وقد ارتحل عبد الرحمن في بعض شأنه التجاري إلى مدينة من مدن الأقاليم بعيدة عن القاهرة بعدا شديدا، في ذلك الوقت الذي لم تكن فيه القطر ولا السيارات، والذي كان يرتحل الناس فيه على ظهور الدواب أو على ظهور السفن التي تشق بهم النيل مصعدة حينا وهابطة حينا آخر. وكان عبد الرحمن لا يسافر إلى الأقاليم إلا بعد أن يقدم بين يديه طائفة من السفن قد حملت ما شاء الله أن تحمل من عروض التجارة، حتى إذا بعد عهده شيئا بإقلاع هذه السفن وظن أنها قد كادت تبلغ غايتها سافر هو من القاهرة سفرا غير قاصد، وبلغ الغاية قبل أن تبلغها السفن، وهناك يتلقى سفنه ويعمل في تجارته، فيبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويرد سفنه إلى القاهرة وقد تخففت مما كانت تحمل، ولكنها أثقلت بعروض أخرى تحمل من الأقاليم إلى القاهرة. وكان هذا كله يضطره إلى أن يبقى في مدن الأقاليم أوقاتا تطول وتقصر، فلم يكن له بد من أن يتخذ الأصدقاء من عملائه التجار، ومن أن يتخذ الأصفياء الذين يئوونه إذا كان في هذه المدينة أو تلك، والذين يئويهم حين كانوا يهبطون إلى القاهرة لمثل ما كان يرحل له من البيع والشراء، وكان عميله في هذه المدينة أبا خالد بن سلام. وكان علي كصديقه وعميله تاجرا بعيد التجارة، نشأ في قرية من قرى الريف في مصر السفلى، وفي أسرة من هذه الأسر التي كانت تتجر بالماشية وتحصل من هذه التجارة مالا عظيما، ثم رأى أبوه سلام ذات يوم أن أهل القرى يستكرهون على امتلاك الأرض واستثمارها، وكان أبغض شيء إليه أن يكون صاحب أرض وزراعة، يتعرض لما يتعرض له الفلاحون من الظلم والعنف، ومن القسوة والشدة، ومن هذه السياط التي كانت تأكل أجسامهم حين يقصرون مع سادتهم أو مع الحكومة، أو حين يتهمهم سادتهم وتتهمهم الحكومة ظلما بالتقصير، ففر سلام بأسرته وذهبه وفضته إلى مصر العليا، واستقر في مدينة من مدنها، واستأنف فيها حياة التجارة، ولكنه لم يتجر في الماشية، وإنما اتجر في البن والسكر والأرز والصابون. وقد نمت تجارته، واستطاع أن يترك لابنه علي ثروة ليس بها بأس. وكأن سلاما هذا قد أورث ابنه ما كان يمتاز به من حب الحرية، وتجنب السلطان، والاجتهاد في ألا يخضع لحياة تفرضها عليه القوة أو النظام فرضا، فقد شب علي فرأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يعملوا في الجيش، فلم يتحرج من أن يطيح إبهامه، حتى إذا تقدم للفرز رد؛ لأنه ليس صالحا للخدمة العسكرية.
وولد له ابنه خالد، فدفعه إلى الكتاب كما دفعه أبوه هو إلى الكتاب. ولكنه رأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يتعلموا في المدارس النظامية، وكان يرى هذه المدارس إثما من الإثم وزورا من الزور، فهرب ابنه من المدينة وجد في تهريبه حتى علمه التعليم الموروث، فحفظه القرآن جالسا على حصر الليف، ونزهه عن هذه المدارس التي لا يتعلم الصبيان فيها شيئا، وإنما يلوون ألسنتهم بالتركية، وبلغة أخرى يسمونها لغة الفرنسيس. وكان علي يكره الترك كرها شديدا، لا يتصور التركي إلا ظالما غاشما، لا يعرف عدلا ولا دينا ولا قانونا ولا احتشاما، وكان يكره الفرنسيس كرها شديدا، يذكر ما كان الناس يتحدثون به عنهم من الشر، ولكنه كان يحب الدنانير الفرنسية ويؤثرها على غيرها من النقد ولا يكاد يجتمع له شيء من ذهب أو فضة إلا استبدل به دنانير نابوليون.
وقد تقدمت السن بابنه خالد حتى كاد يبلغ العشرين. وهو لم يصنع شيئا إلا أنه حفظ القرآن، وجعل يعمل مع أبيه في تجارته يقبل عليها حينا وينصرف عنها أحيانا، ويؤثر الاختلاف إلى المساجد يشهد فيها الصلوات، ويسمع فيها للشيوخ والوعاظ، فإذا كان الليل اختلف إلى مشايخ الطرق، فشاركهم في حلقات الذكر، وكان أبوه لا يكره منه هذا، وإنما يرى فيه طاعة وتقوى، وكان يجتهد في أن يحبب إلى ابنه طريقة بعينها هي التي اتخذها لنفسه طريقة، وحمل صديقه القاهري عبد الرحمن على أن يأخذ بها العهد عن شيخه، وقد وفق علي من ذلك لما أراد، فأصبح ابنه خالد يتعصب لشيخه وطريقته أكثر مما يتعصب للتجارة، حتى أشفق الشيخ نفسه على هذا الشاب أن يغرق في التصوف وينتهي إلى الانجذاب، فقال لأبيه ذات ليلة بمحضر صديقه عبد الرحمن قبل أن يقيم الذكر بقليل: يا علي؛ زوج ابنك، وليعنك على ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية وهو لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
وانصرف الصديقان عن الشيخ بعد أن تفرقت حلقة الذكر، لم يقل أحدهما لصاحبه شيئا في شأن هذا الأمر الذي صدر من الشيخ إلى علي أن يزوج ابنه، وإلى عبد الرحمن أن يعينه على هذا التزويج. وراح علي إلى أهله، فلم يتحدث إليهم بشيء، وإنما أتم حياته العاملة كما تعود أن يتمها في كل يوم بركعتين كان يركعهما قبل أن يأوي إلى مضجعه، وبآية الكرسي التي كان يتلوها إذا استقر في فراشه. والتقى الرجلان حين نشرت الشمس رداءها الرقيق الرقراق على الأرض، وألبست منه المدينة حللا رائعة مشرقة، فحيا علي صاحبه، وسأله عن ليله كيف قضاه؟ وعن نهاره كيف يريد أن يقضيه؟ وأقبل الخادم يحمل القهوة، فشرباها في رفق وبطء وصمت يقطعه حديث نزر يسير. ولكن عليا أقبل على صديقه فجاءة يسأله: ماذا فهمت من الأمر الذي أصدره إلينا الشيخ قبل أن يقيم الذكر؟
قال عبد الرحمن متضاحكا: فهمت أنه يخشى على ابنك من حياته هذه التي يحياها، ويأمرك بتزويجه؛ لينصرف إلى الدنيا عن الإغراق في أمر الدين؛ لأنه لم يخلق ليكون شيخا، وإنما خلق ليكون تاجرا مثلك، وفهمت أنه يكلفني معونتك على ذلك، وأنا من هذه المعونة عند ما تريد.
قال علي: معونتي على ماذا؟ ومعونتي بماذا؟
قال عبد الرحمن: ما أدري، ولكن للشيخ إشارات لا تفهم عنه غالبا، ولولا أني أشفق عليك لسألتك: أفي حاجة أنت إلى المال؟
قال علي وهو يضحك: وهل حال مثلي تخفى على مثلك؟ أتراني قصرت في بعض حقوق التجارة فأجلت لك أو لغيرك حقا؟ بل أتراك أحسست مني حاجة إلى التأجيل والمهلة؟
قال عبد الرحمن: فهذا ما سألت عنه نفسي منذ الليلة، وإن كرام الناس مثلك ليعنفون بأنفسهم أشد العنف حتى لا يظهر أحد على ما يحبون أن يخفوا من الأمر، وقد عرفت ما بينك وبيني من الود والإخاء، فأنا عند ما تحب من المعونة إن احتجت إليها في تجارتك أو في تزويج خالد؛ فإن خالدا عندي بمنزلة ابني رحمهما الله.
ناپیژندل شوی مخ