هات اسقني أو تراني
لا أعرف الأقداحا
فماج القوم من الطرب، وقذف بعضهم بالعمائم، وقام سكران يلح على أبي الجوع في أن يشرب حتى لا يعرف الأقداح ثم غمز ابن رشدين لخمر بعينه متجها نحو المتنبي فأخذت تصدح:
لبسن الوشي لا متجملات
ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغدائر لا لحسن
ولكن خفن في الشعر الضلالا
وكان القوم يتمايلون مع الأنغام، لجمال المعاني وحسن الإيقاع، والتفتت عائشة إلى المتنبي وهمست: هذا غزل من القلب يا أبا الطيب، وليس تصوير فنان فحسب؛ لأني أحس فيه حرقة العاشق. فالتفت إليها وقال: هذا شعر الشباب يا سيدتي، فضحكت في دهش وقالت: عجيب أن تدعي مفارقة الشباب وأنت لا تزال في ربيع الشباب الزاهر. - ولكن مطامعي تغري بي الشيب والهرم، فأسرعت تقول: دع مطامعك الآن لأننا لم نتبذل هذه الليلة إلا لنذهب عنك الوحشة والهموم. - جزاك الله خير الجزاء يا سيدتي، وبعد أن طال به المقام طلب الإذن بالانصراف، فقام الجمع احتفاء به، وأمر ابن رشدين عبيده بالسير في ركابه، وخرج مشيعا بالإجلال.
وتفرق القوم، وانفض سامر اللهو، وصعدت عائشة إلى حجرتها؛ لتستريح بالمنام إذا ظفرت بالمنام، ولكنها جلست في سريرها ذاهلة اللب، مروعة القلب، تتقاذفها الأوهام، وتعبث بها الظنون، ما هذا الهجوم العنيف الذي غزا فؤادها دون أن تعد له العدة أو تأخذ الأهبة؟ لقد كانت طول حياتها تعتز بأن قلبها حصن لا ينال، ونجم لا تمتد إليه أمنيات الخيال، وتفاخر بأنها برئت من غرائز النساء التي تدفعهن إلى الاستجابة إلى إشارات الرجال الآثمة، وأعينهم الخائنة. تلك الغرائز التي تبيع الجمال رخيصا، وتمزق الحياء كما يمزق البرق حجب الغمام. كانت تخالط الرجال وتجالسهم في مجلس اللهو حينا، وفي مجالس الأدب أحيانا، وهي كأنها الملك السماوي الطاهر، الذي خلقه الله من نور، وطهر قلبه من وساوس الإثم ودنس الشهوات. فكانت العيون تغضي أمام جمالها إجلالا، والنفوس تسجد عند مشاهدتها خشية وخشوعا، ولم يخل مجلس من تحدث إلا بطهارتها وعفافها، وصون جمالها البارع من أن تمتد إليه يد طامع، وكانت نساء المدينة وبناتها - على رغم الحقد الذي يأكل قلوبهن - لا يملكن إلا أن يطأطئن لهذا الجمال المترفع عن أن ينزل في سوق المساومات، أو تنهشه أعين الخاطبات، وكم حام الشبان حول قدسها فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، وكم بذل أبو بكر بن صالح - أعظم رجل في الدولة بعد ابن الفرات - من وسيلة، وكم ساق من رجاء، وكم تساقطت دموعه على قدميها، فلم يجد منها إلا الرفض والجفاء.
طافت هذه الخواطر بعائشة وكانت تودع كل موكب من مواكبها بدمعة حزن وزفرة أنين، ثم عادت تقول: ماذا جرى لعائشة النافرة الشموس؟ كيف ذلت لسلطان هذا الرجل؟ وكيف قذفت بكبريائها؛ لتلاقي من كبريائه صخرا أصم، لا تزعزعه عواصف الغرام. إنها فتحت له قلبها هذه الليلة فأغلق في وجهها كل باب، وبدا من جمالها ما يكفي لإثارة أبي الهول، ولكنه ظل بجانبها جامدا كأنه كان ينظر إلى عجوز ورهاء، ويلي من الحب ويلي! لقد صنته عن كل محب معمود يستعذب الموت في حبي؛ لأقذف به بين يدي شاعر لا يحس! رفضت الجاه والمال والشباب والوسامة؛ لأبيع نفسي رخيصة مزجاة لرجل جواب أفاق جاوز الأربعين! ثم من هذا الرجل؟ إنه ينظر إلي كما ينظر إلى لعبة لم يحكم صنعها، ويستمع لي كما يستمع لبعوضة تطن، ويستدبر محراب حسني كافرا جحودا، لا يؤمن بجمال ولا تهزه عاطفة، ويلي من الحب ويلي! ماذا يقول الناس؟ وبم تتحدث السوامر؟ سأكون سخرية المجامع، ومتندر المحافل، وسيقول النساء إن عفافها كان رياء، وتبتلها كان مينا وزورا. ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها كأنها أفاقت من حلم مزعج، وقالت: وما لي أهتم بحديث الرجال وثرثرة النساء؟ إنني أحببت رجلا عظيما، وتعشقت فنا رفيعا، إنني نفرت من جمال المادة المظلمة، إلى جمال الروح الوضاءة. إنني لا أحب العيون الدعج، ولا الحواجب الزج، ولا الثغر اللؤلؤي، ولا القوام السمهري، ولكني أحب العبقرية المتلألئة، والنبوغ الفاتن، والرجولة الوثابة، والنفس الطموح. إن أحمد بن الحسين رجل لا كالرجال، فليس بدعا أن يكون حبي له حبا لا يشبهه حب، ولا يماثله غرام، وإذا كان قلبه اليوم لا يستجيب للحب فإن طول المعاشرة قمين بأن يلين قياده، ويروض صعبه، حتى يصبح طيعا ذلولا. إن بعد الليلة سيكثر من زيارتنا، وسيجد من الأنس بنا ما يرسل نفسه على سجيتها، ويطلق عواطفه المكبوتة، والزمان طبيب كل شيء في هذه الدنيا، وقاهر كل جبار، حتى لو كان أبا الطيب المتنبي. ثم أغمضت عينيها فسبحت في عالم فسيح من الأحلام.
ناپیژندل شوی مخ