العود إلى البيت دون تغير، لا كراهية لزينب ولا حب لها. واختفاء الكراهية دليل على اختفاء زينب نفسها. ودليل انتصار نهائي على دنياها، وانتصار الغربة الزاحفة. وقال لها: علينا أن نتقبل محنتنا بشجاعة.
وتبدت شجاعة حقا، حتى حجرته هجرتها. وقال لها بتأثر: أنت مثال للكمال.
وانقطع عن مغامرات الليل الخائبة. ووهبته بثينة وجميلة وسمير مسرات لا تنكر. والنيل يجري تحت الشرفة بلا توقف، وهو يسأل بلهفة: متى تعود رحمة الفجر في الصحراء؟ واعتكف في حجرته طول الليل يقرأ ويتأمل حتى يجيء الفجر، فيمضي إلى الشرفة، وينظر إلى الأفق، ثم يتساءل: أين الرحمة؟ أين؟ وها هي ترانيم فارس والهند والعرب المليئة بالأسرار، ولكن أين السعادة أين؟ ولم تشعر بالكآبة وأنت بين هذه الجدران الرحيمة؟ وما هذا الشعور المقلق الذي يهمس لك بأنك ضيف غريب موشك على الرحيل، وإلى أين؟ وقال مصطفى: الحمد لله على أن عاد كل شيء إلى أصله.
فقال بازدراء: لم يعد شيء إلى أصله.
فتجنب المناقشة في إشفاق، فقال عمر بتحد: لم أعد إلى البيت، لم أعد إلى العمل. - ولكن يا عزيزي ... - ولا يعرف أحد ماذا تقول الساعة التالية.
وفيما كان بمكتبه عصرا؛ إذ فتح الباب ودخل رجل ربعة متين البنيان، شاحب اللون، كبير الوجه، حليق الرأس، قوي الفكين والأنف، يشع من عينيه العسليتين نور حاد. نظر إليه عمر منكرا لأول وهلة، ثم انتتر واقفا وهو يهتف بصوت متهدج: عثمان خليل!
وتعانقا طويلا، وعمر في غاية من الانفعال، ثم جلسا على المقعدين المتقابلين أمام المكتب، ولسانه لا يتوقف عن كلمات الترحيب والتهنئة والتبريك. والآخر يبتسم وكأنه لا يجد ما يقوله. وحل صمت قصير كرد فعل فراحا يتبادلان النظر، وتموجت المخيلة بالذكريات، وتحركت في الأعماق مشاعر غريبة منذرة بكل ظن. وارتفع مد حاملا دفعات من القلق والتوجس. وطالما طافت به لحظة اللقاء المرتقبة، وطالما عمل لها ألف حساب، ولكنها حلت رغم ذلك بغتة كمفاجأة غير ممكنة التوقع. ولم يقدر الزمن، ونسي كل شيء في العهد الأخير، ومع ذلك فإن المدة لم تنقض بالتمام، ولم يستنتج إلا الساعة أن ثلاثة أرباعها قد انقضى. وها هو يلقاه وهو أبعد ما يكون عن الاستعداد النفسي لذلك. رجل خارج من السجن إلى الدنيا، ورجل يتحفز للخروج من الدنيا إلى عالم مجهول. - يا له من عمر طويل!
ابتسم عثمان، فقال عمر: لم تغب عنا فيه ساعة واحدة. وها هو وجهك مصمم على الحياة كعادتك.
فقال بصوت حلقي دسم: وأنت لم تكد تتغير في الصورة، ولكن صحتك ليست كما يجب.
سر للملاحظة الأخيرة، وقال: بلى، مرضت، وعانيت أزمات غريبة، ولكن من فضلك لا تجعل مني موضوعا للحديث، أريد أن تتحدث وأن أسمع .
ناپیژندل شوی مخ