وفي تلك الحياة لم تعرف سميحة فرحا ولا مرحا ولا ابتهاجا، وأنى لها ذلك وقد كانت مقصورة أو كالمقصورة على عشرة أختها جلنار، وبين أمها البائسة وخادمها السوداء، لا تكاد تختلط بصبيان الدار من أعمامها وعماتها الصغار؛ فقد كان يحال بينها وبين ذلك، يرى أبوها في مخالطتها لهم شرا عليها، ويرى جدها أن في مخالطتها لهم شرا عليهم، فأما في حياتها الجديدة فقد تغير كل شيء: أمها بائسة سقيمة من غير شك، ولكنها لا تكاد ترى أمها فضلا عن أن تطيل المقام معها، وخادمها السوداء كعهدها تلقاها بابتسامها العابس، ولكن في الدار أشخاصا آخرين وكائنات أخرى وأشياء أخرى لم تكن تألفها من قبل، فالدار فسيحة مترامية الأطراف كثيرة الحجرات واسعة الأفنية، وفيها إخوتها وقد بلغوا الآن خمسة، ويوشكون بعد قليل أن يبلغوا ستة، منهم من شب حتى لم يكد يبقى بينها وبينه فرق في السن والقد، ومنهم من لا يزال صبيا فيه كثير من المرح والفرح، وفيه كثير من الحركة والنشاط، ومنهم من لا يزال طفلا يحبو أو يدرج وهو يقدم لإخوته ضروبا من اللذة وفنونا من المتعة، يوشك أن يكون لهم لعبة لولا أنهم لا يستطيعون أن يعنفوا به أو يقسوا عليه، وفي الدار علتها التي كانت تدعوها خالتها، وهي «منى»، هذه ذات الوجه الطلق، والثغر الباسم، والشباب الغض، والقلب الذي يفيض رحمة وحنانا. وفي الدار خدم رجال ونساء، منهم من يعنى بأمور الدار تنظيفا وتنظيما وتنسيقا وإعدادا للطعام والمائدة، ومنهم من يعنى بهذه الحيوانات التي كانت تقيم مع أهل الدار في أماكن خصصت لها، والتي كانت تمثل ما ألف في المدن والقرى من هذه الحيوانات التي تعاشر الناس وتمنحهم خفض الحياة ولينها، ففي الدار البقر والجاموس، وفيها الحمر والخيل، وفيها الدواجن ذوات الريش على اختلافها.
وقد كان الحاج مسعود قد قضى فيما بينه وبين نفسه ألا يولد لابنته مولود إلا أهدى إليه شيئا من هذا الحيوان، فلهذا جاموسة، ولهذا بقرة، ولهذا فرسا، وكانت الأسرة تتخذ الدواجن وتستكثر منها؛ فكانت دار خالد خليطا غريبا من دور أهل المدن ودور أهل الريف، وكان هذا كله يملأ الدار حياة صاخبة كثيرة الضجيج والعجيج، كثيرة الحركة والنشاط، مختلفة أنواع العمل. وكان أبناء الدار يجدون في هذا كله اللذة كل اللذة والحياة كل الحياة، ولو تركوا وما يشاءون لما ذهبوا إلى الكتاب ولا إلى المدرسة، ولآثروا أن ينفقوا أوقاتهم يشهدون هذه الحركات الكثيرة المتنوعة، يلوذ بعضهم بالمطبخ حيث يهيأ الطعام وحيث لا يعدم من تلقي إليه طرفة من طرف هذا الذي تهيئه، ويلوذ بعضهم بقاعة التنور حيث يهيأ الخبز وتتخذ ألوان الكعك والفطير، ويقف بعضهم عند هذه التي تحلب البقرة أو الجاموسة، أو عند هذه التي تمخض اللبن، أو عند هذه التي تدعو الدجاج لتلقي إليهن الحب، ولكن خالدا كان قاسيا على بنيه يأخذهم بالحزم في أمر الكتاب والمدرسة، ولم تكن زوجه أقل منه شدة ولا حزما؛ فكانوا يذهبون كارهين إلى كتابهم ومدرستهم، ثم يعودون فرحين إلى دارهم.
وكانت سميحة وأختها بين هذا كله سعيدتين راضيتين قد أنسيتا ما أحستا من ألم أو وجدتا من شظف في حياتهما الأولى، وما كان أحرص سميحة على أن تتصل هذه الحياة الناعمة الفرحة، لولا أن أباها كان بعيد الصوت في مدينتيه الأولى والثانية، متهما بأن له حظا من يسار، متهما أيضا بأن حياته حديثة، فيها كثير من حضارة وترف وتأنق، ولولا أن سميحة نفسها كانت على حظ من جمال يتحدث الناس به في المدينتين، فلم تكد تبلغ الرابعة عشرة حتى خطبها الخاطبون، ولم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى عادت إلى مدينتها الأولى لتزف فيها إلى زوج له شيء من ثراء ومكانة، ولكن له بنين وبنات تركتهم له امرأته الأولى، فاستأنفت سميحة حياة ثالثة لسنا في حاجة إلى أن نعرض لها ولا أن نقص أنباءها؛ فلم تكن هذه الحياة الثالثة إلا حزنا متصلا وعذابا مقيما، أبناء لا يلمون بالحياة إلا ليسرعوا إلى الموت أو ليسرع إليهم الموت، وثروة تضخم ويطمع فيها أبناء الضرة، وزوج تتقدم به السن فيدركه الضعف قليلا قليلا، ويعظم حظه من الأثرة شيئا فشيئا، ويزداد سخطه على هذه الزوج الجميلة ذات الحسب والنسب، ولكنها على ذلك ميلاد مفقاد، كأن بينها وبين الموت عهدا أن تلد له وأن يسرع إلى بنيها فيختطفهم اختطافا، وقد عرفت سميحة الدموع ولما تتم السابعة عشرة من عمرها، وقد نيفت سميحة على السبعين ولم يعرف أنها أنفقت يوما لم تسفح فيه عبرة ولم تذرف فيه دمعا، إنما كانت حياتها بكاء متصلا: بكاء يأتي من الثكل، وبكاء يأتي من قسوة الزوج، وبكاء يأتي من كيد أبناء الضرة، وبكاء يأتي من فقد الزوج آخر الأمر، وبكاء يأتي بعد هذا كله من سيرة من سلم لها من البنين والبنات ومما كان يختلف على حياتهم من ظروف وخطوب.
فأما جلنار فقد ظلت الفتاة الوحيدة في هذه الأسرة بين إخوتها الشباب والصبية والأطفال، وبين أمها السقيمة، وعلتها الكريمة، وأبيها الرحيم، وكانت تجد في حياتها النعمة كل النعمة، ولكنها لم تكن تجد في حياتها الرضا كل الرضا؛ فقد كانت تعرف قبح وجهها وترى دمامة صورتها، فتكره ذلك وتضيق به، ولم يكن الشباب من إخواتها يتحرجون من التندر عليها والسخر منها، يجدون بذلك حينا ويمزحون أحيانا، ويؤذونها به على كل حال؛ وقد كانت فتاة الأسرة، وكان فيها جلد وقوة ونشاط وحب للعمل وسبق إليه؛ فما أسرع ما ألفت الأسرة منها ذلك ورأته لها طبيعة، ثم رأته عليها حقا، ثم رأت تقصيرها فيه ذنبا، فاندفعت الفتاة إلى العمل ثم دفعت إليه، وأي بأس في ذلك وقد كان عملا كريما شريفا! وأي حرج في أن تعنى الفتاة بإخوتها الصغار تحملهم وتنشئهم وتعللهم، وقد شغلت أمهم عنهم بأمور البيت وبمن كان يولد لها من البنين كل عامين أو في أقل من عامين! فهؤلاء الصبية إخوتها، وهي أرأف بهم وأعطف عليهم من الخدم، وأي حرج في أن تعمل الفتاة مع العاملات في إعداد الطعام وتهيئة الخبز وغسل الثياب! ففي ذلك كله تعليم لها أي تعليم! وهو يعدها أحسن إعداد لتكون ربة البيت يوم يصبح لها بيت، وإذا لم تكن الفتاة جميلة رائعة الجمال ولا حسنة بارعة الحسن، فلا أقل من أن تكون صناعا تحسن الإشراف على أمور البيت والنهوض بأعبائه المختلفة، فليس من المحقق أنها ستجد لنفسها دارا كدار أبيها، فيها الرخاء والثروة، وفيها الخدم من الرجال والنساء، ومن الممكن بل من المرجح أن بيتها سيكون متواضعا متضائلا مقترا عليه في النفقة، فستزف يوما إلى سالم، وهل سالم إلا حذاء يعيش من عمل يده وعرق جبينه؟! فيجب أن تكون زوجه ماهرة في تدبير أمرها، والعناية ببيتها، والقيام على تربية من سيتاح لها من الولد، وقد ألقي في روع الفتاة قبل أن تجاوز الصبا وتبلغ الشباب أنها خطب سالم الآن وزوجه غدا، قد اتفق على ذلك الأبوان خالد وسليم، واتفقت على ذلك نفيسة وزبيدة، وألحت زبيدة في ذلك أثناء مرضها الذي ماتت فيه؛ فليس عنه منصرف، وليس إلى تبديله من سبيل؛ ومن أين يأتي التبديل وقد أصبح هذا أمرا مقررا تراه الأسرتان كما تريان مقدم النهار ومقدم الليل! فكانت الفتاة تتحدث إلى نفسها بهذه الخطبة الواقعة وبهذا الزواج المنتظر، وكانت تفكر كثيرا في هذا الشاب الفتي القوي الجميل المرح، الذي يحسن الدعابة ويؤثر المزاح على كل شيء، والذي كان ينتهز كل فرصة ليزور عمه وأبناء عمه في مدينتهم هذه، فيطيل الزيارة، ويقيم بينهم فيطيل المقام، وربما أسرف في ذلك حتى يدعوه أبوه بالكتاب يتبع الكتاب، وفيه اللوم والتأنيب، وفيه التوبيخ والتقريع، وكانت الفتاة البائسة مستيقنة فيما بينها وبين نفسها بأنها الغرض من هذه الزيارة الكثيرة ومن هذه الإقامة المتصلة؛ فقد كانت تحب الفتى حبا شديدا، وتؤثره على كل إنسان وعلى كل شيء؛ لم تكن تتحدث بذلك؛ فحياء الفتيات وآداب الريف تمنع من مثل هذا الحديث، ولكنها كانت تديره في رأسها مصبحة ممسية، وتستحضره في قلبها أثناء يقظة النهار ونوم الليل. وكان ذلك يعينها على عملها المتصل المرهق الذي جعل يزداد اتصالا وإرهاقا كلما تعقدت أمور الدار؛ وكانت أمور الدار تتعقد في سرعة مدهشة؛ فقد كثر الأبناء وكثرت حاجاتهم، وعظم أمر الأسرة وكثرة الزائرون لها والملمون بها من الضيف، وجعلت «منى» تخفف شيئا فشيئا من أثقال أعبائها على الفتاة، والفتاة ماضية في العمل، جادة فيه، مخلصة له، تستعين عليه بهذا الحب الدفين، وبهذه الآمال العراض التي كانت تزين لها كل شيء في الحياة إلا وجهها وخلقها؛ فلم يكن إلى تزيينهما سبيل.
وكان حب الفتاة على شدة كتمانها إياه وحفظها له يظهر فجاءة إذا ذكر اسم سالم أو حضر شخص سالم على غير انتظار، هنالك تبرق عيناها، ويضطرب على وجهها المظلم الجهم نور ضئيل لا يلبث أن ينمحي كأنه هذه الأضواء الطارئة الضئيلة التي تنبسط على قطعة من ظلمة الليل لحظة ثم تزول كأنها لم تكن، وكان هذا الحب الكمين يظهر ملحوظا حين يقيم سالم في الأسرة قليلا أو كثيرا؛ فقد كانت الفتاة تلحظه لحظات مختلسة لها معناها، وكانت تتجنب الحديث إليه وتتجنب أن تدعو حديثه إليها، ولكنها كانت تلتهم حديثه إلى غيرها من إخوتها التهاما، تتسمع عليه إذا تحدث إلى رفاقه من بعيد، ثم كانت تؤثره بكثير من الطيبات، وكان لها إلى ذلك مسالك تملأ القلوب رحمة وحنانا؛ فلم تكن تختصه بشيء دون غيره من إخوتها، وإنما كان عطفها على إخوتها وإيثارها إياهم بطيبات المطبخ والتنور، ودعوتها إياهم إلى ما يلهي ويسر، كان هذا كله أكثر حين يزور سالم الأسرة ويقيم فيها، وكانت الأسرة تلحظ ذلك كله فتتمازح به وتداعب الفتاة فيه، وكانت الفتاة تسمع المزاح والدعابة فلا تجيب إلا برفع الكتفين وضحك فيه استهزاء بما يقال، واعتراف في الوقت نفسه بأنه صحيح.
ولم تلق جلنار من خالتها شيئا يسوءها في السر أو في الجهر، وإنما مضت أمورها على ما تحب وعلى ما تحب الأسرة، ولم تكن الفتاة تعنى بأمها عناية كثيرة ولا تلتفت إليها التفاتا خاصا، بل ربما شاركت إخوتها في مداعبة هذا الشبح الذي لم يكن يعقل كثيرا مما يقال له أو يجري حوله؛ فإذا عقل شيئا وهم أن يتكلم فيه نطق بما يملأ الدار ضحكا، وضحك الشبح نفسه مع الضاحكين، فقد ألفت نفيسة أن تعيش على هامش الأسرة لا تشارك في جدها وهزلها إلا أيسر المشاركة؛ فإن دخلت في شيء من أمر الأسرة أخطأت موضع العمل أو موضع القول، فأضحكت منها وضحكت من نفسها، وعادت إلى عزلتها هادئة مطمئنة، لا يعرف أساخطة هي أم راضية، وأكبر الظن أنها لم تكن ساخطة ولا راضية، وإنما كانت تحيا حياة سلبية من كل وجه؛ تعيش نهارها لا تعمل شيئا ولا تقول شيئا، إنما تدخن، وتشرب القهوة، وتنظر إلى ما في الدار من حركة، وتسمع إلى ما يدور حولها من حديث، تعقل من ذلك أقله وتغفل عن أكثره، وتأوي مع الليل إلى مضجعها لا يدري أحد أتنام فيه أم لا تنام، ولكنها كانت تأوي إليه في ساعة معينة، وتثب منه في ساعة معينة، فأما ما يكون بين هاتين الساعتين فعلمه عند الله، وأكبر الظن أن نفيسة لم تكن تعلم منه إلا قليلا، وقد كانت الأنباء تأتي بأن سميحة ابنتها رزقت غلاما أو صبية، وبأن سميحة ابنتها فقدت هذا الصبي من بنيها أو هذه الصبية من بناتها، وكان هذا كله يقال أمامها فتسمع وكأنها لا تسمع، ثم لا يظهر عليها فرح ولا حزن، إنما هي الحياة الآلية التي لا تترك لصاحبها إرادة ولا تفكيرا، إنما كانت «منى» هي التي تفرح وتحزن لما يصيب سميحة من خير أو شر، وهي التي تسافر لتجامل سميحة أو تواسيها، وربما عادت بسميحة إلى دار الأسرة لتجد فيها عزاء عما أصابها من خطب، أو سلوا عما نزل بها من هم، فإذا دخلت «سميحة» على أمها تلقتها هذه باسمة وقبلتها واجمة، ثم لم تزد على هذا الوجوم الباسم شيئا.
الفصل الرابع والعشرون
على أن الأمور قد أخذت تتغير قليلا قليلا في الأسرة، وبدأ التغير في قلب «منى » ذات يوم أو ذات عام؛ فهذه أشياء لا يمكن أن تؤرخ باليوم ولا بالشهر، فقد كانت «منى» تنتظر المولود السابع، وتتمنى أن يكون هذا المولود طفلة، تتحدث بذلك إلى زوجها، فيرفع كتفيه ويهز رأسه؛ لأنه لم يكن يحفل بأن تولد لها صبية أو يولد لها صبي، ولعله كان يؤثر في أعماق نفسه أن يكون ولده جميعا ذكورا، وكانت «منى» تضيق بذلك، وربما اشتدت على زوجها في اللوم حين ترى منه هذا الإعراض عن البنات أو قلة الاكتراث للبنات، وربما قالت له: وما يعنيك من ذلك ولك ابنتان سميحة وجلنار؛ فأنت رجل مجدود وقد رزقت البنات والبنين جميعا، فما عليك أن أحرم أنا هذه النعمة؛ وكان خالد يضحك لهذا الحديث، ولكن «منى» كانت تغتاظ لهذا الضحك، وكانت تقول: إن الصبي لا يكاد يدرج حتى يرسل إلى الكتاب ثم إلى المدرسة ثم يسعى في حياته؛ فأمه تحرم لذة الاتصال الدائم به؛ قبل أن يتجاوز السادسة من عمره، ينصرف عنها إلى درسه ولعبه، ثم إلى عمله وامرأته وبنيه إذا تزوج، فأما الصبية فإنها لا تبرح البيت إلى كتاب أو مدرسة أو عمل، فهي معاشرة لأمها دائما، هي متعتها صبية، وصديقتها شابة، وأختها إذا تقدمت بها السن حتى لو تزوجت، وكان خالد يسخر منها فيقول: نعم! أخت لأمها حتى لو تزوجت، كما أنك الآن أخت لأمك بعد أن تزوجت ورزقت البنين! فتجيبه «منى» ثائرة: وهل شغلني عن أمي إلا أنت وبنوك. فيقول خالد وهو يضحك: فستشغل ابنتك عنك بزوجها وبنيها كما تشغلين أنت الآن عن أمك.
ولكن الله حقق لمنى رجاءها واستجاب دعاءها فرزقها صبية، ثم تتابع البنات في الدار حتى بلغن أربعا، نشأتهن جميعا جلنار، ومنذ أصبح لمنى بنات ومنذ أخذ بناتها يسرعن إلى النمو أخذت نظرتها إلى جلنار تتحول قليلا قليلا، وكأن ما أودع الله قلبها من الحنان للبنات لم يكن يسع إلا بناتها هي، فجعلت نظرتها إلى الفتاة تقسو، وجعل صوتها إذا تحدثت إلى الفتاة يجفو، وجعلت معاملتها للفتاة تغلظ من يوم إلى يوم، والفتاة غافلة عن ذلك أول الأمر، ثم محتملة له بعد ذلك، ثم ضيقة به وصابرة عليه آخر الأمر، وسالم يزور المدينة ويعود منها لا يتحدث في الزواج ولا يشير إليه، وسليم يزور المدينة ويعود منها لا يتحدث في الزواج ولا يشير إليه، وقد كانت «منى» نفسها تتحدث في أمر هذا الزواج قديما فقد أصبحت الآن لا تتحدث فيه ولا تشير إليه، إنما يلمح به الفتيان من شباب الأسرة تلميحا قليلا ضئيلا لا يلبثون أن يكفوا عنه ويخوضوا في غيره من الجد والمزاح، ثم تنسى الخطبة نسيانا تاما، ولا يعرض أحد لهذا الزواج بلفظ أو إشارة، والفتاة ترى وتفكر، وتألم، وتصبر، وتنظر إلى وجهها في المرآة ثم تعكف على نفسها في صمت حزين، ولعلها أن تخلو إلى نفسها إن وجدت للخلوة وقتا، فتعدد وتبكي كما تعدد النساء ويبكين، حتى إذا أحست نبأة أسرعت إلى بكائها فالتهمته التهاما، وإلى دموعها فشربتها حتى تشرق بها، ووثبت مقبلة على بعض العمل كأنها لم تكن في بكاء ولا تعديد، وبمقدار ما كانت سيرة «منى» تتغير مع جلنار كان عطف جلنار على أمها يشتد ويزداد؛ فقد أخذت تعنى بها عناية خاصة في اللفظ واللحظ والإشارة والمعاملة، وكانت في الفتاة جفوة هي خير مظهر من مظاهر الحب والحنان؛ فكانت إذا جفت على إنسان في قول أو عمل دل ذلك على أنها تؤثره بالود الخالص والحب العميق، وقد أخذ حظ أمها يزداد من صوتها الغليظ وألفاظها الجافية ونظراتها الحادة وحركاتها العنيفة؛ فكانت تقدم إليها القهوة إذا أصبحت وكأنما تنهرها نهرا شديدا، وكانت تتحدث إلى أمها في صوتها المرتفع الحاد، فإذا ظلت أمها ذاهلة كعهدها اندفعت إليها عنيفة بها فهزتها هزا شديدا، وهي تقول: إني أكلمك ألا تسمعين! وإذا سمعت فهلا تجيبين! ربما اختطفت من أمها أثناء هذا العنف قبلة سريعة خفيفة لا تكاد تلحظ، وقد صبرت نفيسة على هذا العنف، لم تحسه أول الأمر ولم تلتفت إليه، ولكنه اتصل واتصل، وتكرر أثناء النهار، وتكرر في أول الليل، وأخذت الأسرة تلاحظ أن في نفس الفتاة شيئا أو أنها تريد من أمها شيئا، ولكن قلوب الشباب قاسيات وقلوب الأمهات أشد قسوة إذا شغلن بولدهن، فلم يحفل أحد من الأسرة بهذا العنف الذي كانت تهديه الفتاة إلى أمها، وما يعنيهم من ذلك! فتاة حمقاء، وأم مجنونة، فليفرغ الشباب لأمرهم، ولتفرغ الأم لبنيها ولبناتها خاصة.
وفي ذات يوم أقبلت الفتاة ضجرة إلى أمها تتحدث إليها عنيفة بها في الحديث، فلما أبطأت الأم في الجواب هجمت الفتاة عليها كأنها الغول تريد أن تلتهم فريستها، فارتاعت الأم شيئا، وهبت من مجلسها مذعورة وأسرعت إليها الفتاة وأخذتها بين ذراعيها دون أن تجد منها امتناعا أو إباء، وتنظر «منى» ومن حولها من بنيها ومن نساء الدار فإذا المرأتان قد اعتنقتا، وإذا دموع غزار تمتزج وتجري على وجهين قبيحين ملتصقين، فأما الشباب فيوشكون أن يضحكوا لولا بقية من حياء وخوف من أمهم، وأما «منى» فلا تملك دموعها أن تنهل، وإذا هي تبكي صامتة، ثم تنهض متثاقلة وتسعى بطيئة حتى تبلغ هاتين المرأتين، فتضع على رأس كل واحدة منهما قبلة مبللة بالدموع، ومنذ ذلك اليوم عاد إلى نفيسة شيء من رشدها، فعرفت أنها أم، وأن لها ابنة بجوارها تدعى جلنار، وابنة أخرى بعيدة عنها تدعى سميحة، عاد إليها شيء من رشدها، ففارقها الذهول، ولكن لم يفارقها بؤس النفس هذا الذي يضطر صاحبه إلى الإذعان، ويلجئه إلى زاوية ضئيلة من زوايا الحياة يلزمها ولا يبرحها، يرى أنها خلقت له وأنه خلق لها، وأن القضاء قد جعلها له قبرا حيا حتى يأتي اليوم الذي ينقل فيه من هذا القبر الذي يدفن فيه الأحياء إلى ذلك القبر الذي يدفن فيه الموتى.
ناپیژندل شوی مخ