شاعر فرنسي من شعراء القرن السابع عشر، نشأ غريبا في أطواره وأخلاقه، منفردا بصفات قل أن تجتمع لأحد من معاصريه؛ فكان جامعا بين الشجاعة إلى درجة التهور، والخجل إلى درجة الضعف؛ وبين القسوة إلى معاقبة أعدائه على أصغر الهفوات، والرقة إلى البكاء على بؤس البائسين من أصدقائه وأبناء حرفته، وكان كريما متلافا، لا يبقي على شيء مما في يده، وعفيفا لا يمد يده إلى مخلوق كائنا من كان، وصريحا لا يتردد لحظة واحدة في مجابهة صاحب العيب بعيبه كيفما كان شأنه، وكيفما كانت النتيجة المترتبة على ذلك، فكان عدو الكاذبين والمرائين، والمغرورين، والسفلة والمتملقين، أي إنه كان عدوا للهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها تقريبا، كما كانت عدوة له كذلك، لا تهدأ عن مشاكسته ومناوأته وابتغاء الغوائل به.
ولم يكن له من الأصدقاء إلا أفراد قلائل جدا، هم الذين يفهمون حقيقة نفسه وجوهرها، ويقدرونه قدره وقدر صفاته الكريمة التي كان يتصف بها.
وكان الخلق الغالب عليه من بين جميع أخلاقه خلق العزة والأنفة، فكان شديد الاحتفاظ بكرامته، والضن بعرضه أن ينال منهما نائل، أو يعبث بهما عابث، وكان لا يرى في أكثر أوقاته إلا مبارزا أو مناضلا، أو ثائرا أو مهتاجا، أو واضعا يده على مقبض سيفه، أو ملقيا قفازه على وجه خصمه، شأن الفوارس الأبطال في ذلك العصر.
وكانت بليته العظمى في حياته، ومنبع شقائه وبلائه أنه كان دميم الوجه، كبير الأنف جدا إلى درجة تلفت النظر وتستثير الدهشة، وكان يعلم ذلك من نفسه حق العلم، ويتألم بسببه تألما كثيرا؛ لأنه كان عاشقا لابنة عمه «روكسان» الشهيرة بجمالها النادر، وذكائها الخارق، وكان يعتقد أن المرأة مهما سمت أخلاقها وجلت صفاتها لا يمكن أن تقع في أحبولة غرامية غير أحبولة الجمال، ولا تعنى بحسن غير حسن الوجوه والصور، فكان - وهو أشجع الناس وأجرؤهم وأعظمهم مخاطرة وإقداما - لا يجسر أن يفاتح حبيبته هذه في شأن حبه، حياء من نفسه وخجلا.
فكان أنفه سبب شقائه من جهتين؛ أنه وقف عقبة بينه وبين غرامه، وأنه كان المنفذ العظيم الذي ينحدر منه أعداؤه وخصومه إلى السخرية به والتهكم عليه، وهو لا يطيق ذلك ولا يحتمله، فكان النزاع بينه وبينهم دائبا لا ينقطع، وكان لا ينتهي غالبا إلا بمبارزة يخرج منها في الغالب فائزا منتصرا، ولكن كان كثير الخصوم والأعداء.
وكان جنديا في فصيلة شبان الحرس من الجيش الفرنسي، وكان أفراد تلك الفصيلة جميعهم من الجاسكونيين مثله، وهم قوم معروفون بخشونة الأخلاق ووعورتها، وبكثرة التبجح والادعاء والغرور والكذب، ولهم مع ذلك فضيلة الشجاعة والصبر، والقناعة والشرف وعزة النفس، وكان سيرانو متصفا بحسناتهم، مترفعا عن سيئاتهم، فكان له في نفوسهم أسمى منزلة من الإجلال والإعظام، وكانوا يحبونه حبا شديدا ويذعنون لرأيه، ويستطرفون أحاديثه ودعاباته، ويفاخرون به وبنبوغه وشجاعته، وجراءته وصراحته، كما كان يفخر بهم وبعصبيتهم، وكان من أسوأ الشعراء حظا في حياته، فقد قضى عمره كله خاملا مغمورا؛ يجهل الدهماء قدره لأنهم لا يفهمونه، وينكر الأدباء فضله لأنهم يبغضونه ويجدون عليه وينقمون منه خشونته وشدته في مؤاخذتهم ونقدهم، فلم يكن يحفل بذلك كثيرا؛ لأنه كان مخلصا لا يهمه إلا أن يكون عظيما في عين نفسه ثم لا يبالي بعد ذلك بما يكون.
وكثيرا ما كان ينظم الرواية الجليلة ذات المغزى العظيم والأسلوب الرائق، فلا يفكر في إهدائها إلى أحد من العظماء - ليتوسل بذلك إلى نشرها وترويجها، وحمل الفرق التمثيلية على تمثيلها - كما كان يفعل الشعراء في عصره، أنفة وإباء، وضنا بنفسه أن يقف موقف الذل والضراعة على أي باب من الأبواب كيفما كان شأنه، وربما سرق بعض الروائيين قطعا من رواياته فضمنوها رواياتهم وانتفعوا بها، فلا يغضبه ذلك ولا يزعجه، وكل ما كان يفكر فيه أو يسأل عنه في هذا الموقف: ماذا كان وقع تلك القطعة في نفوس الجماهير حينما سمعوها؟
ولقد أخلص في حبه لابنة عمه «روكسان» إخلاصا لم يسمع بمثله في تاريخ الحب، فأحبها وهي لا تعلم بحبه، وتألم في سبيل ذلك الحب ألما شديدا، وهي لا تشعر بألمه، وأحبت غيره فلم يحقد ولم ينتقم، بل كان أكبر عون لها في غرامها الذي اختارته لنفسها، ولم يلبث أن اتخذ حبيبها الذي آثرته صديقا له، وأخلص في مودته إخلاصا عظيما، وأعانه على استمرار صلته بها، وبقاء حبه في قلبها؛ لأنه ما كان يهمه شيء في العالم سوى أن يراها سعيدة في حياتها، مغتبطة بعيشها، وهذا كل حظه في الحياة.
ولم يزل هذا شأنه طول حياته، حتى خرج من دنياه، ولم تعلم روكسان بسريرة نفسه إلا في الساعة الأخيرة التي لا يغني عندها العلم شيئا.
روكسان
ناپیژندل شوی مخ