء الملوكية أبت عليه أن يتراجع، فاصطرع الشرف والكبرياء، وحدثت المأساة المروعة!
وكان بيبرس يدفع بسيفه في أقفية المنهزمين دفاعا عن بلاده ومليكه، حين كانت جهان تدفع بيدها في وجه ذلك المليك مستبسلة لا تريد أن تخون أمانة بيبرس.
وحملت على أعناق الرجال عذراء طاهرة لتوارى الثرى، وحمل النبأ إلى بيبرس غداة عودته مظفرا من أعظم معركة خاضتها مصر ضد الغزاة، وكان هو بطلها المجلى.
وأقسم بيبرس أن يثأر لفتاته ولو تخضب العرش بالدم! •••
وأسرف توران شاه في الشراب واحتجب، ولم يدع أحدا من الأمراء والسادة إلا ناله بمساءة، وانتزع السلطات من أيدي الأكفاء ليضعها في أيدي الأراذل من مماليكه وندمانه،
8
وكأنما بدا له وقد صار إليه العرش أن من حقه أن يفرض على أهل البلاد جميعا أن يستأسروا له
9
طائعين ويملكوه أموالهم ودماءهم وأعراضهم أيضا.
وضاق به الشعب والأمراء والمماليك جميعا، ولم يجلس على العرش إلا بضعة أسابيع.
وتدانت الرءوس، وتهامست الشفاه، وتبادل المؤتمرون الرأي بينهم طويلا ثم انتهوا إلى فكرة.
وكان الملك المعظم في فارسكور قد أمر، فنصب له على شاطئ النيل دهليز سلطاني، وأقيم إلى جانبه برج من خشب، وهيئت له أسباب القصف والمسرة، فمد السماط، وأوقدت الشموع ورصت القناني والكئوس.
ونال منه الشراب فاستل سيفه وأخذ يطيح رءوس الشمع وهو يصيح في نشوة: كذلك أفعل بالمماليك البحرية!
وتسلل إليه بيبرس وفي يده سيف مسلول، فأهوى به عليه وهو يقول في انفعال وغيظ: بل كذلك نفعل نحن بك!
ونال السيف يده ولم يصب منه مقتلا، فخرج صائحا والدم يقطر من يده: ما فعل بي ذلك إلا البحرية،
10
والله لا أبقيت منهم بقية!
فكأنما كانت كلمته تلك إغراء للبحرية بالإجهاز عليه، فثاروا مندفعين إليه، فلجأ إلى البرج الخشبي يحتمي به، فحصروه في البرج وأشعلوا فيه النار!
وعاين الموت، فصاح من أعلى البرج: من يصطنعني
11
فينقذني وله عرشي!
ولكن الريح قد حملت صيحته فلم يستمع إليها أحد، وحصرته النار حتى شوت جلده، فألقى بنفسه إلى النيل وهو يصيح في يأس: ليس بي حاجة إلى ذلك العرش، دعوني أرجع إلى حصن كيفا!
وابتلع اليم كلماته فلم يستمع إليها أحد، كما لم يستمع أحد إلى كلمته تلك.
وألقى آق طاي بنفسه وراءه في اليم فأجهز عليه بسيفه في الماء؛ فمات طعنا وحرقا وغرقا، ثم حملت جثته إلى الجسر حيث ظلت ثلاثة أيام حتى جافت،
12
فلم تدفن إلا بشفاعة رسول الخليفة العباسي،
13
فووريت التراب بلا احتفال!
الفصل التاسع عشر
ضيافة في سجن
كانت الشمس قد غابت، ولكن السماء لم تزل مصطبغة بلون الشفق، حين أرسى زورق صغير على شاطئ المنصورة، فهبطت منه سيدة ملثمة تخب في ثياب فضفاضة قد سترتها من قمة الرأس إلى أخمص القدم، فلا يبدو منها إلا عينان تبصان فيهما قلق وريبة، ثم هبط وراءها من الزورق شابان فارعان
1
في ثياب الفرسان، لهما سمت
2
ومنظر، وفي عيونهما مثل ما في عيني السيدة من الريبة والقلق. وكأنما أرسى الزورق على هذا المكان من ذلك الشاطئ في هذه الساعة من الليل، لموعد قد حدد بدقة، فلم تكد السيدة والشابان يهبطون إلى الأرض، حتى أقبل شابان في ثياب الحرس السلطاني، فمثلا بين يدي السيدة، وانحنيا انحناءة خفيفة للتحية، ثم استدارا إلى الطريق، ومشيا تتبعهما السيدة وزميلاها. لم يتحدث أحد منهم إلى أحد، كأنما هي خطة مرسومة قد عرفها كل واحد من الخمسة تفصيلا فلا حاجة به أن يسأل ولا أن يجيب.
ومشت السيدة يسبقها شابان ويتبعها شابان، كأنما يقيس كل منهم خطوته حتى لا يتأخر عن موضعه من زملائه، على أن السيدة - فيما يبدو - لم تسلك ذلك الطريق من قبل منفردة ولا مصاحبة؛ فقد كانت حركة رأسها في ذلك الطريق تنبئ عن رغبتها في أن تحقق النظر في كل ما تقع عليه عينها من صور الطريق، أو لعل ذلك كان مظهرا من مظاهر القلق النفسي الذي يبدو في نظرة عينيها.
وظلوا يمشون حتى انتهوا إلى بناء قائم في طرف المدينة، قد انبسط بين يديه فناء واسع، وقام على بابه بواب غليظ العنق عريض الصدر، في عينيه جد وصرامة، وفي وسطه منطقة قد تدلى منها خنجر في جرابه لا يبدو منه إلا مقبض عاطل من التمويه والزخرف؛
3
فلم يكد يقترب منه هؤلاء النفر الخمسة حتى خلى مكانه إلى جانب الباب ليفسح لهم الطريق، فلما صاروا بإزاء الباب دفع أحد الشابين مصراعه بيده فانفتح، ثم وقف ووقف زميله، وانفرج بينهما طريق نفذت منه السيدة إلى الباب يتبعها الفارسان الشابان، ثم انصفق وراءهم الباب. •••
وكان لويس التاسع جالسا في جانب من الغرفة على حشية منصوصة على بساط ذي تصاوير، وقد أسند ظهره إلى وسادة على الحائط، حين سمع على الباب طرقا خفيفا، فقال في صوت خافت كالهمس: ادخل.
فدخلت السيدة وخلفت الشابين ينتظران خلف الباب، فلم تكد تتوسط الحجرة حتى رفعت عن وجهها اللثام، ونضت عن جسدها ذلك المعطف السابغ، فلم يكد يراها لويس حتى صاح في لهفة وقلق: مرجريت! ما جاء بك؟
وهب واقفا، ثم اندفع إلى زوجته مشوقا قلقا قد توزعته الخواطر واختلطت به مذاهب الفكر.
قالت مرجريت في هدوء: جئت لأقيم معك في هذا الأسر يا لويس، حتى يأذن الله بالفرج! - ماذا؟ أتبلغ الغلظة بهؤلاء الأوغاد أن يقودوا إلى الأسر «مرجريت دي بروڨانس» لأن زوجها قد كان معهم في حرب مشروعة؟
4 - رويدك يا لويس؛ فما قادني أحد إلى الأسر، وإنما استأسرت لهم طائعة لأونس وحشتك يا حبيبي! - أنت! تستأسرين لهؤلاء الكفار طائعة من أجلي يا مرجريت؟ - من أجلك يا لويس، فما تطيب لي الحرية وأنت في وحشة الأسر لا تجد من يؤنسك ويسري عنك؛ فهل يسوءك يا لويس أن تشاطرك زوجتك آلامك، لتنال معك من نعمة السماء أجر الجهاد والصبر؟! - الآلام والجهاد والصبر؛ ما أعظم ما تصفين يا مرجريت، وما أقل ما نستحق من الأجر؛ لو لم تكن هذه الخاتمة لأملت أن يكون ما تصفين من الأجر، أما وقد كان ما ترين فإنني لم أفعل شيئا إلا أن سفكت دم عشرات الآلاف من أهل الصليب، فعلى رأسي تلك الدماء جميعا يا مرجريت! - تلك إرادة السماء يا لويس! وماذا كنت تملك أن تفعل غير ما فعلت؟ - كنت أملك أن أموت على صهوة جوادي وفي يدي سيفي يقطر من دم هؤلاء الكفار! - ومن يثأر لك ولأولئك الآلاف إن كان ذلك يا لويس؟ - وهل تأملين يا مرجريت أن أعود إلى الحرية فأثأر لأولئك الآلاف؟ - ستعود إلى الحرية يا لويس، وتعتلي صهوة جوادك، وتروي ظمأ سيفك من هؤلاء الكفار، وتثأر لمن قتلوا من الشهداء! - هيهات يا مرجريت أن يطلق هؤلاء المسلمون لويس ملك فرنسا وقد حصل في أيديهم، إنهم ليعلمون ما يحمل لهم في صدره من البغضاء وما يتمنى لهم من أماني السوء. - بل سيطلقون سراحك يا لويس إذا أديت لهم ما يطلبون من مال؛ فهل جاءك أنهم قتلوا مليكهم، ولم يستقر على عرشه بضعة أسابيع؛ لأنه هم أن يسألهم فيم أنفقوا ما خلف أبوه من المال؟ المال يا لويس هو الذي أغراهم بمليكهم فقتلوه شابا في عنفوانه، وهو الذي يغريهم بأن يردوك إلى الحرية لتتهيأ للثأر! - يا ليت يا مرجريت! ولكن من ذا يدفع عني ما قد يطلبون من الفدية ويداي مغلولتان؟ - سيتبارى رعاياك من أبناء فرنسا، والمسيحيون في شتى بقاع الأرض، ليدفعوا فدية القديس لويس، ويردوا إليه حريته. - آه! ما أطيب قلبك يا زوجتي المحبوبة! إن المسيحيين وأبناء فرنسا على السواء يا مرجريت، لا يحبون لويس إلا حين يقودهم إلى المغانم، أما لويس الأسير في دار موحشة من بلاد الكفر، فليس يخطر على بال أحد أن يفتديه بدم أو مال. أم حسبت كل هؤلاء الآلاف الذين يقودهم لويس من مرسيليا إلى قبرص، فدمياط فالمنصورة، كانوا يتبعونه لشيء غير طلب الغنيمة والمجد؟ - أوه! أذلك قولك يا لويس؟
طأطأ الملك الأسير رأسه في انكسار وهو يقول في صوت خافت كأنه بين يدي قسيسه يعترف بما أسلف من خطايا: نعم يا مرجريت، لقد خرجنا باسم الصليب نطلب المجد في الأرض، فتحققت فينا مشيئة الرب وانتهينا إلى الأسر والهوان والمذلة!
قالت الملكة في همس: لله شجرة الدر! كأنما كانت تقرأ من لوح مسطور وراء الغيب ما سمعته أذناي الساعة! - ماذا قلت يا مرجريت؟ - لا شيء يا لويس. - ولكن كلمات هامسة كانت تبرق على شفتيك. - كنت أعيد ما وعته أذناي من حديث شجرة الدر. - شجر الدر؟ - نعم، ملكة مصر والشام ووارثة عرش صلاح الدين. - أوصارت ملكة؟ - نعم، وإنها لأهل لما بلغت؟ - وماذا وعته أذناك من حديثها؟ - ما كنت تقوله لي الساعة يا لويس. - لم أفهم ما تعنين ما مرجريت. - قالت لي : إنما خرجتم باسم الصليب تطلبون المجد والغنيمة، فحق عليكم أن تنتهوا إلى الأسر والهوان والمذلة! - كذا قالت؟ - نعم، وكدت أرد عليها قولها وأترك مجلسها غير معتذرة! - ثم ماذا؟ - ثم كظمت غيظي واحتملت اللطمة من أجلك يا لويس! - من أجلي أنا؟ - نعم، فما سعيت إلى لقائها إلا لأسألها بما جبلت عليه كل أنثى من العطف والرحمة، أن تأذن لي في لقائك والتحدث إليك ساعة، وقد أذنت لي في أن أحضر إليك تحت الليل، في حراسة اثنين من فرسان الداوية، وأصحبتني اثنين من حراسها ليدلانا على الطريق ويدفعا عنا ما قد يعترضنا من شر العامة، فإن شئت يا لويس بقيت إلى جانبك في هذا المعتقل حتى يأذن الله بالفرج.
صمت الملك برهة يفكر، ثم رفع رأسه قائلا: ولكنني لا أشاء يا مرجريت! - لماذا يا حبيبي؟ - لأنك تستطيعين في حريتك أن تسدي إلي يدا، إذا رضي المسلمون أن أفتدي نفسي بمال. - وإذن؛ فأنت ترى أن أعود إلى دمياط لأحتال في جمع ما قد يطلب المسلمون من مال الفدية؟ - نعم، وإلى اللقاء يا مرجريت! - إلى اللقاء يا لويس.
وعادت الملكة أدراجها، وعاد الملك فجلس على حشيته مستندا إلى وسادة على الحائط يفكر، وانصفق الباب وراء الثلاثة، وتقدم الحرسيان السيدة الملثمة على الطريق، وتبعها الفارسان حتى انتهوا إلى شاطئ النيل، وهبطت السيدة إلى الزورق ثم تبعها الشابان، فانساب الزورق على سطح الماء مبحرا إلى الشمال.
الفصل العشرون
الجاشنكير يحكم!
لم ينكر أحد في مصر على شجرة الدر حقها في اعتلاء عرش الأيوبيين بعد مصرع توران شاه، إلا من حيث إنها امرأة، فلولا أن التقاليد في مصر الإسلامية لم تشهد قبل شجرة الدر أنثى على العرش لدان لها الجميع بالولاء والطاعة في إخلاص ومحبة؛ فقد كانت من إحكام التدبير وحسن السياسة وسعة النفس وطيب السمعة، بحيث لا يعرض ذكرها على لسان إلا معرض الإعجاب والتقدير والمهابة.
وكان المماليك الصالحية - وهم يومئذ عدة الدولة وعضدها ومظهر قوتها وعنفوانها - أشد الشعب لها إعجابا وتقديرا ومهابة؛ إذ كانت زوجة أستاذهم وولي نعمتهم الملك الصالح أيوب، هذا إلى أن هؤلاء المماليك لم ينسوا قط أن بينهم وبين شجرة الدر آصرة
1
أوثق وأقوى؛ فقد كانت رقيقا
2
مثلهم قبل أن تبلغ منزلة الإمارة، فما أجدرهم ألا يأنفوا بعد من ماضيهم في الرق إذا كان الرق يؤهلهم إلى الإمارة والملكية؛ بل ما أجدرهم أن يباهوا بمملوكيتهم هذه إذا كانت امرأة من «أسرة المماليك» قد رقيت العرش بجدها وكفايتها، ومن أجل ذلك كان تعصبهم لها وإيثارهم إياها ولزومهم طاعتها والولاء لها.
ولم تنس شجرة الدر حين أجمع الأمراء على توليتها العرش أن نسويتها هي وحدها الحجة التي يمكن أن يحتج بها الذين ينكرون عليها أن تكون ملكة؛ لذلك حرصت من أول يوم على أن تضيف اسمها النسوي إلى اسم آخر لا تنكر عليه التقاليد حق الملكية فصار اسمها منذ وليت العرش: «الملكة أم خليل»؛ فهي ملكة بأنها أم، لا بأنها امرأة؛ وما كثر النساء اللاتي حكمن في التاريخ بأسماء أبنائهن! ولعلها ذكرت وقتئذ ما حدثها به أبو زهرة المنجم منذ بضع عشرة سنة.
3
على أن شجرة الدر وقد نشأت في حجاب الملك الصالح - على تزمته وغيرته - لم تطب نفسها وقد وليت العرش أن تخرج على مألوف عادتها أو تغدر بعهد مولاها، فتبرز إلى الرجال تحدثهم ويحدثونها في شئون الملك والسياسة؛ فآثرت أن تختار من الأمراء من يكفيها ذلك ويرد إليها الأمر ويستمد منها الرأي؛ ولعلها ذكرت وقتئذ ما كان بينها وبين الأمير فخر الدين من حديث قبل أن تخترمه المنية.
4
وقد كان يسعها أن تختار لذلك الأمير حسام الدين بن أبي علي نائب السلطنة في عهد زوجها الملك الصالح، أو الأمير فارس الدين آق طاي مقدم المماليك، أو الأمير ركن الدين بيبرس قاهر الصليبيين، أو الأمير سيف الدين قلاوون ... ولكنها آثرت على كل أولئك الأمير عز الدين أيبك الجاشنكير، واطرحت غيره من أصحاب الجاه والإمارة!
أما حسام الدين فاطرحته لأنها لم تنس له أنه أول من أرسل إلى توران شاه في حصن كيفا ينعى إليه أباه ويدعوه إلى العرش!
وأما آق طاي فلأنه كان شريك حسام الدين في ذلك التدبير!
وأما بيبرس فلأنه أول من شرع السيف في وجه توران شاه فقد ذراعه؛ فإنها لتخشى إن أدنته بعد ذلك أن يقال أنه بتدبيرها قتل مليكه ثم نال الثمن.
وأما قلاوون فإنه صاحب بيبرس وآق طاي.
ثم إن أيبك - فيما ترى - رجل هادئ الطبع يؤثر السلامة، فليست تخشى تسلطه واستئثاره، وإنها لتحب أن تجتمع في يديها كل السلطات. •••
وكان من تقاليد بني أيوب - منذ ولي صلاح الدين عرش مصر وأبطل فيه مذهب الشيعة
5 - أن يلتمس الجالس على عرش مصر اعتراف الخليفة العباسي في بغداد بولايته، وكأنما خشيت شجرة الدر ألا يعترف بها الخليفة، فأضافت إلى اسمها صفة أخرى، زلفى إلى الخليفة المستعصم؛
6
فهي «شجرة الدر أم خليل المستعصمية».
ونقش اسم شجرة الدر على السكة،
7
وصدرت باسمها الأحكام، ودعي لها على المنابر، فكان الخطباء يقولون في الدعاء كل جمعة: «اللهم وأدم سلطان الستر الرفيع، والحجاب المنيع ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية.»
وخلعت على الأمراء فأفاضت، وتصدقت على الفقراء فأغدقت، ونشرت راية السلام فأمن الناس.
وندب الأمير حسام الدين والقاضي بدر الدين السنجاري ليفاوضا الفرنجة على الجلاء عن الأرض والساحل، ودفع فدية الأسارى.
وأذعن الصليبيون مكرهين لما أملي عليهم من شروط الصلح، واجتهدت مرجريت دي بروڨانس في تحصيل المال لافتداء زوجها وأخويه، فدفعوا ثمنا لحريتهم أربعمائة ألف دينار.
وأبحرت السفن بمن بقي من الصليبيين في الرابع من صفر سنة 648، وعادت الراية الإسلامية ترفرف على دمياط.
ومثل الأمير جمال الدين بن مطروح
8
بين يدي شجرة الدر وقد أسبل من دونها الستر، ينشد من شعره في جمع من الأمراء:
قل للفرنسيس إذا جئته
مقال صدق من قئول نصيح
آجرك الله على ما جرى
من قتل عباد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغي ملكها
تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم
9
ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم
بحسن تدبيرك بطن الضريح
سبعون ألفا لا يرى منهم
إلا قتيل أو أسير جريح
ألهمك الله إلى مثلها
لعل عيسى منكم يستريح!
إن يكن «البابا» بذا راضيا
فرب غش قد أتى من نصيح
فاتخذوه كاهنا إنه
أنصح من شق لكم أو سطيح
10
وقل لهم إن أزمعوا عودة
لأخذ ثأر أو لفعل قبيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي صبيح!
11
الفصل الحادي والعشرون
دولة تركمانية!
قال بيبرس: لقد كان كل ذلك والله بسعد شجرة الدر وإحكام تدبيرها للملك؛ فبرأيها كان إخفاء موت مولانا الملك الصالح حتى لا تنشب الفتنة ويطمع العدو، وبحسن توجيهها كانت هزيمة الفرنجة في وقعة المنصورة، ومعركة الإبادة في فارسكور،
1
وانقياد الملك لويس للأسر، وجلاء الصليبيين عن دمياط وأرض الساحل؛ ثم هذه الفدية التي أرهقت العدو وعمرت خزانة مصر!
قال آق طاي: إنك لتجحد قدر نفسك يا بيبرس، فلولا بلاؤك في معركة المنصورة، وركوبك أقفية المنهزمين في فارسكور، ما كان شيء من ذلك!
فاختلجت شفتا بيبرس وانتفخ منخراه زهوا، وقال وهو يصطنع التواضع: وما أنا وأنت وهؤلاء التركمانية جميعا؟ هل نحن إلا جند الدولة وعدتها إن ألمت بها كارثة؟ فقد كان كل ذلك حق الدولة علينا.
قال آق طاي محنقا: ومع ذلك فقد أغفلت حقي وحقك وآثرت علينا أيبك الجاشنكير!
قال بيبرس غير مكترث: أفذلك تعني يا آق طاي؟ إن الأمر لأهون مما تقدر؛ وإن أيبك لرجل من جلدتنا على كل حال؛ وإنه لأسلم عاقبة من مثل الأمير فخر الدين!
فاستدرك قلاوون عابثا: ولكن نبوءة أبي زهرة المنجم
2
ما تزال تتخايل له أمنية بالنهار وحلما بالليل؛ فلعله وقد صار أدنى إلى العرش أن تخيل له أوهامه أن يستبد.
فضحك بيبرس وقال: وماذا يكيدك من ذلك يا قلاوون وقد تنبأ أبو زهرة لي ولك بمثل ما تنبأ به لأيبك، فدعه يرود لنا الطريق.
3
عض آق طاي على شفتيه ضجرا وقال: لا تزالون في هذا العبث أيها الأمراء والأمر جد، وإني لأرى ما لا ترون!
قال حسام الدين بن أبي علي في هدوء : أراكم تستبقون الحوادث أيها الإخوان وتقدرون ما لا يمكن أن يكون، فما أظن الخليفة المستعصم يقر تولية امرأة على عرش مصر، وإن هزمت الصليبيين وطهرت منهم بلاد الإسلام؛ وهذا ابن يغمور نائب دمشق قد خرج على الطاعة وأبى أن يكون تحت سلطان امرأة، وانضم إلى الثورة أمراء بني أيوب في الشام، وكأني بيوم قريب يزحف فيه من المشرق جيش لجب بقيادة الناصر صلاح الدين بن العزيز صاحب حلب،
4
ليستخلص عرش مصر من شجرة الدر.
قال قلاوون: بل قل: ليستخلصه من أيدي التركمانية بزعمه!
قال آق طاي في حماسة: والله لا كان ذلك أبدا وفينا حياة! لقد ضيع بنو أيوب عرشهم حين تفرقوا في الأرض يطلبون المنافع الصغيرة العاجلة، وتركوا هذه البلاد تطؤها أقدام الغزاة فلم ينقذها إلا التركمانية!
قال بيبرس معترضا: ولكنك كنت تنكر منذ قريب أن يكون أيبك كبير أمناء الملكة، وتأبى عليه هذه المكانة! - نعم، ولكن الدولة تركمانية يا بيبرس منذ استخلصها مماليك الترك من أيدي الصليبيين، فلا يمكن أن يعود إليها سلطان الكرد،
5
وسأدفع عنها بسيفي، ولو كان الملك الجالس على العرش هو أيبك الجاشنكير!
الفصل الثاني والعشرون
البحث عن رجل!
- مولاتي. - ما وراءك يا عز الدين؟ - قد جاء رسول الخليفة أمس بكتاب. - ماذا فيه يا عز الدين؟ - إنني لم أفض غلافه يا مولاتي، ولكنه هو الذي فض الغلاف وأقرأنيه. - وي! ذلك شيء لم تجر به عادة الملوك يا أيبك! - نعم يا مولاتي، وإنما فعلها - بأمر مولاه - الشيخ نجم الدين البادرائي رسول المستعصم. - لأمر ما يغفل المستعصم ما بين بغداد والقاهرة من تقاليد السياسة؛ فماذا في تلك الرسالة يا أيبك؟ - ها هي ذي الرسالة يا مولاتي:
إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجلا ... أما سمعتم في الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة؟ ...
طوت شجرة الدر الرسالة ودفعتها إلى أيبك وهي تقول: ومن صاحب الرأي في قصر الخلافة ببغداد اليوم يا عز الدين؟ - المستعصم بن المستنصر يا مولاتي. - آلمستعصم، أم جواريه وخصيانه ووزيره الرافضي يا أيبك؟
1 - أنت أعلى عينا يا مولاتي. - وامرأة على العرش كشجرة الدر - يحكم باسمها ويصون حجابها أمير مثل عز الدين - خير حكما، أم صبي وجارية ووزير رافضي لا حكم له؟ - أنت أحكم سياسة يا مولاتي وأسد رأيا، وإن للمستعصم علينا ولاء التطوع لا ولاء التابع، فإن شئت يا مولاتي رددت رسوله بلا جواب! - صبرك يا أيبك، فما يطيب لي أن أشق عصا الطاعة على الخليفة وأجاهر بالعصيان له، فهل تراه يعني حقيقة الحكم أو مظهره حين يشترط الرجولة؟ فإني لأستطيع أن أترضاه فأجعل له على العرش واحدا من أمرائي ويبقى في يدي السلطان والصولجان.
غص أيبك بريقه ولم يجد جوابا، واستطردت شجرة الدر في صوت خافت كأنما تتحدث إلى نفسها: ولكن امرأة الملك الصالح لا يجمل بها أن يكون لها شريك في الحكم تخلو إليه للرأي والمشورة، إلا بعين الله وعلى دين ومروءة.
2
ورفع أيبك إليها عينيه، فكأن لم يرها من قبل ولم يستمع إلى نبر حديثها؛ ورأى بإزائه امرأة في الشباب ذات جمال وفتنة، ولم تكن من قبل إلا ملكة ذات مهابة.
واختلج ووجد في صوته حبسة وفي أطرافه خدرا، فلم يستطع إلا أن يهتف: «مولاتي ...» ثم أمسك.
قالت شجرة الدر: قد فهمت ما تعنيه يا عز الدين، ولكن لك امرأة وولدا!
وانحلت عقدة لسانه، فقال في طلاقة: هل هي وولدها يا مولاتي إلا جارية من جواريك ذات ولد؟
قالت باسمة: أشريك في الحكم وشريكة في الزوج؟
فاندفع متحمسا: بل لك الحكم والزوج والولاء كله يا سيدتي! - وتطلقها يا أيبك؟ - وأطلقها فلا تمت إلي بسبب ولا وشيجة!
3 - وتهجر دارها فلا تراها ولا تراك ولا تتحدث إلى ولدها حديثا ولا يتحدث إليك؟ - وأقطعها قطيعة بائنة فليس بيني وبينها آصرة، لأخلص لشجرة الدر فليس لغيرها في القلب مكان ولا في النفس ذكرى!
ولمعت عينا المرأة واختلج بدنها، فقالت وقد مدت إليه يدا: فليهنك الملك يا أيبك!
قال وقد شد على يدها بأصابع متشنجة : وليهنني رضاك يا مولاتي!
وغادر مجلسها وقد اتسع صدره، وشمخ أنفه، وانطبق فكاه ولمعت في عينيه نظرة ملك! •••
ونودي بالملك المعز، عز الدين أيبك التركماني، ملكا على البلاد، في آخر ربيع الآخر سنة 648، ونزلت له شجرة الدر عن العرش الذي وليته مستقلة به منذ مصرع توران شاه.
وحمل نجم الدين البادرائي رسول الخليفة جواب الملك المعز إلى المستعصم في بغداد، يعبر له فيه عن ولائه وطاعته، ويسأله أن يقره على العرش ويبعث إليه بالخلعة ومرسوم التولية.
ومضت أيام، ثم دعي الفقهاء والقضاة وأمراء المماليك ورؤساء الجند إلى قصر القلعة، ليشهدوا عقد الملك على شجرة الدر.
وكانت ملكة أرملة، فعادت ملكة وزوجا، وإنها لتأمل إلى ذلك أن تصير أما تهيئ ولدها للعرش بعد أبيه المعز وتتعوض به من ولدها الذي مات منذ سنين!
الفصل الثالث والعشرون
لمن الملك؟
وبدا كأنما استقرت الأمور في مصر وثبت عرشها للتركمانية، لولا انتقاض أمراء الأيوبيين في الشام، واستيلاء الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب على دمشق،
1
وورود الأنباء بحركته إلى مصر.
وكأنما خيل إلى المماليك في مصر أنهم يستطيعون أن يسترضوا الأيوبيين في مصر والشام، لو أنهم جعلوا على العرش أميرا من بني أيوب إلى جانب أيبك.
وكان منهم إلى ذلك جماعة ينفسون على أيبك ما بلغ من المكانة
2
ويأنفون من رياسته، فكأنما بدا لهم أن يجعلوا له شريكا في الملك؛ لينتقصوا مظهره الملوكي ويكسروا شموخه وكبرياءه.
فأقاموا صبيا يتيما من بيت المالك الكامل، باسم الملك الأشرف موسى،
3
وقرنوا اسمه إلى اسم الملك المعز، فكانت المراسيم تصدر وعليها اسم الملكين، وكان خطباء المساجد يدعون على المنابر للمعز والأشرف معا، على حين لم يكن لواحد منهما على الحقيقة أمر ولا نهي؛ إذ كانت السلطات كلها في يد شخص ثالث يحسن التدبير والسياسة؛ هو شجرة الدر.
ولم يتحقق للمماليك ما أرادوا بتولية الملك الأشرف؛ فلا الأيوبيون ثابوا إلى الهدوء والطاعة، ولا الملك المعز خفف من شموخه؛ فإن الموكب الملكي ليشق شوارع القاهرة لا يكاد الناس يرون إلا الملك المعز قد حجب بجسامته وامتداد فرعه الملك الصبي.
وقوي أصحاب الناصر في الشام وتهيئوا للزحف على مصر، فلم يبق إلا أن تنشب المعركة بين الأيوبيين والمماليك البحرية، فإما عادت الدولة أيوبية كما كانت، وإما غلب التركمان فصار عرش البلاد للمماليك يتعاورونه
4
مملوكا بعد مملوك!
ولم يكن العرب المصريون بمعزل عن هذه الحوادث؛ فقد كانوا يؤمنون بأنهم أحق بعرش هذه البلاد من الكرد والتركمانية جميعا، وقد كان لهم الحكم والسلطان في الدولة منذ انتشر الإسلام في ربوعها حتى انتزعها صلاح الدين من أيدي الفاطمية،
5
فما أجدر أن يعود إليهم الحكم، وقد تقلص ظل الكرد عن البلاد وانحسر
6
الخطر الصليبي.
وتهيأ الأمير ثعلب شيخ أعراب ديروط لاهتبال الفرصة،
7
يؤيده عشرات الآلاف من العرب في الجنوب والشمال.
وأشرفت الدولة على الانحلال وتوزعتها المطامع.
وكانت شجرة الدر ترقب الحوادث في حذر ويقظة، وتعد لكل أمر عدته. •••
وخرج جيش المصريين لقتال الناصر الأيوبي، وعلى رأسه الملك المعز، والأمير فارس الدين آق طاي التركماني، وسائر أمراء المماليك؛ ودارت المعركة في غزة من أرض فلسطين، ولكن المماليك لم يستطيعوا وقف الزحف، وتقدمت جيوش الناصر إلى بلبيس من أرض مصر؛ فدارت ثمة معركة أخرى، كادت تدور الدائرة فيها على التركمانية، لولا كثرة من كان في جيش الناصر من مماليك الترك.
واستطاع المماليك المصريون أن يردوا جيش الناصر على أعقابه، ويذيقوه طعم الخذلان؛ وإن كانت بضع فرق منه قد استطاعت أن تتسرب إلى القاهرة.
وعاد جيش المصريين إلى القاهرة مظفرا ومعه الأسرى من جيش الناصر، سناجقهم
8
منكسة، وطبولهم مشققة، وقد سبقتهم إلى القاهرة خيولهم وأثقالهم وأموالهم غنيمة للمصريين.
وأحصي من تسرب إلى القاهرة من جند الناصر، فإذا هم بضعة آلاف، فألزمهم المعز أن يعودوا من حيث أتوا، راجلين أو على ظهور الحمير من مصر إلى الشام، لا يؤذن لأحد منهم أن يركب فرسا.
وشهد المصريون موكبا هائلا لم يروا مثله قط، مشهد يثير السخرية والإشفاق جميعا؛ بضعة آلاف حمار، عليها المرتدون من جيش الناصر ، قد نكسوا رءوسهم حتى قاربت أن تمس آذان الحمير؛ فلعل حمارا منها أن ينهق فينهق لنهيقه بضعة آلاف حمار يتردد صداها بين مصر والشام!
وشمخ آق طاي بأنفه؛ إذ كان بجده واستبساله قد أدرك المعز هذا النصر، فوقف بين يدي الملكين يوجه حديثه إلى الملك الصبي دون صاحبه: «كل ما حصل بسعادتك يا مولاي، وما سعينا إلا في تقرير ملكك!»
وفهم أيبك ما أراده آق طاي، فتغابى وطوى صدره على ما فيه من الغيظ. •••
ثم دارت الدائرة على العرب كما دارت على الأيوبيين، فأحصي من قتلاهم بضعة آلاف، ونصبت المشانق لأمرائهم على امتداد الطريق بين بلبيس والقاهرة، واعتقل الأمير ثعلب، فألقي في جب من جباب القلعة، وخمدت جمرة العرب. •••
وتوسط نجم الدين البادرائي رسول الخليفة في الصلح بين الملك المعز والناصر صلاح الدين صاحب حلب، فتعاهدا على أن يكون للمعز مصر إلى حدود الأردن، مضافا إلى ذلك غزة والقدس ونابلس والساحل كله، وللناصر ما وراء ذلك من بلاد الشام.
وصفا الجو للملك المعز وأمن ظهره، فخلع الأشرف موسى ونفاه إلى بلاد الأشكري
9
واستأثر بالملك وحده؛ ولكن شجرة الدر ظلت قابضة على السلطان فليس لأحد معها رأي ولا إرادة.
وخلصت الدولة للمماليك.
ولكن مظاهر البذخ والأبهة التي كان يخرج بها أيبك على الناس، قد أثارت نفوس الأمراء جميعا؛ كأنما لم يحسوا بانتقال زميلهم من المملوكية إلى العرش، إلا حين تفانى الأعداء والمتنافسون وخلصت الدولة للتركمانية؛ فأجد ذلك لكل أمير من أمراء المماليك أملا في اعتلاء العرش يلتمس لتحقيقه الأسباب. ••• - أرأيت أيبك في موكبه يا بيبرس، شامخ الأنف مطبق الفكين ثابت النظرة لا يكاد يرد التحية؛ كأن مصر ضيعته وكل من فيها عبيده! - ذلك حق الملوكية يا آق طاي، أم تريده وقد صار إليه عرش مصر أن يمشي في الأسواق راجلا يجيب كل من يسأله، ويقف لكل من يهتف باسمه؟ - أتمزح يا بيبرس؟ فبأي حق كانت له الملوكية دون سائر المماليك الصالحية، وما هو كبيرهم ولا أثبتهم قدما في الجهاد، ولا أوسعهم حيلة ولا أقدمهم مملوكية؟! - بحق شجرة الدر. - ها ها! وما لشجرة الدر وهذا كله؟ أصار إليها هذا العرش وراثة كبعض ما يرث الناس عن أهليهم من المتاع فتهبه لمن تشاء، أم أوليناها نحن إياه يا بيبرس؟ - ولكنها زوجة مولانا الملك الصالح أيوب. - بلى، قد كان ذلك يوما، أما اليوم فإنها زوجة الجاشنكير؛ فإن كان أيبك قد خيلت له أوهامه أنه بهذا وحده قد صار له عرش مصر من دوننا فقد ساء رأيا، وسيرى عاقبة أمره! - ماذا تعني يا آق طاي؟ - لست أعني شيئا يا بيبرس؛ وإنما أنا أمير المماليك - سادة هذه الدولة - لا يعرفون لهم أميرا غيري؛ فإن كان لا بد مع ذلك لإدراك السيادة من أن أصل حبلي بنسب ملوكي، فما أيسر أن يكون لي زوجة أعرق أرومة وأوثق صلة بالملوكية من زوجة أيبك الجاشنكير! - من تعني؟ - سأتزوج أميرة من بنات أيوب، وأتخذ لها بيتا في القلعة مثل شجرة الدر! - وترى ذلك حقيقا بأن يبلغ بك العرش؟ - سترى! - لست أريد أن أرى!
الفصل الرابع والعشرون
سباق إلى الموت
واصطنع آق طاي لنفسه بطانة وحاشية كحاشية الملوك، وجعل على بابه حرسا وطبلا وموسيقى، واتخذ له شعارا وراية، وأنشأ جيشا من المماليك يأتمر بأمره ويمشي بين يديه في مواكبه، وصار له مظهر وجاه وأمر ونهي وسلطان، فإنه ليجير ولا يجار عليه
1
ولا تنفذ الشفاعات إلا من بابه، ولا يمضي أمر لا يقره.
وضاق أيبك ذرعا بمنافسه، وحاول أن يزيحه من طريقه ليخلص له مظهر الملوكية في مصر، فأقطعه الإسكندرية؛ ولكن ذلك لم يجد عليه شيئا.
واسترسل آق طاي في غلوائه فأرسل إلى ابنة الملك المظفر الأيوبي صاحب حماة
2
يخطبها لنفسه؛ فأجيب إلى ما طلب، وحملت العروس في تجمل زائد إلى دمشق، في طريقها إلى القاهرة.
وسعى آق طاي إلى أيبك يسأله أن يأذن له في أن يتخذ لعروسه بيتا في القلعة؛ لأنها من بنات الملوك!
وصرت أسنان أيبك غيظا وحنقا، ولكنه أمسك عن الجواب حتى يرجع إلى شجرة الدر يسألها الرأي .
في ذلك الحادث دون غيره رأت شجرة الدر ما ينال من كبريائها ويمس غيرتها، فليكن موقف آق طاي من أيبك حيث يشاء، ولينافسه على ما في يده من أسباب الملك إن كان في يده شيء من أسباب الملك، أما أن يتزوج امرأة من بنات الملوك ويسكنها بيتا في القلعة - مثل شجرة الدر - فتلك إهانة لا يغسلها إلا الدم!
وأشارت على زوجها بالرأي. •••
ودعا أيبك آق طاي إلى القلعة ليبادله حديثا في بعض الشئون، فأجاب آق طاي دعوته غير مرتاب، وصعد إلى القلعة ودخل القصر؛ فلما صار في قاعة الأعمدة، حيث تعودت الملكة أن تتخذ مجلسها، وثب عليه بعض المماليك فاحتزوا رأسه.
ومات قبل أن يتزوج!
3
وبلغ النبأ أصحابه فصعد منهم إلى القلعة سبعمائة على حمية، بينهم بيبرس وقلاوون؛ لا يكاد أحد منهم يصدق أن أيبك قد جرؤ على آق طاي فاغتاله، فما هي إلا أن بلغوا أسوار القلعة حتى ألقي إليهم رأس أميرهم، فتفرقوا محزونين قد بلغ منهم اليأس كل مبلغ.
ولم يطب المقام بعد ذلك في مصر لبيبرس وأصحابه من أمراء المماليك، فنزحوا عنها مهاجرين،
4
وأحرقوا في طريقهم باب القاهرة الشرقي.
وانزاح عن كاهل أيبك عبء كان يئوده،
5
فظن أن قد ملك واستقل ودانت له البلاد!
على أن شجرة الدر كانت لم تزل قابضة على الصولجان!
الفصل الخامس والعشرون
أشجان الملك!
- إني لأحمل والله يا قطز
1
من الهم لذلك ما لا يكاد يحتمل، والناس يظنون بي السعادة! - وماذا يمنع يا مولاي أن تجتمع لك أسباب السعادة، وأنت ولي الأمر في هذه البلاد، لا يملك أحد إلا طاعتك فيما تأمر وتنهى؟ - أكذلك تظن يا قطز؟ فكيف لو علمت أنني لا أكاد أنعم برؤية ولدي «علي» إلا مستخفيا وعلى حذر ورقبة، وقد تقطعت بيني وبين أمه الأواصر فليست مني ولست منها؟! - كيف يا مولاي وإنه لولدك، وإن أمه لزوجك، وقد فرض عليك دينك أن تقسم بالسوية بين زوجتيك، وفرضت عليك المروءة أن تحتضن ولدك البكر لينشأ على عينك! - وشجرة الدر يا قطز؟ - ما لشجرة الدر ولهذا؟ أتحرم عليك أن ترى زوجتك وولدك؟ فما هي إذن ذات دين ولا لها عليك حق الزوجة! - لا حق الزوجة ولا حق الرعية يا قطز، إن شجرة الدر هي الملكة الحاكمة؛ وما زاد الملك المعز باعتلائه العرش شيئا على ما كان أيبك الجاشنكير، على ذلك اتفقنا يوم خلعت نفسها وألبستني التاج والحلة طاعة لأمر الخليفة، وعلى ذلك عاهدتها ولا زلت وفيا بما عاهدت! - فليكن مكانها منك حيث شئت وشاءت مقتضيات الحكم والسياسة؛ ولكن ما شأنها بزوجتك وولدك؟ وكيف تحول بينك وبينهما؟ - على ذلك اتفقنا أيضا يوم رضيتني زوجا ملكا! - على المعصية؟ - لا يا قطز، فقد اتفقنا يومئذ على أن أطلق أم ولدي لأخلص لها، ولكني لم أقو على ذلك، وتحسبني شجرة الدر قد وفيت، فليست أم ولدي فيما تظن شجرة الدر إلا مطلقة لا حق لها. - وولدك علي؟ - كنت آمل أن يكون لي ولد من شجرة الدر أتعوض به من علي وأوليه عهدي، ولكنها لم تحبل ولم تلد! - وحرمت سلطة الملك وسلطة الزوج وسلطة الأب، وحرمت زوجتك وولدك، ووأدت بنيك في صلبك حين ارتبطت إلى هذه المرأة العقيم لا تخلص إلى غيرها من النساء والجواري، وكنت حريا أن تتكثر من الأبناء ليكون لك عزوة تسند عرشك وأنت على رأس دولة يرجى أن تتسلسل في الأبناء والحفدة على امتداد التاريخ! - ولكنني أكره أن أنكث بما عاهدتها يا قطز. - وعلام عاهدتها؟ - أن أقطع ما بيني وبين أم علي. - فلك مناص يا مولاي من هذا العهد بزواج جديد! - زواج جديد؟ - نعم، ولعلك أن تجد في الصهر الجديد جاها يدعم عرشك ويشد عزمك؛ ولعل زوجة جديدة أن تنجب لك وتكثر ولدك، ولعل شجرة الدر حين ترى لها ضرة أن تتنبه الأنثى فيها فتعطيك مقادتها لتكسب ودك؛ فتعود لك بذلك سلطة الملك وسلطة الزوج وسلطة الأب وتسعد!
أطرق الملك المعز برهة مفكرا، وأمسك غلامه قطز وقد تعلقت عيناه بسيده، لا يعرف أين ينتهي به الفكر فيما عرض عليه من مشورة.
ثم رفع أيبك رأسه إلى غلامه قائلا: ومن تراه أهلا لأن أصهر إليه يا قطز من ملوك المشرق؟ - إن شئت يا مولاي فاخطب إلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل
2
ابنته لؤلؤة، وإنه لذو جاه وكرامة، وحبله موصول بدار الخلافة في بغداد، فما أحراه إن أصهرت إليه أن يحمل الخليفة على تشريفك بالخلعة واللواء، ويقرك على عرش مصر،
3
وإن شئت يا مولاي فاخطب إلى الملك المنصور بن المظفر الأيوبي صاحب حماة ابنته؛
4
ليتصل سببك ببني أيوب، فلا ينتقض عليك منهم منتقض.
قال الملك المعز: كلتيهما يا قطز! وقد رخص الله للمسلم في أربع حرائر!
وبعث الملك المعز منذ الغد رسولين إلى حماة والموصل. •••
قال الشيخ بدر الدين السنجاري قاضي قضاة مصر:
5
احذر يا مولاي أن تمضي فيما اعتزمت، وإني لأرجو أن تقبل مشورتي؛ برا بنفسك وبالدولة وبشجرة الدر! - وما لك أنت ولهذا يا بدر الدين؟ أفذلك من علم الحلال والحرام تريد أن تبصرني به، أم هو قضاء قضيته وما وليتك قضاء مصر لتدخل بين الأزواج وزوجاتهم وتقتحم على سرائر الملوك! - حق المسلم على المسلم يا مولاي أن ينصح له ويشير عليه، وقد رأيتك واقفا على شفير هار
6
فأردت أن أبصرك بما تحت قدميك من أسباب الهلكة؛ وقد علمت ما كان لي من الرأي في دولة الملك الصالح، وقد كان - على علمه ودينه - أوسع بي ذرعا. - وي! وتراني أيضا لا علم لي ولا دين ولا سعة ذرع! - معذرة يا مولاي، فما قصدت إلى هذا؛ ولكني أقول إنني عاصرت أحداث هذه الدولة وتمرست بسياستها منذ بعيد، فما أجدر أن تستمع إلى رأيي؛ وقد رأيتك تخطب إلى صاحبي الموصل وحماة ابنتيهما؛ أما أولهما فإن له بعرش مصر سببا منذ كان بينه وبين الملك الصالح ما كان،
7
وإن بينه وبين المغول أسبابا وقد غلبوا على المشرق كله، ويوشكون أن يدخلوا بغداد لينسابوا منها إلى مصر والشام؛
8
فكيف تصنع إذا كان صهرك بدر الدين لهم حليفا؟ وأما الآخر فأمير من أمراء بني أيوب، لا يزال يرى ويرى له من حوله أنه أحق منك بعرش مصر؛ فكيف تصنع إذا استيقظت الفتنة ونشبت حرب بين مصر والأيوبيين، وفي دارك بنت أمير منهم؟ ثم إنك يا مولاي أب وزوج وقد أشرفت على الستين، وليس من البر بنفسك أن تعرس بفتاتين دون العشرين. وإن لشجرة الدر عليك - إلى ذلك - حقا لا يجمل معه أن تضارها باثنتين وقد وطأت لك السبيل إلى العرش والسيادة؛ فهذا ما أردت أن أقوله لأبرئ ذمتي وأؤدي حق النصيحة.
قال الملك المعز محنقا: ثم ماذا يا شيخ؟ - ثم يكون ما تراه يا مولاي. - فقد رأيت عزلك من قضاء مصر يا بدر الدين، فليس لك منذ اليوم رأي ولا نصيحة!
الفصل السادس والعشرون
أوهام أنثى!
وشاع النبأ حتى تحدث به المماليك والجواري، ثم زاد شيوعا حتى عرفته شجرة الدر؛ فمس منها كبرياء الملكة وغيرة الأنثى في وقت معا، وغلا دمها، وثارت ثورة ملك أوشك أن يتحطم تاجه ويثل عرشه، وثورة امرأة أوشكت أن تنتزع من رجلها.
وكأنما خيل إليها غدها
1
وقد خلا الملك المعز إلى بنت بدر الدين صاحب الموصل، فتحدثت إليه بما تحدثت عن شجرة الدر في سخرية وشماتة، فطاب للملك المعز أن يستمع إلى حديثها في سخرية وشماتة كذلك.
وكأنما أبصرت بنت المنصور صاحب حماة جالسة على عرش بني أيوب، تجيل عينيها فيما حولها من أسباب الترف والنعمة وهي تقول: الحمد لله الذي رد علي ملك أجدادي وأهلي من بني أيوب، وأدال لنا من تلك الجارية! فيؤمن الملك المعز على قولها ويستطرد مجاملا: وهل كانت شجرة الدر في بني أيوب إلا جارية؟!
وامتد بها الوهم فكأنما أبصرت بنين وبنات من نسل المعز يمرحون في جنبات العرش ولا ولد لها، وكأنما جاهدت ما جاهدت طول حياتها لاستخلاص عرش بني أيوب لبنت بدر الدين أو بنت صاحب حماة وما تسلسل من بنيهما وبناتهما، وينتهي مجدها ليبدأ على أنقاضه مجد دولة بني أيبك الجاشنكير!
وتخيلت نفسها في وحشة الليل قد أغلق من دونها الباب ومضى أيبك يتنقل بين مقاصير نسائه يذوق من كل طعم ولا يشبع، وهي وحدها تتجرع غصص الآلام! •••
وكما يطارد الأطفال معتوها قد فقد نصف عقله فلا يزالون به حتى يرتد مجنونا قد فقد ما بقي من عقله، كذلك ظلت أوهامها هذه تطاردها!
وفقدت الأنثى الغيور نصف عقلها أسفا على المجد الذي توشك أن تخلعه أو يوشك أن يخلعها؛ وفقدت ما بقي حزنا على الرجل!
ثم فاءت إلى نفسها قليلا وراحت تدبر خطة.
وخيل إليها أنها تستطيع أن تظل ملكة وزوجا، وأن يظل لها عرش ورجل؛ عرش مصر نفسه، ولكن الرجل غير أيبك الجاشنكير.
فكتبت كتابا إلى الملك الناصر صلاح الدين صاحب دمشق تدعوه إلى الزحف على مصر وتمنيه أن تهيئ له أسباب النصر، وأن ... وأن تتزوجه!
وبلغ كتابها الناصر، فهم أن يجيبها، ثم اشترط أن تقدم له عربون الصفقة مقتل أيبك.
وعادت تفكر من جديد في خطة غيرها.
وجاءها النبأ باعتزام المعز على إنزالها من قصر القلعة إلى دار الوزارة بالقاهرة، ليهيئ قصر القلعة لعهد جديد.
يا ويلتا! حتى القصر لم يعد يتسع لها وكانت تقبض يدها على القصر والعرش والملك والدولة جميعا! فلتدبر أمرها على وجه جديد.
ومثلت أمام مرآتها تؤامرها وتستمع لما تصف لعينيها من جمال لم يبله مر السنين، واطمأنت إلى ما دبرت.
الفصل السابع والعشرون
الخاتمة
كان الملك المعز قد هجر القلعة وأقام في مناظر اللوق منذ أيام؛ إذ فسد ما بينه وبين شجرة الدر، فليس بينهما حين يجتمعان إلا الخلف والمشاجرة، فلما اطمأنت شجرة الدر إلى تدبيرها، بعثت إليه رسولها يدعوه ويتلطف في الدعوة؛ فكأنما خيل إلى المعز من غفلته أن شجرة الدر قد فاءت إلى طبيعة الأنثى حين يهجرها الرجل، فتهفو إليه نفسها؛ فأجاب دعوتها نشيطا راضيا.
واستقبلته فرحة طيبة النفس قد أخذت زينتها وتجملت، وبذلت له ما تبذل كل أنثى لمن تحب، حتى ثاب إلى الأمان والطمأنينة، ثم قام إلى حمامه ليغتسل.
لقد جرح هذا الرجل منها كبرياء الملكة وغيرة الأنثى؛ فليكن انتقامها إذلالا لكبريائه ولرجولته في وقت معا، وكذلك كان تدبيرها؛ فقد وثب عليه غلمانها في الحمام فانهالوا على رأسه ضربا بالقباقيب وهم ينزعون أنثييه، ليموت حين يموت وقد تحطمت كبرياؤه وذلت رجولته!
وصاح الملك تحت العذاب: الغوث يا شجرة الدر! الغوث!
وأدركتها رقة الأنثى لحظة حين سمعته يهتف باسمها، فأشارت إلى غلمانها أن يكفوا. واستمع إليها جماعة، ولكن قائلا منهم ابتدرها: إن تركناه يا خوند
1
فلن يبقي علينا ولا عليك!
وعاد الغلمان يدقون رأسه بالقباقيب ويشدون أنثييه!
وأفلت الزمام من يدي شجرة الدر، فسترت عينيها باكية وهي تهمس في إشفاق ورحمة: أيبك!
ولكن أيبك لم يكن يسمع هتافها وقتئذ، فقد زهقت روحه قبل أن تصافح أذنيه كلمة الحنان تلفظها شفتاها، وقد عاش ما عاش من عمره على أمل كلمة حنان تلفظها شفتاها!
واستدارت الملكة الأرمل على عقبيها وقد سترت وجهها بكفيها وتتابعت على خديها الدموع.
هذا ملك ثان يموت تحت عينها ولا تدري كيف تواري سوءته.
وعاودها حنان الأنثى، فحملته على صدرها إلى مخدعه، ثم أسبلت أجفانه، وشدت لثامه، ومدت على وجهه الغطاء؛ ثم أغلقت من دونه الباب وأوت إلى غرفتها تفكر.
امرأة في رونق الصبا قد فقدت رجلها!
ملكة ذات سلطان توشك أن تنزل عن العرش!
قائد في المعركة قد أحيط به ويوشك أن يتخلى عنه عسكره!
كذلك كانت منذ بضع سنين يوم دهم الموت الملك الصالح بالمنصورة، وكذلك هي الليلة؛ ولكنها الليلة لا تملك تدبيرا ولا فكرا؛ لأن في نفسها روح الجريمة!
وأوشكت أن تصرخ مستغيثة، ثم تماسكت وتخبطها الشيطان فلم تحسن تدبيرا أو تحكم فكرة.
وأشرق الصباح على جسد مسجى في فراشه وإلى جانبه امرأة باكية، وعرف كل من في القصر أن الملك المعز قد مات!
وبلغ النبأ «أم علي» بنت الأشكري، زوجة أيبك الأولى، فصحبت فتاها يهرولان إلى قصر القلعة. •••
وقالت المرأة وقد وقفت إلى جانب ولدها بإزاء سرير الميت: لا، إنه لم يمت حتف أنفه، لقد قتلته شجرة الدر. - من أين لك علم هذا يا سيدتي؟ - لأنه أراد أن يروعها بضرتين ! - ولماذا لم تقتليه أنت يوم راعك بزواج شجرة الدر؟ - كنت أتربص به!
وأمسك السائل فلم ينبس بحرف.
ونظر علي بن أيبك إلى أمه منكرا ما تقول، فرأى دموعا تنحدر على خديها.
هذه امرأة أخرى تبكي رجلها وكانت تتربص به، كذلك النساء جميعا، تهيجهن الغيرة فلا يعرفن فرق ما بين الحب والبغض، ولا ما بين القصاص والجريمة، ثم يبتدر الموت إلى من أبغضنه بغض الغيرة، فيعرفن وقتئذ أين مكانه من قلوبهن، ولا يذقن طعم الحب إلا مبللا بالدمع! •••
وولي الملك المنصور علي بن أيبك عرش أبيه، صبيا لم يبلغ الحلم، وصعد وأمه إلى قصر القلعة، وقام على أمره الأمير سيف الدين قطز مملوك أبيه.
2
وأرادت أمه أن تقبض على شجرة الدر؛ ولكنها احتمت بالبرج الأحمر في القلعة ومنعها مماليكها.
أكانت تحاول القبض عليها لتثأر لنفسها من ضرتها، أو لتثأر لزوجها من قاتلته؟
من يدري؟!
وأيقنت شجرة الدر أن مماليكها لن يمنعوها طويلا ووراءها ضرتها تطلب الثأر، فلم تخش الموت، ولم تفكر في الهرب؛ لأن شيئا آخر غير الموت وغير الهرب كان يستأثر بتفكيرها؛ كانت تفكر في جواهرها وحليها وأسباب زينتها؛ فإنها لتخشى أن تقع تلك الجواهر والحلي وأسباب الزينة في يد ضرتها حين تموت، وإنها لتغار أن يكون لضرتها بعد موتها حلي وجواهر وزينة؛ ذلك هو كل ما تفكر فيه الساعة، والموت يتربص بها!
وجمعت شجرة الدر كل ما كانت تملك من حلي وجواهر فسحقته في هاون وأذرته في الريح، ثم أسلمت نفسها! •••
وماتت شجرة الدر، ولكن قبرها في القاهرة ما يزال مثابة للزائرين والزائرات، وما تزال صحائفها تتلى على توالي القرون.
أعلام مشهورة وردت في القصة
الأمير نجم الدين أيوب:
هو الملك الصالح نجم الدين أيوب، زوج شجرة الدر، وأستاذ المماليك البحرية.
الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ:
كان أبوه «شيخ الشيوخ الجويني» من علماء الدولة وسادتها وأهل الرأي فيها، واشتهر ولده فخر الدين في العلم والأدب، وفي الحرب والسياسة؛ ومات شهيدا في معركة المنصورة.
الملك الرحيم أبو الفضائل لؤلؤ :
كان أميرا على الموصل، موصول الأسباب بالخليفة العباسي في بغداد، وقد انضم إلى المغول فيما بعد، لدى زحفهم على الشام ومصر.
الصاحب بهاء الدين زهير، الصاحب جمال الدين بن مطروح:
شاعران من أشهر شعراء مصر، ووزيران من وزراء الدولة الأيوبية، وكانا من أصفياء الملك الصالح.
الأمير عز الدين أيبك التركماني:
هو الملك المعز، الزوج الثاني لشجرة الدر، وأول سلاطين المماليك بعدها، وكان جاشنكيرا في مطبخ الملك الصالح!
الأمير فارس الدين آق طاي:
مقدم المماليك البحرية، وكان يرى نفسه أحق بالعرش من أيبك، فصرعته مطامعه!
الأمير ركن الدين بيبرس:
هو الملك الظاهر بيبرس، رابع سلاطين المماليك، وقد تسلل الملك في أسرته سنين، وكان مملوكا من مماليك الملك الصالح!
الأمير سيف الدين قلاوون:
هو الملك المنصور قلاوون، وقد ارتقى إلى العرش، كما ارتقى إليه من قبله بيبرس، وكان مثله من المماليك البحرية، وتسلسل الملك في ولده كذلك سنين.
الأمير قطز:
هو الملك المظفر قطز، وكان مملوكا من مماليك أيبك، وقد تولى السلطنة بعد الملك المنصور علي بن أيبك، وعلى يده كانت هزيمة المغول في موقعة «عين جالوت».
الأشكري:
هو إمبراطور القسطنطينية، وكل إمبراطور من أباطرتها كانوا يسمونه «الأشكري» كما يسمون كل ملك في فارس «كسرى» وكل ملك في الحبشة «النجاشي».
السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه:
هو آخر سلاطين الدولة الخوارزمية في المشرق، وقد قضى عليها المغول.
القاضي بدر الدين السنجاري:
هو قاضي قضاة مصر في ذلك الوقت، وينتسب إلى سنجار، ومنها جاء إلى مصر في صحبة الملك الصالح حين مقدمه ليلي عرش مصر؛ وقد خلعه عن القضاء الملك المعز أيبك.
لويس التاسع:
هو ملك فرنسا، وكان يقود الحملة الصليبية السابعة على مصر، فانهزم في معركة المنصورة، وسيق أسيرا إلى دار القاضي فخر الدين بن لقمان بالمنصورة، ووكل بحراسته الطواشي صبيح المعظمي، وقد أعانته زوجته مرجريت دي بروڨانس على افتداء نفسه بمال جم، فاسترد حريته، ولم يفكر بعدها في غزو مصر، ولكنه مات في معركة صليبية أخرى على سواحل تونس !
ناپیژندل شوی مخ