شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
تأليف
عباس محمود العقاد
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
(1) الشاعر ونشأته
اتفق لي أن أخرج كتابا عن عمر بن الخطاب، وكتابا عن عمر بن أبي ربيعة في فترة واحدة، ولم يكن ذلك عن قصد مرسوم ولا عن محض مصادفة، ولكنه كان مزيجا من القصد والمصادفة، ووسطا بين الاختيار والاتفاق الذي يأتي على غير انتظار.
فقد دعيت منذ أكثر من سنة إلى الكتابة عن عمر بن أبي ربيعة بين مشاهير الأدب العربي والتاريخ الإسلامي الذين اتجهت النية حينا إلى ضم سيرهم وتواريخهم في مجلد واحد. فشرعت في دراسة الشاعر وتحضير سيرته ونقده حتى لم يبق منها غير الكتابة، ثم أرجأتها إلى موعدها المقدور حين وقف العمل في كتاب أولئك المشاهير.
وحدث أنني كتبت «عبقرية محمد» واستلحق هذا الكتاب «عبقرية عمر» فانتهيت منها، وإذا باقتراح من سلسلة «اقرأ» أن أكتب رسالة في الأدب على نحو الرسالة التي كنت أزمعت كتابتها عن عمر بن أبي ربيعة. فهذا الذي جمع كتابي عن عمر بن الخطاب وعن عمر بن أبي ربيعة في فترة واحدة، وفيه من الاختيار شيء، ومن التقدير السابق شيء، ولم يكن شأني فيهما بأغرب من شأن التاريخ بين العمرين المتفاوتين هذا التفاوت في العمل والقول والسيرة.
فقد قيل إن ابن أبي ربيعة ولد يوم مات ابن الخطاب - رضي الله عنه - فكان الناس يقولون بعد ذلك: أي حق رفع وأي باطل وضع! ويعجبون لمجيء هذا إلى الدنيا يوم ذهاب ذاك.
فأما أن حقا عظيما رفع من الدنيا يوم فارقها عمر بن الخطاب، فذلك ما لا ريب فيه ولا خلاف.
وأما أن باطلا وضع في الدنيا يوم جاءها عمر بن أبي ربيعة ففيه ريب وفيه خلاف.
ونحن لا يعنينا أن يتفق المختلفون على نصيب ابن أبي ربيعة من الحق والباطل، فليكن له منهما ما يشاء ويشاء المختلفون.
وإنما يعنينا أن يستحق الدراسة الأدبية أو لا يستحقها. وهو موضوع لا يختلف عليه الدارسون؛ لأن ابن أبي ربيعة - ولا ريب - ظاهرة أدبية، وظاهرة نفسية قليلة النظير في الآداب العربية، وحقه في الدراسة كحق جميع الشعراء المعروفين بهبة الفن وصدق التعبير. وإنه لفي الطليعة الملحوظة من هؤلاء.
وتاريخ شاعرنا وجيز في حساب الحوادث والسنين، فافرض ما شئت من سنتين بينهما ديوان شعر، فذلك أهم تاريخ له بين سنة الميلاد وسنة الوفاة.
فمن المتفق عليه أنه ولد سنة ثلاث وعشرين للهجرة، ومن المختلف عليه سنة وفاته وسبب وفاته. فقيل إنه مات حتف أنفه، كما قيل إنه مات مقتولا أو مدعوا عليه، وقيل: إنه مات سنة ثلاث وتسعين كما قيل غير ذلك. فنحمد الله على أن ما اختلف فيه التاريخ من أنباء الشاعر ليس مما يغير أو يبدل في حقيقته الشعرية أو حقيقته الفنية التي تعنينا وتعني القراء. فحسبنا ديوانه وحده، نعلم منه كل ما يهم علمه، ونتخذ منه موازين أدبه وحقائق نفسه. وإن أصدق الشعراء فنا وحياة لمن تعرفه بديوانه وتعرفه لديوانه.
وعلى هذا ندع الإسهاب في الحواشي والفضول التي لا تؤدي إلى طائل في هذه الدراسة الفنية وفي كل دراسة فنية على التعميم، ونكتفي من أخباره وأحاديثه بما يفهمنا ديوانه أو بما يفهمنا سليقته وآثاره الفنية، وهو على قلته يغني ويفيد.
كان شاعرنا من سادة بني مخزوم، ومن أكبر بيوتات قريش، وكان جده أبو ربيعة يسمى ذا الرمحين لطوله كأنه يمشي على رمحين، وقيل: إنه قاتل في يوم عكاظ برمحين فسمي بهما لذلك.
وكان أبوه يدعى بحيرا، فسماه النبي - عليه السلام - عبد الله، واشتهر بين قريش بلقب العدل؛ لأنهم كانوا يكسون الكعبة في الجاهلية من أموالهم سنة، ويكسوها هو من ماله سنة، فلقبوه العدل؛ لأنه يعدل قريشا كلها في كسوة الكعبة، وقيل: إن العدل هو الوليد بن المغيرة، وليس عبد الله بن ربيعة والد الشاعر.
وكان بحيرا - أو عبد الله - تاجرا موسرا يتجر بين الحجاز واليمن، وكانت أمه من قبله عطارة يأتيها العطر من اليمن، واسمها مخرمة أو مخربة في رواية أخرى، وقد تزوجها هشام بن المغيرة، فولدت له أبا جهل والحارث ابني هشام.
واستعمل النبي - عليه السلام - عبد الله على ولاية الجند وسوادها (في اليمن) فلم يزل عاملا عليها إلى مقتل عمر - رضي الله عنه - وقيل: بل امتدت ولايته إلى عهد عثمان. وكان له عبيد كثيرون من الحبشة يتصرفون في جميع المهن، فقيل لرسول الله حين خرج إلى حنين: هل لك في حبش بني المغيرة تستعين بهم؟ فقال: «لا خير في الحبش إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا، وإن فيهم لخلتين حسنتين: إطعام الطعام والبأس يوم البأس.»
أما أم الشاعر فكانت سبية من حضرموت أو من حمير يقال لها: «مجد». ومن هناك أتاه الغزل كما قالوا في زمانه: «غزل يمان ودل حجازي!» وهي مع هذا ليست بالصلة الوحيدة بينه وبين الحضارة اليمنية كما رأينا من علاقة أبيه وجدته بتجارة اليمن وتجارة العطر منها على الخصوص، وهي التجارة التي بينها وبين معيشة الغزل والغزليين نسب قريب.
ونشأ عمر في النعمة على وسامة وفراغ، ومن حوله الجواري والأرقاء، يهيئون له من اللهو ما يتهيأ للسيد الفتي الفارغ من متاعب الحياة، وقد وصفه بعض من رآه بين فتيان بني مخزوم فقال إنه «قد فرعهم طولا، وجهرهم جمالا، وبهرهم شارة وعارضة وبيانا ...» فهو تام الأداة للغزل ومصاحبة الحسان، وهو أقرب الفتيان من أبناء الحجاز إلى تمثيل بيئته؛ حيث نشأ من مجتمع الحضارة اليمنية والحجازية في القرن الأول للهجرة؛ أي في القرن الذي هدأت فيه بالحجاز حركة الدعوة النبوية، كما هدأت فيه حركة السياسة بانتقال الدولة وعاصمتها إلى الشام، ثم بقيت له بعد هدوء هاتين الحركتين بقايا الترف القديم من عهد الجاهلية، وطوالع الترف الجديد في دولة الإسلام.
وتواترت الأنباء بمطارحاته الغرامية طوال أيام الشباب، ومعظم هذه الأنباء لا يعدو أن يكون منثور القصائد التي نظمها في ديوانه، فهي لا تحوجنا إلى تردد كثير، ولا إلى تمحيص طويل.
فمن ديوانه نعلم - قبل أن نعلم من سيرته - أنه كان منقطعا لأحاديث الظريفات من بنات مكة والمدينة، وكان ينتظر أيام الحج؛ ليلقى الحسان القادمات من العراق والشام واليمن، أو يتعرض لهن في الطواف فيجنبنه حينا ويزجرنه حينا مخافة التشهير، وهو القائل في وصف هذه المواقف:
وكم من قتيل لا يباء به دم
ومن غلق رهنا إذا ضمه منى
1
وكم مالئ عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
2 ... ... ... ... ... ... ... ...
فلم أر كالتجمير
3
منظر ناظر
ولا كليالي الحج يفتن ذا الهوى
إلا أن أناسا من أصحابه كانوا يعتقدون أنه على سنة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وسأله ابن أبي عتيق وهو أقربهم إليه: يا عمر! ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط؟ قال: بلى، فاستخبره عن قوله:
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابس
فأجابه: والله لأخبرنك. خرجت أريد المسجد، وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه؟ فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان علي، وهو الثوب المورد المشار إليه.
وقال الزبير بن بكار: «لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفا يصف ويقف، ويحوم ولا يرد.»
وأقسم هو مرة أنه ما اطلع على جسد حرام، وجاء في خبر آخر على لسانه ما يناقض هذا، حيث يقول سمرة الدوماني: «إني لأطوف بالبيت فإذا أنا بشيخ في الطواف، فقيل لي: هذا عمر بن أبي ربيعة. فقبضت على يده وناديته: يا ابن أبي ربيعة! فقال: ما تشاء؟ قلت: أكل ما زعمته في شعرك فعلته؟ فأومأ إلي: إليك عني. قلت: أسألك بالله، قال: نعم وأستغفر الله.»
وآخرون يسلمون غوايته أيام الشباب، ويقولون: إنه تاب وأقلع بعد المشيب. ومنهم من يقسمها شطرين متساويين فيقول: إنه عاش ثمانين، فتك منها أربعين ونسك أربعين.
واتفقت أقوال كثيرة على نسكه في مشيبه وإعراضه عما كان يقبل عليه في شبابه، فكان يلوم من يحدث امرأة في الطواف، وبلغ من إعراضه عن الغزل أنه أقسم لا ينظمن بيتا إلا أعتق به عبدا أو جارية، واستنشده الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة حجه فاعتذر إليه وقال: يا أمير المؤمنين! أنا شيخ كبير، وقد تركت الشعر، ولي غلامان هما عندي بمنزلة الولد، وهما يرويان ما قلت، وهما لك. فأنشداه ولم يزالا ينشدانه حتى قام وقد أجزل صلته ورد الغلامين إليه.
وقد يصح بعض هذا ولا غرابة فيه، فمن المستبعد جدا أن يكون عمر قد فعل كل ما ادعاه وإن كان قد اشتهاه، ومن الجائز أنه تاب وأخلص في التوبة بعد المشيب. فالتوبة ليست بالأمر النادر بعد فوات الشباب، وعمر مهيأ لها بشيء في طبيعة أسرته، كما يظهر من سيرة أخيه الحارث وولده جوان.
فقد كان أخوه الحارث متدينا شديد النفور من الغزل ومصاحبة الحسان، وقيل: إنه وهب أخاه عمر ألف دينار على أن يترك الغزل ولا يرجع إليه، وإنه كان عنده يوما، فأرسله في حاجة لهما ونام مكانه، فإذا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله. فصاح بها: اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله. وعلم عمر بالخبر حين عاد فقال للحارث: أما والله لا تمسك النار أبدا، وقد ألقت نفسها عليك، فقال أخوه: عليك وعليها لعنة الله!
وعلى هذه الخليقة كان ابنه جوان الذي قال فيه العرجي:
شهيدي جوان على حبها
أليس بعدل عليها جوان؟
فغضب لزج الشاعر باسمه في هذا المقام، وقد كان أبوه يصبح ويبيت فيه!
وكان من تدين أبيهم في الجاهلية أنه كان ينفرد وحده بكسوة الكعبة سنة، وتجتمع قريش كلها على كسوتها في السنة الأخرى، وهو أمر إن دل على غناه من جانب، فهو من جانب آخر دليل على تقواه.
فالتوبة الدينية غير بعيدة من مزاج ابن أبي ربيعة الذي تتجلى فيه آثار الوراثة، وهي لا تغيب كل المغيب في حياة إنسان، وما زال معهودا بين كثير من الأسر التي تضطرب فيها الحساسية العصبية أن يظهر فيها التقاة، كما يظهر فيها الغواة؛ لأن الطرفين يلتقيان في خليقة «التأثر» على تناقض ما يتأثران به بعض الأحيان، وربما شوهد أن الغوي ينقلب إلى التقوى، وأن التقي ينقلب إلى الغواية إذا اعتراهما طارئ تختلف به وجهة التأثير.
ولكن المرء يتوب عن عمل يعمله، ولا يتوب عن مزاج طبع عليه، ولهذا نصدق أن عمر قد تاب، ونصدق أنه بقي إلى ختام الحياة يعاود الحنين إلى صبوات الشباب، وفي الشيخوخة عبث ذلك العبث الذي صبا به إلى لقاء شيخة كان يغازلها أيام الشباب، فلما جلس إليها وأحس حركة البنات الناشئات ينظرن من ثقوب الستر، دعا بماء يوهمها أنه سيشرب، ثم مجه عليهن في وجوههن، وراقه أن يتصايحن ويضحكن. وقال لصديقته العجوز وقد لامته على المجون والسفه في سنه: ما ملكت نفسي لما سمعت من حركاتهن أن فعلت ما رأيت.
هذا المزاج لا يتوب منه من طبع عليه، وهذا المزاج هو الذي ننظر إليه من وحي الشاعر في شعره، ولا تتغير دلالته من هذه الوجهة سواء صدق الشاعر في كل ما قال أو في بعض ما قال، وسواء تاب عن صدق أو خادع نفسه وصحبه في المتاب. (2) عصر ابن أبي ربيعة
لابن أبي ربيعة ديوان كبير يشتمل على بضعة آلاف بيت من الشعر، كلها في الغزل إلا القليل، وكل غزلها في الحوار والرسائل التي تدور بينه وبين حسان عصره وظريفاته.
ويستغرب قارئ الديوان أن ينصرف شاعر في جميع شعره إلى هذا الغرض دون غيره، وهو استغراب معقول يرد على كل خاطر للوهلة الأولى، إذا اقتصرنا على النظر إلى الديوان وحده، وقابلنا بين موضوعاته وموضوعات الشعراء المشهورين في الدواوين الكبيرة.
ولكنه استغراب لا يلبث أن يزول أو ينقلب إلى نقيضه إذا تجاوزنا الديوان إلى العصر الذي نظم فيه الديوان والبيئة التي عاش فيها الشاعر. فربما أصبح العجب عندئذ أن يتمخض ذلك العصر عن ديوان واحد، ولا يتمخض عن دواوين شتى من هذا القبيل، وأن يكون ابن أبي ربيعة شاعرا فردا في مجاله بغير نظير يحكيه في إكثاره وانقطاعه، وقد كان ينبغي أن يقترن به نظراء متعددون؛ لأن العصر الذي عاش فيه ابن أبي ربيعة في تلك البيئة التي نشأ بينها كان عصرا غزليا في جميع أطرافه، يشغله الغزل ولا يزال شاغله الأول فوق كل شاغل سواه، وربما عيب على الرجل أن يتجافى عنه ويتوقر منه، كأنه مطالب به مدفوع إليه، وليس قصارى الأمر فيه أن يسيغه ويأنس إليه.
فما من عالم ولا فقيه ولا أمير ولا سري بلغت إلينا أخباره وأحاديثه إلا كان له من رواية الغزل والاستماع إليه نصيب موفور، وما من شدة كانت لا تلين له حتى شدة المحارم والحرمات.
كان ابن عباس - رضي الله عنه - في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وجماعة من الخوارج يسألونه ويستفتونه؛ إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس يستنشده من شعره، فأنشده الرائية التي يقول في مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
إلى أن أتمها.
فالتفت إليه نافع بن الأزرق قائلا: «الله يا ابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مترف فينشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فبادره ابن عباس قائلا: ليس هكذا قال، إنما قال:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
4
وعجب نافع من حفظ ابن عباس للبيت، فأعاد عليه القصيدة كما جاء في بعض الروايات من مطلعها إلى ختامها. وقال لمن لامه في حفظها: إنا نستجيدها. ثم أقبل على ابن أبي ربيعة يستزيده فأنشده:
تشط غدا دار جيراننا
وسكت، فقال ابن عباس:
وللدار بعد غد أبعد
فقال له عمر: كذلك قلت - أصلحك الله - أفسمعته؟
قال: لا، ولكن كذلك ينبغي.
وكان بعد ذلك كثيرا ما يسأل: هل أحدث هذا المغيري شيئا بعدنا؟ •••
وروي أن نوفل بن مساحق دخل مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فمر بسعيد بن المسيب في مجلسه وحوله أصحابه فسلم عليه فرد السلام ثم سأله: يا أبا سعيد! من أشعر؟ أصاحبنا أم صاحبكم؟ يريد عبد الله بن قيس وعمر بن أبي ربيعة، فقال نوفل: حين يقولان ماذا يا أبا محمد؟ فأنشده أبيات عمر:
خليلي ما بال المطايا كأنما
نراها على الأدبار بالقوم تنكص
وقد قطعت أعناقهن صبابة
فأنفسنا مما يلاقين شخص
وقد أتعب الحادي سراهن وانتحى
بهن فما يألو عجول مقلص
5
يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا
إذا زاد طول العهد والبعد ينقص
ثم قال: حين يقول صاحبكم ما تشاء!
فأجابه نوفل: صاحبكم أشعر في الغزل، وصاحبنا أكثر أفانين شعر.
قال سعيد: صدقت. ثم انقضى ما بينهما من ذكر الشعر فجعل سعيد يستغفر الله ويعقد بيده حتى وفى مائة.
فاتجه سائل إلى نوفل يسأله: أتراه استغفر الله من إنشاد الشعر في مسجد رسول الله؟ قال نوفل: كلا! هو كثير الإنشاد والاستنشاد للشعر فيه، ولكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه.
وكان شأن الأمراء والرؤساء في هذا كشأن العلماء والفقهاء؛ فحدث الشعبي أنه دخل المسجد فإذا بمصعب بن الزبير على سرير والناس عنده، فسلم وهم بالانصراف، فاستدناه مصعب ودعاه أن يتبعه إذا قام.
قال الشعبي: فجلس قليلا ثم نهض إلى دار موسى بن طلحة وأنا أتبعه، ثم دعاني إلى الدخول فدخلت معه إلى حجرته ووقفت، فالتفت إلي وقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير، وسمعت حركة فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف، وإذا بجارية تناديني: يا شعبي! إن الأمير يأمرك أن تجلس. فجلست على وسادة ورفع سجف الحجلة
6
فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ثم رفع سجف آخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، فلم أر زوجا قط كان أجمل منهما. فقال مصعب: يا شعبي! هل تعرف هذه؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة! قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
7
وأحمل في ليلى لقوم ضغينة
وتحمل في ليلى علي الضغائن
ثم قال: إذا شئت فقم.
قال الشعبي: فلما كان العشي ذهبت إلى المسجد فإذا هو جالس على سريره. فاستدناني حين رآني حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم مال إلي فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله! فسألني: أفتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا! قال: لتحدث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة أن يعطيني عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا. فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به: عشرة آلاف درهم، ومثل كارة القصار
8
ثيابا، ونظرة من عائشة بنت طلحة.
والشعبي صاحب هذه القصة الذي حسب النظرة من غنائم يومه هو أكبر الرواة في زمانه والثقة الحجة فيما حفظ من الأحاديث النبوية.
ومصعب بن الزبير هو الأمير الذي نازع ونوزع في الولاية وعاش على خطر من القتل حتى قتل، وهو مع ذلك مشغول بالغزل كما رأيت ومشغول بأن يصبح هو وزوجه حديثا غزليا للمتحدثين.
لا جرم يكون من تمام مروءة السري يومئذ أن يعيش للغزل وأن يسعى بالوساطة فيه، فكان ابن أبي عتيق - وهو من سلالة أبي بكر الصديق - يتشفع لعمر بن أبي ربيعة عند صديقته الثريا ولا يرى في الدنيا خيرا إذا تم الصدع بينهما.
حدث مولاه بلال أن سيده أنشد أبيات عمر التي يقول منها:
من رسولي إلى الثريا فإني
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
فصاح: إياي أراد، وبي نوه، والله لا أذوق أكلا حتى أشخص فأصلح بينهما. ونهض ونهضت معه، فاكترى راحلتين وسار سيرا شديدا فقلت: أبق على نفسك، فإن ما تريد ليس يفوتك!
فقال: ويحك، أبادر حبل الود أن يتقضبا.
9
وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا؟ «فقدمنا مكة ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه وسلم عليه، ولم ينزل عن راحلته، وقال له: اركب أصلح بينك وبين الثريا، فأنا رسولك الذي سألت عنه! وقدمنا الطائف فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفا لك بذنب لم يجنه، معتذرا من إساءته إليك، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، وكررنا إلى مكة فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل ...»
فالعصر الذي يكون هذا شأن الغزل عند علمائه وأمرائه وأصحاب المروءة فيه لا جرم يكون الغزل حاجة من حاجاته التي لا يشبع منها، ويكون شعر الشاعر الواحد قليلا في التعبير عن هذه الحاجة التي تعم كل بنيه وبناته، وتشغل كل متحدثيه ومتحدثاته.
وقد كانوا يحسون حاجتهم إلى مثل ذلك الشاعر ويقولون: إنهم يحسونها ويفتقدونها، فلما مات عمر بن أبي ربيعة حزنت عليه نساء مكة، وكانت إحداهن بالشام فبكت وجعلت تقول: من لأباطح مكة؟ ومن يمدح نساءها ويصف محاسنهن؟ وعزاها بعضهم فقال: إن فتى من ولد عثمان بن عفان قد نشأ على طريقته وأنشدها بعض كلامه، فتسلت وقالت: هذا أجل عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا.
وجاء في أخبار كثير بن عبد الرحمن الشاعر أنه مات وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد. فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس، وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن صاحبته عزة في ندبتهن له. وأقبل محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يشق طريقه ويضرب النادبات بكمه قائلا: تنحين يا صويحبات يوسف! فتصدت له امرأة منهن تقول: يا ابن رسول الله لقد صدقت؛ إنا لصويحبات يوسف وقد كنا له خيرا منكم له. فأوصى بعض مواليه أن يحتفظ بها حتى يجيئه بها بعد انصرافه، ثم جيء بتلك المرأة كأنها شرارة النار كما قال راوي القصة، فسألها محمد بن علي: أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا؟ قالت: نعم، تؤمنني غضبك يا ابن رسول الله؟ قال: أنت آمنة من غضبي فأبيني. قالت: نحن يا ابن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم - معاشر الرجال - ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن، فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف؟ فقال محمد: لله درك! ولن تغالب امرأة إلا غلبت. ثم سألها: ألك بعل؟ فأجابته: لي من الرجال من أنا بعله! قال أبو جعفر: صدقت! مثلك من تملك بعلها ولا يملكها ... •••
تلك حال العصر وحال ساداته وسيداته من الغزل وأحاديثه، فليس العجب أن تستغرق هذه الأحاديث ديوان شاعر واحد ضخم أو صغر، وإنما العجب أن ينفرد ابن أبي ربيعة بطريقته وديوانه في ذلك العصر ولا يكثر معه الأنداد والنظراء، ولكل منهم مثل ذلك الديوان.
والواقع أن مثل هذا الانفراد عجيب لولا أن نرجع إلى الحقيقة برمتها ولا نقف عند النظرة الأولى إلى العصر كله على الإجمال.
فابن أبي ربيعة لم يكن شاعر الغزل في العصر كله، ولكنه كان في الحقيقة شاعر الطبقة الوادعة المترفة من أبناء ذلك العصر وبناته دون غيرها، وهي طبقة يعد أفرادها بالعشرات ولا يتجاوزونها إلى المئات، ومن كان من شعرائها يساويه في الحسب والجاه كالحارث بن خالد أو العرجي سليل عثمان بن عفان؛ فقد كان له شاغل آخر عن الغزل ومصاحبة الحسان، فكان الحارث واليا لمكة وكان العرجي يشهد الوقائع بأرض الروم، وكانا مع ذلك دون عمر في الملكة الشعرية والطبيعة الغزلية، فإذا اجتمع التعبير عن الطبقة كلها في الديوان الكبير الذي نظمه عمر بن أبي ربيعة فذلك حسب تلك الطبقة من حديث منظوم.
فهو وحده كان الشاعر المكثر بين الوادعين المترفين من أهل زمانه، وكان مكانه في طبقته يبيحه أن ينقل عنها وتنقل عنه، ويسمع منها وتسمع منه، ويختلط بها وتختلط به على سنة المصاحبة والمساواة. فقد كان في الذؤابة من بيوت قريش غنى وجاها وحسبا، وكان همه موكولا بمن يساوينه في الطبقة من بنات تلك البيوت؛ إذ لا نعرف من أخباره خبرا واحدا شبب فيه بفتاة من غير ذوات الشارات والأحساب، وإن عرض ببيت هنا وبيت هناك لفتاة من زائرات الحج المجهولات النسب فمن المحقق أن يكون مغريه بها النعمة البادية والسمة التي تنم على الرفاهة والرخاء، ثم لا يتعقبها إلى زمن طويل.
أما حسانه اللائي اشتهر بالحديث عنهن وأحب أن يتسم بحبهن فكلهن من ذوات الحسب والثراء، ومن طبقة محدودة لها ذوقها الخاص الذي لا يشبه عامة الأذواق.
فعائشة بنت طلحة التي تقدمت الإشارة إليها هي بنت طلحة بن عبيد الله وحفيدة أبي بكر الصديق من ناحية أمها، وزوجة مصعب بن الزبير، وصاحبة الشهرة المستفيضة بالترف والعبث بالمال، فمن أخبارها أن مصعبا دخل عليها وهي نائمة في الصباح ومعه ثماني لؤلؤات تقوم بعشرين ألف دينار، فنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها، فما زادت على أن قالت: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ.
والثريا - ولعلها أحظى حسانه عنده - هي بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس، ولها من الدور والرياض والمال حظ موفور.
والسيدة سكينة بنت الحسين، وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان لهما في النسب والثراء مكان لا يعلوه في زمانهما مكان، ويلحق بهما من قريب أو بعيد حسان أخريات كلهن من كبار البيوتات كزينب بنت موسى، وهند بنت الحارث المرية، ومن يشير إليهن بوصف النعمة والبذخ فيدل على طبقتهن، وإن لم يصرح بالكنى والأسماء.
وعلى هذا لا عجب أن ينفرد عمر بحديثه المنظوم عن هذه الطبقة فهو شاعرها الذي اجتمع له من أسباب التعبير عنها ما لم يجتمع لغيره.
ولا عجب أن يترك لنا ديوانا كاملا كله رسائل غرام؛ لأنه كان يعبر عن حاجة من حاجات عصره تتسع لدواوين.
وقد يكون من تمام العلم بذلك الغزل الذي تفوق فيه أن نعلم ما هو الترف الذي كان من أهله وكان موكولا بوصفه، فهو على الجملة ترف ساذج لا يخلو من مسحة البداوة، وقد تبدو سذاجته في الدلال الخشن كما تبدو في إظهار النعمة بالمكاثرة والمباهاة التي يعوزها الصقل والطلاء. فمن الدلال الخشن أن تترفع عائشة بنت طلحة عن ثماني لآلئ بعشرين ألف دينار وهي لو طارت بها فرحا لكانت في ذلك غرارة طفولة هي أملح من كل ذلك الدلال، وسنرى في فصول هذه العجالة المقبلة أن الثريا كانت تلبس الخواتم كسائر بنات عصرها في جميع أصابعها، وأنها لطمت بيدها وجه عمر حتى أوشكت أن تخلع ثنيتيه! ونرى أن إحدى معشوقاته ضربت جارية أرسلها إليها. فمن الواضح أن نلمس أثر ذلك كله في غزل ابن أبي ربيعة وفي دلاله وهو بصبوته وشارته ومركبه وملبسه وشهرته الغرامية. فمن هنا كان شاعر عصره وشاعر طبقته وشاعر طريقته في الغزل لا مراء. (3) طبيعة غزله
كانت العلاقة بين الرجل والمرأة في قبائل العرب البادية على سنة الفطرة بين الجماعات البشرية الأولى، ولكن الفطرة لا تكون على حالة واحدة؛ إذ تغلب عليها القوة كما يغلب عليها الضعف، وتوصف بالعرام والشدة كما توصف بالسهولة واللين، وتظل على البساطة كما يعرض لها بعض التركيب ويعتريها شيء من التعقيد.
ففي البداوة الأولى كانت مناعة الحوزة هي الفضيلة العليا التي لا تعلو عليها فضيلة أخرى؛ لأنها غاية ما يتمناه البدوي في كفاح العيش ليضمن بقاءه بين منافسيه والمغيرين عليه.
فالقبيلة الشريفة هي القبيلة التي تمنع ماءها ومرعاها، وتذود عن جيرتها وحماها، والسيد الشريف هو الرجل الذي لا يستخف بجواره، ولا يعتدى على ذماره، والمرأة الشريفة هي التي يصعب منالها ولا يسلس قيادها فالعفة هنا فضيلة «حربية» تابعة للفضائل العامة التي تغلب على أحوال القبيلة برمتها: معقل منيع، وسيد منيع، وبئر منيعة، وامرأة منيعة، وقس على ذلك كل ما تطلب فيه الحصانة والاستعصاء. •••
وإذا نظرنا إلى المرأة من حيث هي عرض الرجل الذي يحميه ويغار عليه فلا جرم يصبح اللغط باسم المرأة إهانة لها وإهانة للرجل الذي يحميها في وقت واحد، ويبلغ من ذلك أن يحرم على الفتاة الزواج بالفتى الذي اشتهر بحبها ونظم الشعر فيها، هذا هو عرف الفطرة الذي توحيه البداوة والبداهة.
ثم يجيء سلطان الدين فيضيف إلى حصانة البداوة مناعة إلى مناعة، ويزيد حق أولياء النساء في حماية أسمائهن والمطالبة بعقاب من يغازلهن ويلغط بذكرهن؛ لأن اللغط بهن ازدراء بأقدار أوليائهن وحرام في الدين. •••
لكن الأدب البدوي يدركه أحيانا عرض من أعراض التغير أو الانحلال لجدب شديد يحطم قيوده ويهدم حدوده، أو لترف تنغمس فيه القبيلة، فتلين بعد جفاء وتتراخى بعد صلابة، أو لقلة الحاجة إلى القتال ونخوة العداء التي تجعل المناعة فضيلة الفضائل ومعقد الأخلاق والآداب، أو لما يحدثه النعيم من حب الدعابة والسخر بالجلافة وإن اشتملت على سطوة وانطوت على إباء.
فترى إذن من سهولة الغزل بين الرجل والمرأة ما تستغرب أن تراه في حاضرة من حواضر العصر الحديث؛ لأن المتغزل البدوي قد يستخف بحواجز البداوة وحواجز الحضارة على السواء، أما الحضري من أبناء العصر الحديث فقد يعرف له حدودا تثنيه ولا يحسن به أن يتخطاها في بعض الأحاديث والمساجلات، وإن استطاع.
حدث أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة يزيد بن الطثرية فقال ما ننقله بتصرف يسير: ... كان كثيرا ما يتحدث إلى النساء.
قالت سعاد بنت يزيد: كان من أحسن من مضى وجها وأطيبه حديثا، وإن النساء كانت مفتونة به.
وأمحل الناس حتى ذهبت الدقيقة من المال وتهتكت الجليلة، فأقبل صرم
10
من جرم ساقته السنة والجدب من بلاده إلى بلاد قشير وبينهم وبين قشير حرب عظيمة.
فلم يجدوا بدا من رميهم بأنفسهم؛ لما قد ساقهم من الجدب والمجاعة وما أشرفوا عليه من الهلكة.
ووقع الربيع في بلاد بني قشير فانتجعها الناس وطلبوها، فلم يعد أن لقيت جرم قشيرا فنصبت قشير لهم الحرب. فقالت جرم: إنما جئنا مستجيرين غير محاربين ... فأجارتهم قشير وسالمتهم وأرعتهم طرفا من بلادها.
وكان في جرم فتى يقال له مياد، وكان غزلا حسن الوجه تام القامة آخذا بقلوب النساء.
والغزل في جرم جائز حسن وهو في قشير نائرة.
فلما نازلت جرم قشيرا وجاورتها أصبح مياد الجرمي، فغدا إلى القشيريات يطلب منهن الغزل والصبا والحديث واستبراز الفتيات عند غيبة الرجال. فدفعنه عنهن وأسمعنه ما يكره، وراحت رجالهن عليهن وهن مغضبات، فقال عجائز منهن: والله ما ندري أأرعيتم جرما المرعى أم أرعيتموهم نساءكم؟
وأشار بعض القوم أن يبيتوا جرما فيصطلموها، واستقبحه بعضهم لما فيه من غدر بالجوار، وقالوا: لا تفعلوا. ولكن تصبحون وتتقدمون إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل فإنه سفيه من سفهائهم، فليأخذوا على يديه. فإن يفعلوا فأتموا لهم إحسانكم، وإن يقروا ما كان منه يحل لكم البسط عليهم وتخرجوا من ذمتهم.
فلما أصبحوا غدا نفر منهم إلى جرم، فقالوا: ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها؟ إن كانت هذه البدعة سجية لكم فليس لكم عندنا إرعاء ولا إسقاء، وإن كانت افتتانا فغيروا على من فعله.
فقهقهت جرم من جفاء القشيريين وعجرفيتهم، وقالوا: إنكم لتحسون من نسائكم ببلاء. ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلا ورجلا.
قالوا: والله ما نحس من نسائنا ببلاء، وما نعرف عنهن إلا العفة والكرم. ولكن فيكم الذي قلتم!
قالوا: فإنا نبعث رجلا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال وأخلف النساء، وتبعثون رجلا إلى بيوتنا، ونتحالف أنه لا يتقدم رجل منا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها بشيء مما دار بين القوم.
حتى إذا كان الغد غدوا إلى الماء وتحالفوا أنه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل. وغدا مياد الجرمي إلى القشيريات، وغدا يزيد بن الطثرية إلى الجرميات، فظل عندهن بأكرم مظل لا يصير إلى واحدة منهن إلا افتتنت به وتابعته إلى المودة والإخاء، وقبض منها رهنا، وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها. فيقول: وأي شيء تخافين وقد أخذت مني المواثيق وليس لأحد في قلبي نصيب غيرك؟
ثم صليت العصر فانصرف يزيد بفتخ
11
وبراقع، مكحولا مدهونا شبعان ريان مرجل اللمة.
أما مياد الجرمي فظل يدور بين بيوت القشيريات مرجوما مقصى لا يتقرب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل، فتهالك لهن وظن أنه ارتياد منهن له، حتى أخذه ضرب كثير بالجندل ورأى اليأس منهن وجهده العطش، فانصرف إلى سمرة قريبا إلى نصف النهار نام تحتها نويمة وتوسد يديه فسكن بعض ما به من ألم الضرب وبرد عطشه قليلا، ثم قرب على الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد، فوجد أمة تذود غنما في بعض الظعن فأخذ برقعها وألقى به وهو يقول: برقع واحدة من نسائكم! وجاءت الأمة تعدو فتعلقت ببرقعها فردوه عليها وهو خجل.
ثم أقبل يزيد ممسيا وقد كاد القوم أن يتفرقوا، فنثر كمه بين أيديهم ملآن براقع وفتخا، وقد حلف القوم ألا يعرف رجل شيئا إلا رفعه.
فلما نثر ما معه اسودت وجوه جرم وأمسكوا بأيديهم إمساكا ... فقالت قشير: أنتم تعرفون ما كان بيننا أمس من المواثيق، فمن شاء أن ينصرف إلى حرام فليمسك يده ... •••
وأعجب من هذا في استباحة الغزل أو استحسانه ما رواه ياقوت في مادة «رباط» من معجم البلدان؛ حيث قال في وصف أهل هذا البلد: «أهله عرب، وزيهم زي العرب القديم، وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب، وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة. وذلك أنه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم، ويسامرن الرجال الذين لا حرمة بينهن وبينهم، ويلاعبنهم ويجالسنهم إلى أن يذهب أكثر الليل، فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته وإذا هي تلاعب آخر وتحادثه فيعرض عنها، ويمضي على امرأة غيره فيجالسها كما فعل بزوجته.
وسألت رجلا عاقلا منهم أديبا، فقلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا أعرف صحته!
فبدرني وقال: لعلك تعني السمر؟
قلت: ما أردت غيره!
فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح، وبالله أقسم إنه لقبيح، ولكن عليه نشأنا وله قد ألفنا، ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه، ولو قدرنا لغيرناه. ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين عليه واستمرار العادة.» •••
والملحوظ من كل ما قدمناه أن خفض العيش وقلة الحاجة إلى نخوة القتال لهما اتصال بما شوهد من سهولة الغزل بين القبائل العربية، ولهذا كان أكثره إلى سلالات اليمن التي عرفت منذ القدم باسم «العربية السعيدة» لخفض عيشها ورقة أخلاقها، أو كما قيل: إنها «تلك اليمانية الضعيفة قلوبها».
وعندنا أن أهل البادية أقرب إلى الغزل - متى ارتفع وازع الصولة أو ارتفعت سطوة الدين - من أهل الحاضرة، خلافا لما يبدر إلى الظن أول وهلة؛ لأن أهل البادية أقرب إلى غرائز الأحياء الفطرية فيما يعالجونه من أنفسهم ومن سياسة المخلوقات الحية التي يرعونها ويعيشون عليها، ولأنهم كذلك أوفر نصيبا من الفراغ، وأدنى إلى اللقاء، وأقل من أهل المدن الكبيرة أندية وملاعب للرياضة العامة يقضون فيها سويعات البطالة والراحة، فإذا تيسر الرزق ولانت الشكائم وذهبت الغرائز في مداها كان اللهو ديدنا لا فكاك منه لمن فرغوا له واستطاعوه، ولم يجدوا مصرفا عنه إلى غيره، وحسبوه ظرفا وملاحة لا يليقان بغير أهله.
وقد نشأ شاعرنا - عمر بن أبي ربيعة - في حواضر الحجاز، تلك الحواضر التي كانت لعهده وسطا بين البادية والمدينة العامرة.
فلم تكن خياما ولا بيوتا من الشعر منقطعة عن العمار، ولكنها لم تكن كذلك صروحا ولا عواصم مستقلة بنفسها على مثال دمشق ومصر والقسطنطينية.
إنما كانت على الحقيقة مثابة الحجاج والقوافل ومنازل يأوي إليها المغتربون إلى حين، ويسكنها أهلها لضيافة من يقصدها من غير أهلها في موسم الحج أو مواسم التجارة والارتياد، فهي كالمحلة الصحراوية التي لا تشبه الصحراء، ولا تبلغ مبلغ العاصمة من استبحار العمار.
وكانت وسطا بين غرام البادية كما نعرفها في الأعراب وبين ذلك الاسترخاء الذي أنبأنا به أبو الفرج في الأغاني وياقوت في معجم البلدان.
فأسلس أبناء القبائل الذين سكنوها بعد خشونة وجفاء، ولكنهم لم ينسوا نخوة العرض ومنعة المحارم؛ فلما شبب عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة من تيم بني مرة كبر الأمر على فتيان تيم، فأنذروه لا يعودن إلى مثل ذلك، وإلا أصابه شر من أيديهم، فأقسم لا عاد.
ولانت شدة الدين بعد الخلفاء الراشدين، ولكنها لم تبطل، ولم تتحلل في العرف الشائع بين الناس؛ بل كان عمر يلهو ما يلهو ويتغزل ما يتغزل، ثم لا ينسى أن يعلن مع هذا جاهدا أنه لا يستبيح محرما ولا يأتي بريبة، ولا يزال على سنة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون.
ولعل عائشة بنت طلحة كانت مثل المرأة الشريفة في تلك الآونة: تعطي حق الحياء والدين، وتعطي معه حق النعمة والجمال، فكانت تترفع عن الريب، ولكنها لا تستر وجهها عن أحد. وإذا عاتبها زوجها في ذلك قالت - وفي كلامها قبس من حجة الدين وحجة الدنيا: «إن الله وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضله عليهم فما كنت لأستره، ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد ...»
قال صاحب الأغاني: «وطالت مراودة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بني تيم هن أشرس خلق الله وأحظى عند أزواجهن. وكانت عند الحسين بن علي - رضوان الله عليهما - أم إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت، وهي مصارمة لي لا تكلمني!»
وهذا مثل المرأة التي لا تنسى جمالها، ولا تنسى بداوتها، ولا تنسى دينها، ثم تأتي النساء دون ذلك درجات ممن وصفهن ابن أبي ربيعة فقال:
فلما تفاوضنا الحديث وأسفرت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
12
وقربن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
فهن جميعا مزهوات بجمالهن، حريصات على أن يشهدن أثره ويسمعن حديثه، مشغولات بجده ولهوه، في عزة تتفاوت بين الصلف وبين تقريب أسباب الهوى لمن يحسن الاقتراب ويتجنب الارتياب.
فمن الطبيعي أن ينشأ الغزل في هذه البيئة التي تغري فيها المرأة بالغزل وتصغي إليه.
ومن الطبيعي أن ينشأ الشعراء الغزلون الذين يوافقون هذه البيئة من طرفيها، بين جد وشغف، وبين لهو وتزجية فراغ.
وقد التفت إلى حديث المرأة كثير من الشعراء في ذاك العصر وفي تلك البيئة غير عمر بن أبي ربيعة، وعلى غير طريقته ومنحاه، فكانوا على الجملة مدرستين مختلفتين في النزعة والسليقة وجوهر العاطفة، وإن تشابهتا في ظاهر المعنى وظاهر الحنين والشكوى.
إحدى هاتين المدرستين هي مدرسة الشعراء الذين اشتهروا بحب امرأة واحدة كما اشتهر قيس بليلى، وعروة بعفراء، وجميل ببثينة، وكثير بعزة، وتوبة بليلى.
والمدرسة الأخرى هي مدرسة الشعراء الذين تغزلوا بأكثر من امرأة واحدة أو اشتهروا بحب النساء عامة، كعمر والأحوص والعرجي وقيس الرقيات.
والفرق - كما أسلفنا - بعيد بين العاطفة التي توحي شعر المدرسة الأولى والعاطفة التي توحي شعر المدرسة الأخرى؛ لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمنا طويلا أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء، ويصح أن يقال إن هذه العلاقة «إصابة حب» كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان، فتطول أو لا تطول، وتصيبه وهو مستعد لها، أو تصيبه على غير استعداد. فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة وحادث من عوارض الأحداث.
أما حب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع، ولو لم يتصل بنساء معروفات، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات.
فالرجل المغرم بحديث النساء ومجالستهن ومناوشتهن يقصد الجنس ولا يقصد الشخصية، ويستطيع أن يرضي شعوره هذا دون أن يتقيد بأخلاق الوفاء وآداب العشق وخصال التضحية والصبر والتعذيب النفسي، الذي لا معنى له عند من يتحدث اليوم إلى امرأة أو نساء كثيرات متجمعات، ويتحدث غدا إلى امرأة أخرى أو نساء كثيرات أخريات.
أما الرجل الذي «يفرز» بحبه امرأة دون غيرها ففي نفسه عوامل أدبية وعهود أخلاقية وبواعث روحية لا موضع لها في الحالة السابقة ولا حاجة إلى التعبير عنها في شعر الغزلين المولعين بجميع النساء، إلا على سبيل التجمل بالمحاكاة.
فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الجنس ومقاييس الأخلاق، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه.
ولا يقدح فيما تقدم من التفريق أن بعض العشاق يخون وأن بعض اللاهين بالغزل يعشقون، فقد علمنا أن يزيد بن الطثرية أحب امرأة حتى أشرف على الهلاك، وأن عمر تزوج ببعض من كان ينسب بهن. كما علمنا أن كثيرا امتحن في حبه فظهر غدره وقلة وفائه، وهذا وذاك جائزان في الطبائع الآدمية ولكنهما لا ينقضان الحقيقة التي لا جدال فيها، وهي أن طبيعة العشق غير طبيعة اللهو والغزل، وأن نفس الرجل الذي يعشق امرأة واحدة غير نفس زير النساء المشغوف بالسمر الأنثوي والمناوشة الجنسية. كالفندق يتفق في أيام أن ينفرد بالإقامة فيه نازل واحد، وكالبيت يتفق في أيام أن ينزل فيه ضيوف كثيرون، ولكن هذا لا يمنع أن الفندق غير البيت وأنهما يختلفان في البناء والتأثيث والإدارة والغرض والمعاملة، وأن التشابه بينهما من المصادفات وليس من النظام المطرد في جميع الأحوال.
إن العاشق الذي يخون حبيبته لا يشبه زير النساء الذي يتصل بنساء كثيرات؛ لأن خيانة العاشق المفرد معناها أنه مطالب بالوفاء والعكوف على حب امرأة واحدة فإذا خان هذه المرأة الواحدة لم يصبح زير نساء بل أصبح عاشقا مخلا بالوفاء.
أما الآخر الذي يتصل بنساء كثيرات فلا يقال فيه إنه مخل بالوفاء ولا يواجه المرأة بالعاطفة التي تقبل الوفاء. فهما في صميم الاستعداد مختلفان، وإن كانا في ظاهر الفعل متشابهين. •••
وقد كان عمر بن أبي ربيعة إمام مدرسة اللاهين بالغزل غير مدافع، أو كان أصلح زملائه لإتقان هذه الصناعة؛ لأنه كان على يسار يعينه على اللهو والفراغ، وكان على وسامة مقبولة وشأن يرفع من شأن غزله في قلوب النساء، وكان للوراثة دخل في غزله إذا صح ما قيل في ترجمة حياته إن أمه «كانت أم ولد يقال لها مجد سبيت من حضرموت أو من حمير، ومن هناك أتاه الغزل إذ يقال غزل يمان ودل حجازي...» وقد تقدم من وصف غزل اليمانية في بدوهم وحضرهم ما يزكي هذه الملاحظة ويعززها. فإذا نحن أضعفنا قول القائلين بانتقال الأخلاق من الأمهات إلى الأبناء من طريق الوراثة وهو غير ضعيف في حكم العلم ولا في حكم التجربة؛ فليس في وسعنا أن نضعف القول بتأثير العادة وانتقال الأخلاق من طريق الملازمة والمشاهدة.
وربما رشحه للسبق في هذه الصناعة جانب أنثوي في طبعه يظهر للقارئ من أبياته الكثيرة، التي تنم على ولع بكلمات النساء واستمتاع بروايتها والإبداء والإعادة فيها، مما لا يستمرئه الرجل الصارم الرجولة. وأدل من ولعه بكلمات النساء على الجانب الأنثوي في طبعه أنه كان يشبههن في تدليل نفسه وإظهار التمنع لطالباته كما يبدو من قوله:
قالت ثريا لأتراب لها قطف
13
قمن نحيي أبا الخطاب عن كثب
فطرن حدا لما قالت وشايعها
مثل التماثيل قد موهن بالذهب
أو كما يبدو من قوله الذي عيره به كثير في بعض الروايات، وهو:
قومي تصدي له ليبصرنا
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى
ثم اسبطرت تمشي على أثري
قالت لها أختها تعاتبها
لا تفسدن الطواف في عمر
وصدق كثير حيث قال: «أتراك لو وصفت بهذا الشعر هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت لها وقلت الهجر.»
ولعل جانب الأنوثة فيه لا يظهر من شيء كما يظهر من تدليل اسمه بين تلقيب وكناية وتسمية كما يعهد في أحاديث النساء، فهو تارة أبو الخطاب وتارة المغيري وتارة عمر الذي لا يخفى كما لا يخفى القمر، وأشباه هذه الأنثويات التي يقارب بها المرأة في المزاج ويسايرها في الحديث.
ومن قبيل هذه الأنثويات أنه كان يقول: «لقد كنت وأنا شاب أعشق ولا أعشق، فاليوم صرت إلى مداراة الحسان إلى الممات. ولقد لقيتني فتاتان مرة فقالت لي إحداهما: ادن مني يا ابن أبي ربيعة أسر إليك شيئا، فدنوت منها ودنت الأخرى فجعلت تعضني، فما شعرت بعض هذه من لذة سرار هذه.»
وهذا حديث من هو عاشق لنفسه قبل أن يكون معشوقا لغيره؛ ففيه خليقة المرأة أن تشعر بجنسها مطلوبة ولا تشعر بجنسها طالبة، وما من شاب يبلغ من العمر أن تعشقه المرأة إلا قد بلغ من العمر أن يعشقها ما لم يمنعه مانع من عرف أو زهادة، فإن لم يكن هذا المانع ففي انتظاره أن يطلب معشوقا قبل أن يطلب عاشقا أنثوية لا ترضاها طبائع الفحول. •••
على أن ابن أبي ربيعة كان من «الطبقة الاجتماعية» التي ينتمي إليها ظريفات المجالس اللائي يدور الحديث عليهن ومنهن في تلك الآونة، فكان أقرب إلى معرفتهن وحكاية أحاديثهن والحظوة عندهن والتوسل إلى مرضاتهن من سائر الشعراء الغزلين من غير هذه الطبقة الاجتماعية، وينبغي أن نذكر هنا أن المسألة لم تكن عند ابن أبي ربيعة مسألة النساء أو مسألة الأنثى على تعميمها، وإنما كانت مسألة المرأة من طبقة واحدة هي طبقة بنات الأسر المنعمات اللاهيات بمجالس السمر ومساجلات الغزل عن كل شاغل. فلم يتفق مرة أن شبب بامرأة فقيرة كما يتفق لمن يشغل بالمرأة لأنها امرأة أو لأنها من جنس الإناث، ولكنه كان يحرص على ذكر الخدم والحشم وآثار النعمة والترف كأنه مطالب بإثبات الغنى واليسر لمن يتغزل بهن، ومن ذلك قوله:
ومد عليها السجف يوم لقيتها
على عجل تباعها والخوادم
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا
عشية راحت كفها والمعاصم
معاصم لم تضرب على البهم في الضحى
عصاها ووجه لم تلحه السمائم
يعني أنها ليست براعية ولا رائدة تتعرض للسمائم وهي تسوق الضأن في البادية.
ومنه قوله:
يرفلن في مطرفات السوس آونة
وفي العتيق من الديباج والقصب
ترى عليهن حلي الدر متسقا
مع الزبرجد والياقوت كالشهب
ومنه قوله:
فقامت إليها حرتان عليهما
كساءان من خز دمقس وأخضر
ومنه قوله:
نواعم قب بدن صمت البرى
14
ويملأن عين الناظر المتوسم
ومنه قوله:
وترى النسوان إن قا
مت وإن قمن خشوعا
وهو معنى شائع في جميع وصفه يكاد لا ينساه في صفة امرأة واحدة من صاحباته.
وعلى هذا لم يكن ابن أبي ربيعة معنيا بامرأة واحدة شأن العاشق، ولا بالنساء؛ حيث كن شأن المغرم بالنساء عامة، وإنما كان معنيا بالمرأة من بنات طبقة خاصة هي الطبقة التي ينتمي إليها. فلا جرم يبرع غيره في مدرسة الشعر التي تدور قبل كل شيء على أحاديث الظريفات، ويحظى عندهن في مجال لم يكن إلا مجال المناوشة بالأحاديث.
فليس في شعره كله بيت يدل على سطوة رجل يروع الأنثى بما تميل إليه فطرتها من مظاهر البأس والغلبة، أو يدل على سحر جمال يأخذ المرأة ولو لم يسبقه حديث، وإنما يدل شعره كله على لباقة المتحدث وطرافة المسامر وأناقة الظريف المعروف بوسامته وشارته وردائه:
قالت أبو الخطاب أعرف زيه
وركوبه لا شك غير مراء!
وكل ما في شعره من معرفة بطبع المرأة فإنما هو مقصور على الجانب الذي يتناوله المناوش اللبق ليثير اهتمامها تارة بحب الثناء، وتارة بالإعراض أو تحريك الغيرة أو لغو الفضول.
فقوله في الدالية المشهورة:
ولقد قالت لجارات لها
ذات يوم وتعرت تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها
حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
هو رواية صادقة أو تخيل صحيح لمثل هذه الواقعة، ويماثله قوله وقد أبلغت صاحبته أنه تزوج:
خبروها بأنني قد تزوج
ت فظلت تكاتم الغيظ سرا
ثم قالت لأختها ولأخرى
جزعا، ليته تزوج عشرا
وأشارت إلى نساء لديها
لا ترى دونهن للسر سترا
ما لقلبي كأنه ليس مني
وعظامي إخال فيهن فترا
من حديث نمى إلي فظيع
خلت في القلب من تلظيه جمرا
فهو كذلك رواية صادقة لما تقوله المرأة التي يبلغها زواج صاحبها لجاراتها ولذوات السر عندها.
وهكذا قوله:
واشتكت شدة الإزار من البه
ر وألقت عنها لدي الخمارا
حبذا رجعها إليها يديها
في يدي درعها تحل الإزارا
وهكذا سائر أقواله في هذه الأغراض. غير أنها جميعا لا تنبئ بشيء يخفى على ظرفاء المجالس وحذاق المناوشين بالكلام، ولا تنطوي على شيء من نقائض طبع المرأة وألغاز سريرتها ودخائل أشجانها وأفراحها، فعلم ذلك لم يكن قط من علم مجالس السمر ومناوشات الحديث.
إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها؛ لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها وتتقلب هواجسها وخواطرها. هذا يرى أثر الرجل في طبع المرأة فيعرفه، وذاك يعرف ما في طبعها؛ لأن الطبعين غير مختلفين في جملة الشعور.
والمرأة تألف أحاديث هؤلاء اللاهين الغزلين وتفضلها على أحاديثها مع بنات جنسها؛ لأنها تستحضر بها شعور المماثلة وشعور المناقضة في وقت واحد، وهو شعور لا تستحضره في مثيلاتها ولا في مجلس الرجل الذي تجاوبه مجاوبة الإناث للذكور وتكون معه مأخوذة من أعماق طبيعتها مشغولة عن مناوشات الحديث.
ومن الواضح أننا أردنا بصدق ابن أبي ربيعة في الرواية عن المرأة صدق الرواية الفنية ولم نتجاوزه إلى البحث في صدق الرواية الخبرية وبيان ما حدث وما لم يحدث من أخباره في جميع شعره، فهو لا يقدم ولا يؤخر فيما نحن بصدده.
وحسبنا أنه تخيل فأصاب التخيل، وأنه عاش زمنا على النحو الذي وصفه ببعض قصائده، وما من شك بعد ذلك في أنه قد اعتمد على الخيال كثيرا ونزع منزع القصاصين كثيرا، وأضاف من عنده ما لم يرد على لسان صاحبة له ولا صاحب ممن أسند إليهم الكلام والحوار.
وقد سره هو أحيانا أن يفهم الناس أنه يقول ما لا يفعل وأنه داخل في حكم القرآن الكريم على الشعراء عامة: أنهم يقولون ما لا يفعلون؛ فذلك أسلم له وأليق بالسمت الذي كان يتخذه بين ذوي الوقار حين يقول: إنه يتجنب المحظورات.
قيل في سيرته: إن سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كانت جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر يطوف بالبيت فأرسلت إليه فقالت حين جاءها: ما لي أراك يا ابن أبي ربيعة سادرا في حرم الله؟ ويحك أما تخاف الله؟ ويحك إلى متى هذا السفه؟ فقال: أي هذه! دعي عنك هذا من القول، أما سمعت ما قلت فيك؟ قالت: لا. فأنشدها البائية التي يقول فيها:
ردع الفؤاد بذكرة الأطراب
وصبا إليك ولات حين تصاب
إن تبذلي لي نائلا يشفى به
سقم الفؤاد فقد أطلت عذابي
وعصيت فيك أقاربي فتقطعت
بيني وبينهم عرى الأسباب
وتركتني لا بالوصال ممتعا
يوما ولا أسعفتني بثواب
فقعدت كالمهريق فضلة مائه
في حر هاجرة للمع سراب
يشفى به منه الصدى فأماته
طلب السراب ولات حين طلاب
قالت سعيدة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم نجزه
فيما أطال تصيدي وطلابي
كانت ترد لنا المنى أيامنا
إذ لا نلام على هوى وتصاب
خبرت ما قالت فبت كأنما
رمي الحشا بنوافذ النشاب
أسعيد ما ماء الفرات وطيبه
منا على ظمأ وحب شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما
ترعى النساء أمانة الغياب
فلما فرغ من إنشاده قالت له: أخزاك الله يا فاسق! ما علم الله أني قلت مما قلت حرفا، ولكنك إنسان بهوت.
فهذه قصة طويلة عريضة تقاس بها مثيلاتها، ولعل ادعاءه في غير هذه القصة أقرب إلى البهت وأدنى إلى التخيل؛ لأنه يضع الغزل والشكوى على لسان سيدة حصان تخاطبه بالوعظ والنصيحة. فما أحراه أن يخلق الغزل على من يظن بهن الخوض فيه والحنين إليه!
ويخيل إلينا أن كثيرا من الحسان اللائي كن يتصدين له ويشجعنه على التغزل بهن ونظم القصائد في وصفهن إنما كن يفعلن ذلك إرضاء لغرورهن وتنويها بجمالهن وحبا للتحدث بأخبارهن، ولا سيما المقبلات في الحج من بلاد غير بلاد الحجاز. فقد كان يرضيهن - ولا ريب - أن يرجعن إلى بلادهن بأبيات تتساير بها الركبان ويفهم منها الأتراب المنافسات أنهن ذهبن إلى الحجاز فخلبن ألباب رجاله وأطلقن ألسنة شعرائه وصرفنهم عن الغزل بحسانه، وقل في الحسان من ليست تغتر بمثل هذا الغرور في زمان عمر، وفي كل زمان.
ومن أمثلة ذلك قصة العراقية التي رواها صاحب «الأغاني»؛ حيث يقول:
بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى امرأة من أهل العراق فأعجبه جمالها، فمشى معها حتى عرف موضعها، ثم أتاها فحادثها وناشدها وناشدته وخطبها، فقالت: إن هذا لا يصلح ها هنا. ولكن إن جئتني إلى بلدي وخطبتني إلى أهلي تزوجتك. فلما ارتحلوا جاء إلى صديق له من بني سهم وقال له: إن لي إليك حاجة أريد أن تساعدني عليها. فقال له: نعم. فأخذ بيده ولم يذكر له ما هي، ثم أتى منزله فركب نجيبا له وأركبه نجيبا آخر، وأخذ معه ما يصلحه وسارا لا يشك السهمي في أنه يريد سفر يوم أو يومين، فما زال يحفد حتى لحق بالرفقة، ثم سار بسيرهم يحادث المرأة طول طريقه ويسايرها وينزل عندها إذا نزلت حتى ورد العراق. فأقام أياما ثم راسلها يتنجزها وعدها، فأعلمته أنها كانت متزوجة ابن عم لها، وولدت منه أولادا، ثم مات وأوصى بهم وبماله إليها ما لم تتزوج، وأنها تخاف فرقة أولادها وزوال النعمة، وبعثت إليه بخمسة آلاف درهم واعتذرت، فردها عليها ورحل إلى مكة وقال في ذلك قصيدته التي أولها:
نام صحبي ولم أنم
من خيال بنا ألم
إلى آخر هذه القصيدة.
فهذه الحسناء العراقية لم ترد حبا ولا زواجا ولا متعة حديث، ولكنها أرادت أن يشتهر بين الناس أنها أزعجت شاعر الغزل في الحجاز عن وطنه حتى لحق بها وتمنى زواجها فلم تجبه إلى مناه، وهذا الذي صنعته الحسناء العراقية تصنعه الحسان الحجازيات اللائي يأبين السكوت عنهن إن كان معنى هذا السكوت أنهن أقل جمالا وفتنة ممن نظم فيهن الغزل وجرى بوصفهن الحديث. فيتصدين للغزل ولا يتجاوزن به هذه الملهيات أو هذه المناوشة، وإن طاب للشاعر أن يصرف هذا التصدي إلى غير معناه، وأن يرضي به غروره هو كما أرضين غرورهن به من ناحيتهن. •••
وشبيه بالبحث في صدق أخباره بحثنا هنا في صدق توبته وسبب تلك التوبة، فهل تاب؟ ولم تاب؟ أتاب إيثارا للهدى؟ أخوفا من السلطان؟ أيأسا من الغواية بعد إدبار الشباب؟ أحبا للمال الذي وعده أخوه أن يجريه عليه إذا هو أقلع عن الغزل والتشبيب؟
بحث ذلك نافع في استقصاء سيرته وأخلاقه، ولكنه لا يلزمنا هنا في تحليل معانيه والنفاذ إلى حقيقة غزله وأسلوب فنه ودخيلة مزاجه وطبعه، وما يستطيع إنسان أن يتوب عن المزاج والطبع وإن تاب عن بعض الأفعال أو بعض الأقوال، فسيبقى كما خلق لا يبدل شيئا من خلائقه إلا ما يستطاع فيه التبديل.
قال مولى لعمر: «كنت مع عمر وقد أسن وضعف، فخرج يوما يمشي متوكئا على يديه حتى مر بعجوز جالسة فقال: هذه فلانة! وكانت إلفا له. فعدل إليها فسلم عليها، وجلس عندها وجلس يحادثها. ثم قال: هذه التي أقول فيها:
ما زال طرفي يحار إذ برزت
حتى التقينا ليلا على قدر
فأطلعت رأسها إلى البيت وقالت: يا بناتي هذا أبو الخطاب عمر بن أبي ربيعة عندي، فإن كنتن تشتهين أن ترينه فتعالين! فجئن إلى مضرب قد حجزن به دون بابها، فجعلن يثقبنه ويضعن أعينهن عليه يبصرن، فاستقاها عمر. فقالت له: أي الشراب أحب إليك؟ قال: الماء! فأتي بإناء فيه ماء، فشرب ثم ملأ فمه فمجه عليهن وفي وجوههن من وراء الحاجز، فصاح الجواري وتهاربن وجعلن يضحكن. فقالت العجوز: ويلك! لا تدع مجونك وسفهك مع هذه السن! فقال: تلوميني؟! فما ملكت نفسي لما سمعت من حركتهن أن فعلت ما فعلت ...»
والمزاح الذي أشرنا إليه آنفا كما تدل عليه هذه القصة هو موقع الاستشهاد، فهو مزاج رجل لا يسلو معابثة النساء ولا يملك أن يستعصم من التصابي حيث تستغويه دواعيه. فالقصة على هذا النسق ترجمان ذلك المزاج المعروف في الشيوخ المتصابين، إن صحت فهي خبر صادق، وإن لم تصح فالتصابي في الشيوخ من أشباه عمر بن أبي ربيعة صحيح؛ لأنه لا يبطل ببطلانها ولا يعتمد في وجوده عليها. (4) صناعته
ابن أبي ربيعة من أحسن النماذج الأدبية التي يتجلى فيها الفرق بين الإمامة في الطريقة الشعرية والإمامة في الصناعة الشعرية.
فقد يكون الشاعر أصلح الناس لتمثيل طريقة أو مدرسة من مدارس الشعراء المختلفة، ولكنه لا يكون مع ذلك إماما في صناعة النظم وصياغة القصيد.
وقد كان شاعرنا بمولده ومزاجه ومعيشته وبيئته وشارته أصلح من يمثل شعراء عصره المشهورين بالغزل في أكثر من امرأة واحدة والولع بمجالسة النساء، ولكنه في اعتقادنا لم يكن أفضلهم نظما ولا أبرعهم قصيدا، ولا أقدرهم صناعة، على إجادته الموفقة في أبيات ومقطوعات.
وقد كثرت الشهادات له في عصره ممن تروى عنهم الشهادة للشعراء ويسمع لهم رأي في المفاضلة بين ضروب الكلام. فكانت مشيخة من قريش لا تعدل بشعره شعرا قط وقد تستحسن منه ما يقبح من غيره، وكان بعضهم يزعم أن «العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به حتى كان عمر بن أبي ربيعة فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها شيئا».
وروي عن نصيب أنه تكلم عن عمر بن أبي ربيعة فقال: «هو أوصفنا لربات الحجال.»
وروي عن الفرزدق أنه سمع طرفا من نسيبه فقال: «هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه.»
وإنه اجتمع به فما زال عمر ينشده وهو يطرب ويستزيد حتى أنشده القصيدة التي يقول فيها:
فقمن لكي يخليننا فترقرقت
مدامع عينيها وظلت تدفق
وقالت: أما ترحمنني! لا تدعنني
لدى غزل جم الصبابة يخرق
فقلن اسكتي عنا فلست مطاعة
وخلك منا - فاعلمي - بك أرفق
فصاح الفرزدق: أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس.
وكان جرير على ما زعم الرواة يسمع شعر ابن أبي ربيعة فيقول: «هذا شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد.» فأنشدوه يوما من كلامه:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى، وأما بالعشي فيخصر
قليلا على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
فقال: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر وأنشدوه مرة من كلامه:
سائلا الربع بالبلي
15
وقولا
هجت شوقا لي الغداة طويلا
أين حي حلوك إذ أنت محفو
ف بهم آهل أراك جميلا
قال ساروا فأمعنوا واستقلوا
وبرغمي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمنا مقاما
وأحبوا دماثة وسهولا
فقال جرير: «إن هذا الذي كنا ندور عليه فأخطأناه وأصابه هذا القرشي.»
ومما نسب إلى جرير أيضا أن رجلا من أبناء المدينة استنشده فلم يجبه وقال: «إنكم يا أهل المدينة يعجبكم النسيب، وإن أنسب الناس المخزومي.»
وسئل حماد الراوية عن شعره فقال: «ذلك الفستق المقشر!»
فهذه الشهادات وأمثالها تدل على شيء واحد لا تعدوه، وهو الشهرة بالنسيب بين أبناء عصره، ولكنها لا تؤخذ مأخذ الجد ولا تصمد على المناقشة في معرض النقد الصحيح، وأولها ما روي عن فحول الشعراء من معاصريه كجرير والفرزدق ونصيب؛ لأن الشعر الذي زعموا أنه أرغمهم على الشهادة لعمر وتفضيله عليهم ليس مما يرغم المكابر ولا المنافس ولا المنصف الخلي من الغرض، إن شاء أن ينكره ولا يعترف بتفضيل، فإن كان الاعتراف بالتفضيل مجاملة ومسايرة للمحادث فليس هو إذن بالنقد الذي يؤخذ به في تمحيص الأقدار وموازنة الأشعار.
ويساوي هذه المجاملة في قيمة الشعر قولهم: إن العرب أنكرت على قريش الشعر حتى ظهر ابن أبي ربيعة فاعترفت لهم به وكفت عن المنازعة.
فمتى حصل ذلك؟ وكيف كان حصوله؟ في أي مؤتمر وفي أي محضر؟ وعلى أي صورة تبين الإنكار والمنازعة ثم تبين الاعتراف والتسليم؟ لا مؤتمر ولا محضر ولا إشهاد بإنكار ولا بتسليم. وهذا فضلا عن تكرر هذه الشهادات من هؤلاء الشاهدين أنفسهم لشعراء آخرين غير عمر بن أبي ربيعة وبعضهم من معاصريه. فمشيخة قريش التي تقدم ذكرها هي بعينها التي روى صاحب الأغاني عنها في ترجمة «الغريض» أنها اتفقت على اختيار ابن قيس الرقيات شاعرا لقريش في الإسلام، ونصيب هو الذي قال كما روى صاحب الأغاني أيضا: «لقد نحت (جميل) للناس مثالا يحتذون عليه. أما أصدقنا في شعره فجميل وأما أوصفنا لربات الجمال فكثير، وأما أكذبنا فعمر بن أبي ربيعة، وأما أنا فأقول ما أعرف ...»
فأمثال هذه الشهادات كلام يقال ولا محصول له، إلا أن الشاعر مشهور مشهود له بالتفوق في بابه بين جمهرة عارفيه، ولا غنى عن الرجوع إلى الشواهد عند تقدير هذه الشهادة وتقويمها بما يثبت لها من قيمة صحيحة.
ومحصل هذه القيمة كما تدل عليه الشواهد من أقوال الرجل وملكاته أنه كان بمولده ومزاجه ومعيشته وبيئته وشارته أصلح الشعراء في عصره لإمامة هذه الطريقة، التي فرغ لها وتقدم فيها، وأنه يأتي بالروائع بين الشعراء، لما يبدو عليه في أكثر كلامه من الفتور والإعياء.
فمن روائعه التي جرت مجرى الأمثال، قوله في بيان أقصى مدى الحب:
حبكم يا آل ليلى قاتلي
ظهر الحب بجسمي وبطن
ليس حب فوق ما أحببتكم
غير أن أقتل نفسي أو أجن
وقوله:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
وقوله:
وذو الشوق القديم وإن تعزى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وله وصف حسن كما قال:
أبت الروادف والثدي لقمصها
مس البطون وأن تمس ظهورا
ووصف جوادا مجهدا فأبدع حيث قال:
تشكى الكميت الجري لما جهدته
وبين لو يسطيع أن يتكلما
إلا أن الأكثر من شعره يبدو عليه الجهد والإعياء في تقويم البيت والوصول به إلى القافية، وأمثلة ذلك كثيرة منها:
فقامت ولم تفعل ونامت فلم تطق
فقلت لها قومي فقالت ولم لم
تبن غير أن قد أومأت فعهدتها
كشارب مكنون الشراب المختم
فكرر «لم» لغير موجب غير حرج القافية، وفرق بينها وبين الفعل الذي تنفيه في بيتين وهو لا يساغ.
ومنها:
مرحبا ثم مرحبا بالتي قا
لت غداة الوداع يوم الرحيل
للثريا قولي له أنت همي
ومنى النفس خاليا والجليل
أي وأقسم بالجليل، واضطرار الشاعر هنا ظاهر لإتمام البيت فضلا عن وصل البيتين.
ومنها:
ألم تعلمي أني، فهل ذاك نافع
لديك وما أخفى من الوجد أفضل
أرى مستقيم الطرف ما أم نحوكم
فإن أم طرفي غيركم فهو أحول
أراد أن يقول: «ألم تعلمي أني أرى مستقيم الطرف ... إلخ» فغلبه النظم وجاء بذلك الكلام المعترض الذي كان يحسن أن يتأخر أو يقدم.
وقلما تعرف له قصيدة لا يضطر فيها إلى تحويل الضمير من المؤنث إلى الجمع، ومن المخاطب إلى الغائب في البيت الواحد لضرورة الوزن ليس إلا كما قال:
يا سكن حبك إذ كلفت بحبكم
عرضا أراه ورب مكة ممرضي
أو كما قال:
يا ربة البغلة الشهباء هل لكم
أن ترحمي عمرا لا ترهقي حججا
وذلك في شعره كثير جدا لا فائدة من إحصائه.
وهو يخطئ قواعد اللغة لضرورة الوزن والقافية كما قال:
من ذا «يلمني» إن بكيت صبابة
أو نحت صبا بالفؤاد المنضج
و«من» هنا لا تجزم «يلوم».
أو كما قال:
فقلت لهم كيف الثريا هبلتم
فقالوا ستدري ما مكرنا وتعلما
أو كما قال:
فهلا «تسألي» أفناء سعد
وقد تبدو التجارب للبيب
والصواب «تسألين»؛ لأن «هلا» لا تجزم الفعل المضارع.
إلى نظائر لهذه الأخطاء والعثرات لا تراها على كثرة في كلام أمراء الصناعة.
فربما كثر الرديء في أشعارهم وأربى على الجيد في معظم الأحيان، ولكن الإتيان بالرديء غير الإعياء الذي يكشف مدى الطاقة وينم على الفاقة؛ فقد يلبس الرجل الثياب الغالية والثياب الرخيصة دواليك، فلا يدل ذلك على فقره كما يدل عليه لباس فاخر فيه رقعة، وإن لم يكن في ملبسه ثوب رخيص.
ويبدو لنا أن ضعف صناعته من ضعف اطلاعه على شعر المجيدين إلا ما كان يسمعه ويسمعه غيره من شعراء زمانه، ولعله كان ينجو من بعض هذا الضعف في الصناعة لو وفر حظه من الاطلاع والرواية؛ لأنه كان على ذوق حسن في الإعجاب بالجيد من الكلام، كما يظهر من أخباره القليلة في النقد والتعليق على الشعر الذي يسمعه من رواته.
قال عثمان بن إبراهيم الخاطي: «أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين وهو في مجلس قومه بني مخزوم، فانتظرت حتى تفرق القوم ثم دنوت منه ومعي صاحب لي ظريف، وكان قد قال لي: تعال حتى نهيجه على ذكر الغزل فننظر هل بقي في نفسه منه شيء؟ فقال له صاحبي: يا أبا الخطاب يكرمك الله. لقد أحسن العذري وأجاد فيما قال. فنظر عمر إليه ثم سأله: وماذا قال؟ فأنشده:
لو جذ بالسيف رأسي في مودتها
لمر يهوي سريعا نحوها راسي
فارتاح عمر إلى البيت وقال: هاه! لقد أجاد وأحسن ... فقلت: ولله در جنادة العذري. فقال عمر: حيث يقول ماذا ويحك؟ فأنشدته:
سرت لعينك سلمى بعد مغفاها
فبت مستنبها من بعد مسراها
وقلت أهلا وسهلا من هداك لنا
إن كنت تمثالها أو كنت إياها
من حبها أتمنى أن يلاقيني
من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له
وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها
ولو تموت لراعتني وقلت ألا
يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها
فضحك عمر ثم قال: وأبيك لقد أحسن وأجاد وما أبقى ...»
فهو قمين أن يكثر من الإجادة لو أكثر من الاستجادة وأن يقوم من صناعته لو نظر في صناعات المقتدرين من صاغة القريض، ولكنه - كما يبدو من أخباره ومن كلامه - كان معكوفا على نفسه راضيا بما يصل إلى سمعه في غير ما جهد ولا متابعة.
ومن ثم كان إمام مدرسة ولم يكن إماما في صناعة القصيد، وكانت مدرسته فذة في الأدب العربي بأسره؛ لأنها مدرسة لا يسهل على العقل أن يتخيل نظيرها كثرة وشيوعا في غير الحجاز وفي غير تلك الآونة؛ إذ هي تحتاج إلى بيئة وسط بين البادية والحضر، ووسط بين الجاهلية المولية وآداب الإسلام المقبلة، ووسط بين شواغل العاصمة التي فيها الملك والدولة، وشواغل المدينة الصحراوية القاصية التي لا يبلغها شيء من ذلك، ووسط بين حالة مكة في عهد النبي والخلفاء الراشدين، وحالتها في عهد الأمويين والعباسيين، وما بعد ذلك من أيام اقتصر شأنها فيها على منسك الحج من العام إلى العام.
وهل كانت مدرسة كمدرسة ابن أبي ربيعة وزملائه تنشأ في بغداد أو في القاهرة أو في عواصم الأندلس، وفيها الإباحة المكشوفة، أو فيها الشواغل للرجال والنساء، غير عقد المجالس في الخلوات وتبادل الأحاديث؟
أو هل كانت مدرسة كمدرسة ابن أبي ربيعة تنشأ في مكة نفسها بعد مائة عام، وليس فيها حياة مدنية تحتمل إقامته وإقامة أمثاله وأمثال صاحباته، ولا حياة أدبية يترجم عنها الشعراء؟
فابن أبي ربيعة هو ابن الحجاز، وابن العصر، وابن البيئة التي ترجمها، فأحسن الترجمة، ثم عاش بهذه المزية بين شعراء العربية. •••
وللحكم على صناعة ابن أبي ربيعة وجه آخر التفت إليه العصريون مذ شاعت القصة بينهم نظما ونثرا وكثر التفاتهم إليها، فرأى بعض النقاد أن الشاعر قد أبدع فن القصة المنظومة أو أكثر منها إكثارا لم يؤثر عن شاعر قبله، وهذا صحيح إذا أردنا الإكثار دون الإبداع والاختراع، وأردنا «الحوار القصصي» ولم نرد القصة بمعناها الشامل الوافي ولو كانت أقصوصة وجيزة. فالقصة شيء والحوار الذي يرد خلال القصة شيء آخر، ومن قال لنا إنني ذهبت إلى فلانة فقلت لها وقالت لي، وبكت وبكيت، فقد روى لنا منظرا قصصيا يدخل في حكاية مستوفاة العرض والوصف والملاحظة والحوار، ولكن ابن أبي ربيعة لم يكن يتوخى هذا الاستيفاء، أو يتجاوز الحوار القصصي إلى ما وراءه من التخيل والتمثيل، وتهيئة القالب النفسي الذي يتركب فيه الحوار بالكلام. وإن فعل ذلك فإنما يفعله مسوقا إليه بحواره وسرده، ولا يزال بين هذا وبين فن القصة بون بعيد، فإنما هذا من فن «الحديث المنظوم» وليس من فن القصة كما يتخيلها المطبوعون عليها. ولا نزاع في قدرة ابن أبي ربيعة على الحديث المنظوم، فهو في هذا الجانب من صناعته قليل النظير. (5) مقارنة
قال أبو غسان دماذ: «سألت أبا عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهدي بشارا عن ذكر النساء قال: كان أول ذلك استهتار نساء البصرة وشبانها بشعره حتى قال سوار بن عبد الله الأكبر ومالك بن دينار: ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى. وما زالا يعظانه.» «وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلما كثر ذلك وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي، وأنشد المهدي ما مدحه به نهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب، وكان المهدي من أشد الناس غيرة.»
قال أبو غسان: «فقلت لأبي عبيدة: ما أحسب شعر هذا أبلغ في هذه المعاني من شعر كثير وجميل وعروة بن حزام وقيس بن ذريح وتلك الطبقة، فقال: ليس كل من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشار يقارب النساء حتى لا يخفى عليهن ما يقول وما يريد، وأي حرة حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها؟ فكيف بالمرأة الغزلة والفتاة التي لا هم لها إلا الرجال؟ ثم أنشد قصيدته:
قد لامني في خليلتي عمر
واللوم في غير كنهه ضجر
إلى قوله:
حسبي وحسب الذي كلفت به
مني ومنه الحديث والنظر
ثم قوله على لسان صاحبته:
انهض فما أنت كالذي زعموا
أنت وربي مغازل أشر
قد غابت اليوم عنك حاضنتي
والله لي منك فيك ينتصر ... ... ... ... ... ... ... ...
أقسم بالله لا نجوت بها
فاذهب فأنت المساور الظفر
كيف بأمي إذا رأت شفتي
أم كيف إن شاع منك ذا الخبر
إلى آخر القصيدة.
ثم قال أبو عبيدة: بمثل هذا الشعر تميل القلوب ويلين الصعب.» •••
وفي هذه المساجلة بين أبي غسان وأبي عبيدة
16
مجال واسع للبحث في طريقتي الغزل والعشاق من أمثال كثير وجميل وعروة وقيس وإخوان تلك الطبقة.
فهذه المساجلة تبين لنا قبل كل شيء مبلغ الحاجة إلى التفرقة بين هاتين المدرستين؛ لالتباس الأمر بينهما حتى على الفحول من الرواة وعلماء الأدب في العصر العباسي كأبي عبيدة وتلاميذه.
فأبو غسان قد حسب أن الشعر الذي يذكر فيه النساء كله غزل لا فرق فيه بين كثير وقيس وبين بشار ومن حذا حذوه.
وأبو عبيدة يكاد يماثله في هذا الاعتقاد؛ لأنه حسب أن الخطر من شعر بشار إنما يأتي من فهم النساء شعره وقلة فهمهن أشعار العشاق من أمثال كثير وعروة وقيس وجميل.
والواقع غير ذلك كما يتبين من المقابلة بين الطريقتين.
الواقع أن الخليفة «المهدي» كان أفطن إلى الفرق بين الطريقتين؛ لأنه اعتمد على حسه وعلى المشاهدة ولم يعتمد على العناوين الأدبية التي يعرفها الرواة وعلماء اللغة، فيجعلون الغزل كلاما يتساوى فيه كل شعر يرد فيه التشبيب ووصف الحسان.
فالمهدي نهى بشارا عن غزله ولم ينه أحدا عن رواية قصائد العشاق من الشعراء الذين أشرنا إليهم؛ لأنه أحس الفرق بين الشعرين وأدرك على البديهة التي لا تحاول التفسير والتعليل أن هذا غير ذاك.
وليس هذا الفرق على التحقيق أن شعر بشار أسهل لغة أو أسلوبا من شعر كثير وجميل، ولا أن بشارا يقارب المرأة وأولئك العشاق لا يقاربونها؛ فقد تكون قصائد كثير وجميل وأمثالهما أسهل لغة وأسلوبا من قصائد بشار على الإجمال، وقد يكون هؤلاء أقرب منه إلى طبيعة المرأة وهواها، وأعرف بغضبها ورضاها.
وإنما الفرق بينهما أن شعر بشار هو شعر المتحدثين والمتحدثات في مجالس اللهو والفراغ، فهو مادة الحديث في تلك المجالس ومادة الحديث عنها، وهو وسيلة الإغراء بها ورسول الدعوة إليها، ومن هنا إغراؤه بالفساد ومحاكاة ما يتخيله ويرويه بين الظرفاء والظريفات.
أما شعر كثير وأمثاله فهو كالرسالة الخاصة من رجل واحد إلى امرأة واحدة، وهو إن أغرى بشيء، فلا يغري المرأة بأن تذهب إلى ملاقاة الرجال الكثيرين والنساء الكثيرات، ولكنه يغريها بعلاقة قلبية كالعلاقة بين ك كثير وعزة، وجميل وبثينة، وعروة وعفراء، وقيس وليلى، وليس هذا ما يدفع العاشق أو العاشقة إلى مجالس الظرفاء والظريفات، بل لعله مما يدفع إلى العكوف والاعتزال.
فالفرق هنا فرق بين طبيعتين متباينتين: طبيعة المحب وهو مخصص لا يعمم، وطبيعة اللاهي بمجالسة النساء ومحادثتهن، وهو لا يتقيد بواحدة دون غيرها، ولا يبلغ من التعلق بها إلا أن يؤثرها على الأخريات بالمجالسة والمسامرة وتمثيل مساجلات الغرام.
وقد كان بشار قريبا في منحاه من عمر بن أبي ربيعة؛ لأن المجالس التي كان يغشاها كانت شبيهة على نحو ما بالمجالس التي كان يألفها ابن أبي ربيعة، غير أن مجالس بشار كانت أشبه بالأندية اللاهية في عصرنا، ومجالس ابن أبي ربيعة كانت أقرب إلى سهرات الحريم المغلق في العصر الماضي، الذي كان يتحلل من الحجاب بعض التحلل في الخلوات وبين الجدران.
فصاحبات بشار هن الجواري والقيان والمستهترات باللهو من نساء الحواضر اللائي لا عاصم لهن، وصاحبات عمر هن الحرائر اللائي يفرجن عن أنفسهن في غفلة الرقباء والأولياء، وهؤلاء في الأدب والنشأة غير هؤلاء، ولكن الشبه بين الطائفتين أن الحديث معهما حديث شاعر مشغول بالنساء جميعا وغير مقصور على واحدة بعينها يخصها بالمناجاة والوفاء.
وهنا الملتقى بين ابن أبي ربيعة وبشار.
وهنا المفترق بين كل منهما، وكل من كثير وعروة وقيس وجميل، فشعر هؤلاء معدن من الكلام غير المعدن الذي منه كلام الآخرين.
ولا يغير من هذه التفرقة أن يقال عن كثير - مثلا - إنه كان يخون عزة ويغازل غيرها؛ فإنه قد يفعل ذلك ولا يشبه شعره - مع هذا - شعر عمر وبشار في المعدن والأثر والطبيعة، كما أن الماس المزيف لا يصبح زمردا ولا مرجانا ولا ياقوتا؛ لأنهم زيفوه، بل يظل أشبه بالماس من أجل هذا التزييف، ونراه فنذكر الماس، ولا نذكر الزمرد والمرجان والياقوت، إلا لنعد أصناف المعادن المختلفات.
وقد نسبت إلى كثير أبيات تشبه في ظاهرها أن تكون من كلام الغزلين المكثرين، وهي هذه الأبيات:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن
عليك شجى في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها
لغيرك من خلانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
ومهما يكن من صدق النسبة في هذه الأبيات أو كذبها؛ فالذي يلوح منها أن قائلها أحس شجى الحلق من تقلب المعشوقة الواحدة وود لو ظفر بالمعشوقة التي لا تتقلب ولا تلين لغيره كما لانت له، ولا تغدر به كما تغدر بسواه، فعدل إلى التأسي وهو كاره لهذه المتعة راض بها على غير اختيار لو ملك الاختيار. وليس هذا مما يقوله الشعراء الغزلون المطبوعون على التردد بين مجالس النساء الكثيرات؛ بل لعله مما يضجرهم، ويثقل على طبائعهم أن يطالبوا بالوفاء، ويحال بينهم وبين التقلب في مجالس الحديث واللقاء.
وكذلك جاء من أخبار ابن أبي ربيعة أنه علق بامرأة واحدة هي الثريا بنت علي، وأطال الغزل فيها والتودد إليها، وأجفل مما بلغه عرضا من خبر نعيها، ولكنه ظل وهو يغازلها ويبادلها المودة عرضة كل يوم لعتاب منها على مغازلة غيرها ومبادلتهن مثل هذه المودة. •••
ومما ينبغي أن نستحضره في هذه المقارنات أنها ليست للموازنة بين شاعرية وشاعرية، أو بين قدرة فنية وقدرة فنية، فما لا شك فيه أن كثيرا وإخوانه يحسنون أبوابا من القول لا يستطيعها ابن أبي ربيعة، إلا أنهم لا يحسنونها لأنهم أشعر منه وأرجح في الملكة الفنية، فإنه هو أيضا يحسن أبوابا من القول لا يستطيعونها ولا يلمون بها، وإنما يحسن كل منهم ما يحسنه؛ لأنه يحسه ويصدق في التعبير عنه والدلالة عليه. فليس للشعراء العشاق قصيدة واحدة تعدل مساجلات ابن أبي ربيعة وحكاياته الغزلية؛ لأنهم لا يألفون هذا الضرب من الشعور، ولا يجنحون إلى وصفه والغبطة بتمثيله. وكذلك تبحث في ديوان ابن أبي ربيعة عن صرخة واحدة من أعماق القلب المصدوع، والنفس الوالهة فلا تظفر بها ولا تحوم حولها؛ لأنه لم يرزق هذه الطبيعة التي تتعلق بمعشوقة واحدة، وتعلق عليها سعادتها وشقاءها وإقبالها على الحياة وصدوفها عنها.
وما يقال في الفرق بين شعراء الطريقتين يقال في الفرق بين قراء الطريقتين على نحو واحد؛ فالقراء الذين يأنقون للغزل العمري يفضلونه على غزل كثير وقيس وجميل، ولا يعدلون به شعرا من غير طريقته وغرضه. ويشبههم قراء العشاق «الموحدين» الذين يحسون إحساسهم، وينطبعون على مثل مزاجهم، فلا يرضون بديلا بشعر أولئك العشاق، إلا أن ينظروا إلى الطريقتين بعين الفن الخالص، فهما إذن متعادلتان حافلتان بمتعة الجمال وبراعة التعبير، كما يتعادل مصور الحدائق ومصور البحار عند من ينظر إلى قدرة التصوير عند هذا وذاك، وإن كان هو في طوية نفسه مؤثرا لمناظر الحدائق في الطبيعة أو مؤثرا فيها لمناظر البحار. (6) الصدق الفني في شعره
عرضنا فيما تقدم للصدق في شعر ابن أبي ربيعة من الوجهتين التاريخية والخلقية.
والصدق من الوجهة التاريخية هو الصفة التي نتحراها، حين نبحث عن وقوع الأخبار التي رواها الشاعر في أشعاره القصصية.
أما الصدق من الوجهة الخلقية فهو الذي نتحراه حين نبحث عن دلالة تلك الأخبار على خلقه وأدبه، أهو صادق أم كاذب، ومخلص في عقائده الدينية وآدابه الاجتماعية أم موارب فيها، وقادر على نفسه أم مستسلم لشهواته وغواياته؟!
وكلتا الوجهتين من صدق التاريخ أو صدق الأخلاق لا نتعرض له مرة أخرى في هذه الكلمة التي ننظر فيها إلى صدقه من الوجهة الفنية.
فقد يكون الرجل صادقا فيما روى من أحاديثه، وقد يكون صدقه فيها دالا على خلق حسن أو معيب، فهذا وذاك غير الصدق الذي يحاسب عليه الشاعر من الوجهة الفنية، وهو صدق الشعور الذي يعبر عنه، وصدور ذلك الشعور منه عن مزاج أصيل لا تكلف فيه ولا اختلاق.
حدث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : «حججت مع أبي وأنا غلام وعلي جمة، فلما قدمت مكة جئت عمر بن أبي ربيعة، فسلمت عليه وجلست معه، فجعل يمد الخصلة
17
من شعري ثم يرسلها، فترجع على ما كانت عليه ويقول: وا شباباه! حتى فعل ذلك مرارا، ثم قال لي: يا ابن أخي! قد سمعتني أقول في شعري: قالت لي وقلت لها، وكل مملوك لي حر إن كنت كشفت عن فرج حرام قط. فقمت وأنا متشكك في يمينه، فسألت عن رقيقه فقيل لي: أما في الحول (؟) فله سبعون عبدا سوى غيرهم.»
هذا التشكك جائز - بل واجب - إذا كان الغرض منه بحثا عن تاريخ الوقائع أو بحثا عن خلق الشاعر وأدبه.
ولكنه فضول لا وجوب له إذا كنا نبحث عن صدقه الفني في تعبيره، فهذا الصدق ثابت له من ثبوت مزاجه وثبوت فطرته التي جبل عليها، وهي الفطرة التي أغرمته بالنساء والتحدث إليهن والتحدث عنهن، وتمثيل ذلك في فن من الفنون، هو هنا فن الشعر أو الأقصوصة المنظومة، فهذا المزاج ثابت له لا شك فيه.
وهذا المزاج متى ثبت للشاعر فهو كاف للتحقق من صدق تعبيره، ولو لم يقع خبر واحد من الأخبار التي نظمها على الوجه الذي رواه؛ إذ قصارى الكذب في الخبر أن يكون اختراعا ملفقا يعترف صاحبه بتلفيقه وتأليفه، كما يعترف بذلك وضاع الأقاصيص.
ومع هذا يؤلف واضع القصة أخباره، ولا يمنعه ذلك أن يوصف بالصدق الفني إذا أحسن الشعور والتخيل، وأحسن إلى جانب هذا تمثيل شعوره وخياله.
وهذا هو الصدق الفني الذي عنيناه، وهو ملازم لشعر ابن أبي ربيعة في معظم ما وصف ولو اخترعه اختراعا، أو أدخل عليه بعض التبديل والزيادة.
ومن أمثلة ذلك أنه وصف منظرا رآه في بيت فقال:
ولقد قلت ليلة الجزل لما
أخضلت ريطتي علي السماء
18
فلما أنشد الأبيات خرجت له جارية حضرت المنظر فقالت: «ما رأيت أكذب منك يا عمر! تزعم أنك بالجزل وأنت في جنبذ
19
محمد بن مصعب، وتزعم أن السماء أخضلت ريطتك، وليس في السماء قزعة!
20
فقال: هكذا يستقيم هذا الشأن.»
ونرجع إلى الأبيات التي «استقام له شأنها» بهذا التبديل فإذا هي بعد البيت المتقدم:
ليت شعري وهل يردن ليت
هل لهذا عند الرباب جزاء؟
كل وصل أمسى لدي لأنثى
غيرها، وصلها إليها أداء
كل خلق وإن دنا لوصال
أو نأى فهو للرباب الفداء
فعدي نائلا وإن لم تنيلي
إنما ينفع المحب الرجاء
فبدا لنا أن القافية هي التي جاءت «بالسماء»، وأنه قد خلق المطر وابتلال الريطة بعد أن عرضت له هذه الكلمة في القافية، فلم يستقم له النظم إلا بذلك التبديل، وهو ضعف لك أن تحسبه عليه في نقد الصناعة النظمية، ولكنه لا يمنع أن يكون ذلك المنظر جائز الوقوع وأن يأتي وصفه والشعور به على ذلك المثال، وهذا هو الصدق الفني الذي يحاسب به الشاعر في هذا الباب، ولعله يؤدي بتبديله المنظر معنى آخر له دلالته في بيان إعزازه للفتاة، التي تجشم الخروج في المطر لانتظارها، فذلك معنى يستحق أن يوصف وأن يخترع اختراعا في رواية من الروايات، فلا يعاب من الوجهة الفنية أقل عيب، ولا يلام عليه الشاعر إلا إذا أحال في اختراعه، فوصف المستحيل الذي لا يكون ولا يعقل، كأن يذكر المطر حيث يمتنع نزوله كل الامتناع في أوان معهود، وهو نقص في التخيل وملاحظة الواقع يمس القدرة الفنية التي لا غنى عنها لأصحاب الفنون.
وبهذا نصل إلى تفرقة أخرى غير التفرقة بين الصدق من وجهة الفن، والصدق من وجهة التاريخ أو الأخلاق.
نصل إلى التفرقة بين الطبيعة الفنية والصناعة النظمية، وإن لاح أن كلمة الفنان وكلمة الصانع مترادفتان أو كالمترادفتين.
فعمر بن أبي ربيعة وافر الحظ من الطبيعة الفنية التي تفوق على شعرائها، وأصبح إمام طريقتها. ولكنه ليس بوافر الحظ من الصناعة النظمية، التي يلجئه الضعف فيها إلى التحول عن معناه، وإن لم يحوله عن فطرته التي لا حول عنها.
وخلاصة هذا جميعه أننا نستطيع أن نؤمن بصدق الشاعر في فنه دون أن نكلفه صحة الواقعة وصحة الصناعة، بل لعلنا نرفعه إلى مقام الإمامة بين شركائه في الطريقة والمزاج، وهو في تمحيص الخبر أو تمحيص الصناعة وراء هذا المقام. (7) ذوقه في جمال المرأة
قضى عمر بن أبي ربيعة أكثر أيامه في معاشرة النساء، ونظم أكثر شعره في وصف محاسن النساء، فمن الطبيعي أن يقع في الخاطر أنه كان صاحب ذوق مأثور في جمال المرأة، يسأل عنه من يكتب تاريخه وينقد شعره، ويرده إلى مزاجه وشعوره.
والمشهور أن الرجل الذي يخالط النساء يعرف جمالهن، ويصبح حجة فيه، ويتذوق من شمائله ما ليس يتذوقه الآخرون.
ولكن هذه الشهرة وهم كسائر الأوهام الشائعة التي تتلقفها الأسماع ارتجالا، ثم لا تثبت على المراجعة والتمحيص.
فلا الرجل «زير النساء»، ولا الرجل «العاشق» بالحجة في ذوق الجمال؛ لأن زير النساء موكل بحب الأنوثة في المرأة، ينظر إليها قبل أن ينظر إلى جمالها، ولأن العاشق موكل بحب «شخصية» معينة تستهويه كائنا ما كان حظها من الجمال، ولهذا يحب المرأة، ويؤثرها على سائر بنات جنسها، وأمام عينيه منهن من هو أجمل منها وأوفر حظا من المحاسن والمغريات.
مثل الرجل «زير النساء» في هذا مثل الرجل الأكول يلتهم كل ما صادفه من المأكول، فليس هو بالحجة في التمييز بين الأطعمة والطعوم.
ومثل الرجل «العاشق» في هذا مثل الرجل المولع بصنف واحد من المآكل، فهو مصدوف عن كل ما عداه، ولو كان فيه ما هو أفضل في التغذية وأمتع في اللذة.
فلا هذا ولا ذاك يسأل في صناعة الطهو ومتعة الطعام، وإنما يسأل عنهما الرجل الصحيح، الذي يملك ذوقه، فلا يصرفه صارف عن تمييز الحسن السائغ حيث كان.
وكذلك يسأل عن جمال المرأة من يرى ويقابل ويستكثر من الرؤية والمقابلة، وهو ناظر في كل ما يراه بعين المساواة والاختبار.
وجائز أن يكون زير النساء حجة في ذوق الجمال، ولكنه لا يكون كذلك لأنه زير نساء.
وجائز أن يكون العاشق حجة في ذوق الجمال، ولكنه لا يكون كذلك لأنه عاشق.
وإنما يكونان كذلك لملكة فيهما، توجد فيمن يخالط النساء جميعا وفيمن يعشق المرأة الواحدة ، كما توجد في غير هذين من عامة الرجال.
فماذا كان ذوق الجمال عند ابن أبي ربيعة شاعر الغزل، وأكثر شعراء عصره مخالطة لبناته الغزلات المشهورات بالجمال؟
كان ذوقه قبل كل شيء هو الذوق الطبيعي الذي يتفق لكل من كان مثله في الأصل والنشأة والبيئة.
فهو عربي حضري مترف مولع بمعاشرة النساء، وكل من كان عربيا حضريا مترفا فلن يكون ذوقه في جمال المرأة إلا كذوق عمر بن أبي ربيعة، كما رأيناه في شعره وأخباره.
فكان ذوق العرب عامة في الجمال ذوق الفطرة السليمة، التي لم يفسدها الترف ولم تغيرها بدع الحضارة. وكانوا يستحسنون من جمال المرأة الوضاحة والهيف والرشاقة والخفر، ويشيدون بهذه الشمائل في كل ما روي عنهم من غزل البداوة، وكانوا يحبون مع الهيف والرشاقة أن تكون المرأة بارزة النهود والروادف، وهو ذوق لا يخرج بهم عن سواء الفطرة كما يثبته لنا حب الجمال وعلم وظائف الأعضاء. فهم في ذلك أصح ذوقا من أساتذة التجميل المعاصرين، الذين أوشكوا أن يسووا بين قامة المرأة الجميلة وقامة الرجل الجميل في استواء الأعضاء، فما يعيب المرأة عضويا أو «فزيولوجيا» أن تكون رسحاء ضئيلة الردفين؛ لأنها خلقت بحوض عريض ملحوظ فيه تكوين الجنين، فإذا كانت صحيحة البنية سوية الخلق وجب أن تكتسي عظام فخذيها وعجيزتها، وأن يمتلئ فيها هذا الجانب من جسمها، وإلا أشار هزاله إلى آفة في تكوين الجسم لا توافق حاسة الجمال.
وكذلك يستحسن الخصر الدقيق في المرأة؛ لأن ضخامة المعدة قد تؤذي الجنين، وتضغط عليه في الرحم، وتشير إلى التزيد في الطعام فوق ما تستدعيه وظائف الحياة في جسم الإنسان.
فالذوق العربي في دقة الخصور وبروز الأرداف ذوق محمود يزكيه حب التنسيق، كما يزكيه تكوين وظائف الأعضاء، وحمادى الحسن في المرأة أن تكون كما وصفها كعب بن زهير:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
وهو الذوق الذي يجري عليه ابن أبي ربيعة، كما يجري عليه «العرف القومي» حين يقول:
إني رأيتك غادة خمصانة
ريا الروادف عذبة مبشارا
21
محطوطة المتنين أكمل خلقها
مثل السبيكة بضة معطارا
كالشمس تعجب من رأى ويزينها
حسب أغر إذا تريد فخارا
أو حين يقول:
أبت الروادف والثدي لقمصها
مس البطون وأن تمس ظهورا
أو حين يقول:
فيهن طاوية الحشا
جيداء واضحة الجبين
بيضاء ناصعة البيا
ض كدرة الصدف الكنين
وكان على فرط معاشرته النساء المتبرجات يحمد الحياء والخفر في المرأة كما يحمدها العربي البدوي الذي ينظر إلى المرأة في فطرتها الأولى خفرة بعيدة عن خلق التعرض والاقتحام، فيذكر الخفر كثيرا في شعره كما قال وهو نموذج لجميع ما قال:
غراء في غرة الشباب من الحو
ر اللواتي يزينها خفر
تفتر عن بارد مقبله
مفلج واضح له أشر
22
فالعرف العربي أو العرف الفطري على الأصح الأعم واضح في وصف ابن أبي ربيعة لا تخطئه في عامة شعره على التقليد أو على الابتداع، يستويان.
ولكن هذا العرف يطرأ عليه عارضان يغيرانه وينحرفان به عن قصده، وهما معيشة الحضارة والبيئة الاجتماعية التي كان عمر ينتمي إليها من تلك المعيشة الحضرية، وهي بيئة الترف والنعمة والرخاء.
فالحضارة والنعمة تظهران في الترفع عن عيشة البداوة والاشتغال برعي الشاء والإبل، كما يقول:
معاصم لم تضرب على البهم في الضحى
عصاها ووجه لم تلحه السمائم
23
وتظهران في المباهاة بكسل المرأة ونومها إلى الضحى وفرط غضارتها؛ لأن ذلك جميعه عنوان الغنى والاستغناء والدلال على الرجال، فإذا ذكر الهيف في جمال المرأة خيل إليك أنه يذكره متابعة للعرف وعادة من عادات اللسان وهو ساه عن معناه، وأنه يناقض وصفه حين يذكر الهيف ويقرنه بما ليس يجتمع معه من صفات البدانة والضخامة التي قلما ينساها في وصف حسناء، كما في قوله:
مهفهفة غراء صفر وشاحها
وفي المرط منها أهيل متراكم
أو قوله:
أسيلات أبدان، دقاق خصورها
وثيرات ما التفت عليه الملاحف
أو قوله:
هيف رعابيب بدن شمس
فيهن حسن الدلال والخفر
24
وكل نسائه يحيلهن عنده وصف البدانة التي توشك أن تقعدهن عن الحركة فتعاب وتدخل في عداد العجز وتعب الأعضاء، كما يقول :
قطوف من الحور الأوانس بالضحى
متى تمش قيس الباع من بهرها تربو
25
أو يقول:
من البيض مكسال الضحى بحترية
ثقال متى تنهض إلى الشيء تعثر
26
وليس أكثر من ذكر البدانة في وصف نسائه، فهن:
نواعم قب بدن صمت البرى
ويملأن عين الناظر المتوسم
27
أو:
هيجني البدن الملاح فما
أنفك بين الحسان أقتصر
وكان اختياره أدل على ذوقه من كلامه، فقيل: إن الثريا التي لهج بمحاسنها كانت من ضخامة العجيزة بحيث تريق الماء على جسدها فلا يبتل ظاهر فخذيها، وهو عيب لم يحمله على استحسانه إلا ما فيه من دلالة النعمة والوثارة وقلة الحاجة إلى الحركة في خدمة البيت وطلب المعيشة، وقيل مثل ذلك عن عائشة بنت طلحة إذ دخلت عليها زائرة فرأت عجيزتها من خلفها كأنها جسد آخر. قالت: فوضعت إصبعي عليها لأعلم ما هي! فلما أحست مس إصبعي سألت: ما هذا؟ قلت: جعلت فداءك، لم أدر ما هو فجئت لأنظر ... فضحكت عائشة وقالت: ما أكثر من يعجب مما عجبت منه!
ووصفتها عزة الميلاء وهي وصافة لمحاسن النساء فقالت: ما رأيت مثلها مقبلة ومدبرة، ثم قالت إنها ذات عكن أي طيات في البطن، ضخمة السرة، ولم تذكر ذلك من عيوبها بل ذكرته من محاسنها. أما عيوبها التي ذكرتها فمنها ما يواريه الخمار وهو عظم الأذن ومنها ما يواريه الخف وهو عظم القدم، ومنها ردة في الوجه تغض من الجمال.
وهاتان كانتا أجمل الشريفات من طبقة ابن أبي ربيعة التي كان يدل عليها بصفات نسائها، أو يسميها تسمية كما قال:
بعيدة مهوى القرط
28
إما لنوفل
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
فهو رجل مطبوع في ذوقه لجمال النساء؛ لأنه يستحسن منه ما توحيه إليه النشأة والبيئة والعرف الشائع بلا تكلف ولا ادعاء.
ومن الملاحظات التي لا تفوت القارئ المستقصي لشعر الشاعر أنه كان شديد الكلف بجمال الفم خاصة من ملامح الوجوه، فندرت قصيدة في شعره خلت من التنويه به والتغني بمتعة تقبيله، كقوله:
فابتسمت عن نير واضح
مفلج عذب إذا قبلا
أو قوله:
ويذيقني منه على وجل
عذبا كطعم سلافة الخمر
أو قوله:
فقالت لها حرة عندها
لذيذ مقبلها معصر
29
أو قوله:
لو سقي الأموات ريقتها
بعد كأس الموت لانتشروا
أو قوله:
وبوجه حسن صورته
واضح السنة ذي ثغر نقي
أو قوله:
تجري السواك على أغر مفلج
عذب اللثات لذيذ طعم المشرب
أو قوله:
وشتيت
30
أحوى المراكز عذب
ما له في جميع ما ذيق طعم
وأمثال ذلك في قصائده الوصفية كثير يلاحظ لكثرته، ولا بد أن يدل على ذوق خاص في استحسان مواضع الحسن من النساء، ولنا أن نحسبه دليلا على التعبير المطبوع دون أن نبعد في الدلالة؛ لأنه كان زير نساء وليس لزير النساء الذي يلقى الكثيرات منهن أن يطمع في متعة أسهل، ولا أشيع من الحديث والتقبيل، وكلاهما مما يغري بمحاسن الأفواه، كما أفصح عن ذلك في بعض شعره فقال وكرر المعنى كثيرا في أبيات أخرى:
فما ازددت منها غير مص لثاتها
وتقبيل فيها والحديث المردد
فلا جرم يكلف الشاعر بمحاسن الثغور التي تشتهى منها الأحاديث والقبل ولا يغفل عن وصفها والتغني بمتعتها. ومتى قيل: إن عمر بن أبي ربيعة كان يحمد من محاسن المرأة ما يحمده الرجل الذي نشأ بين العرب في بيئة الحضارة والنعمة، وكان بوحي من مزاجه وفراغه مشغوفا بمعاشرة النساء فقد قيل إنه شاعر صادق الحس مطبوع التعبير. (8) من نوادره وأخباره
بعض النوادر والأخبار يراد لذاته ويحسن السكوت عليه إذا رويت كل نادرة منه على حدة.
ومن ذلك نوادر الفكاهة والنوادر التي تشتمل على خبر من أخبار المعرفة العامة أو جواب مسكت أو نكتة من نكات البلاغة.
وليس بالضروري أن تكون النوادر والأخبار التي تساق في معرض التراجم والسير من هذا القبيل، بل يكفي أن تكون النادرة مشتملة على عادة من عادات المترجم له أو سمة من سماته لتستحق الإثبات والمراجعة، وهذا الذي توخيناه في سرد ما يلي من النوادر والأخبار، وكله من الأمثلة التي تتكرر في حياة ابن أبي ربيعة وتنبئنا بحالة من حالاته أو سمة من سماته، وقد يمر بها القارئ في كتاب فلا يطيل الالتفات إليها بين النوادر، التي تروى ثم يحسن السكوت عليها.
فكان عمر يقدم فيعتمر في ذي القعدة ويخرج من إحرامه فيلبس الحلل والوشي ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها الطنافس والديباج ويسبل لمته ويتصدى للعراقيات والمدنيات والشاميات كل منهن في الطريق التي يسلكنها، فخرج يوما للعراقيات فإذا قبة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر تركب معها جارية سوداء كالسبجة
31 ... فقال للسوداء: من أنت؟ ومن أين أنت يا خالة؟ فقالت: لقد أطال الله تعبك إن كنت تسأل هذا العالم: من هم؟ ومن أين هم؟ قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن. قالت: نحن من أهل العراق، فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ورجعنا إلى بلدنا، فضحك. فلما نظرت إلى سواد ثنيتيه قالت: قد عرفناك! عمر بن أبي ربيعة ... قال: وبم عرفتني؟ قالت: بسواد ثنيتيك وبهيئتك التي ليست إلا لقريش ... فلم يزل عمر بها حتى تزوجها وولدت له.
ولسواد ثنيتيه قصة مع الثريا إحدى صويحباته وأجملهن فيما قيل، وخلاصتها أنه زارها يوما ومعه صديق له كان يصاحبه ويتوصل بذكره في الشعر، فلما كشفت الثريا الستر وأرادت الخروج إليه رأت صاحبه فرجعت، فقال لها: إنه ليس ممن أحتشم منه ولا أخفي عنه شيئا. واستلقى فضحك، وكان النساء إذ ذاك يتختمن في أصابعهن العشر، فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها فأصابت الخواتيم ثنيتيه العليين وكادت أن تسقطهما، فعالجهما في البصرة فسكنتا واسودتا، وجعل خصومه يعيرونه بهما كما قال الحزين الكناني:
ما بال سنيك أم بال كسرهما
أهكذا كسرا في غير ما باس
أم نفحة من فتاة كنت تألفها
أم نالها وسط شرب
32
صدمة الكاس ••• «وكان جالسا بمنى وغلمانه حوله فأقبلت امرأة برزة
33
عليها أثر النعمة ثم سلمت وسألت: أنت عمر بن أبي ربيعة؟ قال: أنا هو، فما حاجتك؟ قالت: حياك الله وقربك. هل لك في محادثة أحسن الناس وجها وأتمهم خلقا وأكملهم أدبا وأشرفهم حسبا؟ قال: ما أحب إلي من ذلك. فعادت تقول: على شرط، تمكنني من عينيك فأشدهما وأقودك حتى تتوسط الموضع الذي أريد، ثم أفعل ذلك عند إخراجك حتى أنتهي بك إلى مضربك هذا. فوافقها ومضى معها حتى كشفت عن وجهه فإذا بامرأة على كرسي لم ير مثلها قط جمالا وكمالا. فسلم وجلس، وسألته: أأنت عمر بن أبي ربيعة؟ قال: أنا عمر. قالت: أنت الفاضح للحرائر؟ قال: وما ذاك جعلني الله فداءك؟ قالت: ألست صاحب هذه الأبيات؟
قالت وعيش أخي ونعمة والدي
لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خوف يمينها فتبسمت
فعلمت أن يمينها لم تحرج
فتناولت رأسي لتعرف مسه
بمخضب الأطراف غير مشنج
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
34
قم فاخرج عني. وقامت من مجلسها فجاءت المرأة فشدت عينيه ومضت به حتى انتهى إلى مضربه، فحزن واكتأب وبات ليله يفكر فيما رأى وسمع. فلما أصبح إذا المرأة إليه وتسأله: هل لك في العود؟ فيذهب معها كما ذهب في المرة الأولى، ويلقى فتاة الأمس فتبادره قائلة: إيه يا فضاح الحرائر؟ فيسأل: بماذا؟ جعلني الله فداءك؛ فتقول بأبياتك هذه:
وناهدة الثديين قلت لها اتكي
على الرمل من جبانة
35
لم توسد
فقالت على اسم الله أمرك طاعة
وإن كنت قد كلفت ما لم أعود
فلما دنا الإصباح قالت فضحتني
فقم غير مطرود وإن شئت فازدد
قم فاخرج عني!
فقام فخرج ثم ردته وقالت له: لولا وشك الرحيل وخوف الفوت ومحبتي لمناجاتك والاستكثار من محادثتك لأقصيتك، هات الآن كلمني وحدثني وأنشدني.»
قال عمر وهو يقص هذه القصة: «فكلمت آدب الناس وأعلمهم بكل شيء، ثم نهضت وأبطأت العجوز وخلا لي البيت، وأخذت أنظر فإذا بآنية فيها طيب، فأدخلت يدي فيه وخبأتها في كمي، وجاءت تلك العجوز فشدت عيني ونهضت بي تقودني حتى إذا صرت على باب المضرب أخرجت يدي فضربت بها عليه، ثم صرت إلى مضربي فدعوت غلماني ووعدتهم أيهم يدل على باب مضرب عليه طيب، كأنه أثر كف فهو حر وله خمسمائة درهم. فلم ألبث أن جاء بعضهم فقال: قم! فنهضت معه فإذا أنا بالكف طرية وإذا المضرب مضرب فاطمة بنت عبد الملك بن مروان قد أخذت في أهبة الرحيل، فلما نفرت نفرت معها فبصرت في طريقها بقباب ومضرب وهيئة جميلة فسألت عن ذلك فقيل لها: هذا عمر بن أبي ربيعة. فتخوفت وقالت للعجوز التي كانت ترسلها إلي قولي له: نشدتك الله والرحم ما شأنك؟ وما الذي تريد؟ انصرف! ولا تفضحني وتشيط بدمك.
قال: فأبلغتني العجوز رسالتها، فقلت: لست بمنصرف أو توجه إلي بقميصها الذي يلي جسدها. ففعلت ووجهت إلي بقميص من ثيابها، فزادني ذلك شغفا ولم أزل أتبعهم ولا أخالطهم حتى إذا صاروا على أميال من دمشق انصرفت، وفي ذلك أقول:
ضاق الغداة بحاجتي صبري
ويئست بعد تقارب الأمر
إلى آخر الأبيات.» •••
وكان النساء يتعرضن له ويعبثن باستدعائه لتزجية الوقت في الحديث والمناجاة، وحكى بعض ما اتفق له من ذلك فقال: «بينا أنا منذ أعوام جالس إذ أتاني خالد الخريت فقال لي: يا أبا الخطاب! مرت بي أربع نسوة قبيل العشاء يردن موضع كذا وكذا لم أر مثلهن في بدو ولا حضر، وفيهن هند بنت الحارث المرية، فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من حديثهن وتتمتع بالنظر إليهن ولا يعلمن من أنت؟ فقلت له: ويحك! وكيف لي أن أخفي نفسي؟ قال: تلبس لبس أعرابي، ثم تجلس على قعود فلا يشعرن إلا بك قد هجمت عليهن. ففعلت ما قال ثم أتيتهن فسلمت عليهن ووقفت بقربهن، فسألنني أن أنشدهن وأحدثهن فأنشدتهن لكثير وجميل والأحوص ونصيب وغيرهم. فقلن لي: ويحك يا أعرابي ما أملحك وأظرفك! لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا فإذا أمسيت انصرفت في حفظ الله؟ فأنخت بعيري ثم تحدثت معهن وأنشدتهن فسررن بي وجذلن بقربي وأعجبهن حديثي ... ثم إنهن تغامزن وجعل بعضهن يقول لبعض: كأنا نعرف هذا الأعرابي! ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة، فقالت إحداهن: هو والله عمر. فمدت هند يدها فانتزعت عمامتي فألقتها عن رأسي ثم قالت لي: هيه يا عمر! أتراك خدعتنا منذ اليوم! بل نحن والله خدعناك واحتلنا عليك بخالد، فأرسلناه إليك لتأتينا في أسوأ هيئة ونحن كما ترى.» •••
وكان يتتبع كل جميلة يسمع بها ليحادثها ويتغزل بها ولو لم تقع عينه عليها.
حدث قدامة بن موسى قال: «خرجت بأختي زينب إلى العمرة، فلما كانت بسرف - على عشرة أميال من مكة - لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم علي، فقلت له: إلى أين أراك متوجها يا أبا الخطاب؟ فقال: ذكرت لي امرأة من قومي بزرة الجمال فأردت الحديث معها! فقلت: هل علمت أنها أختي؟ فقال: لا. واستحيا وثنى عنق فرسه راجعا إلى مكة.» •••
وحدث الهيثم بن عدي قال: قدمت امرأة مكة وكانت من أجمل النساء، فبينا عمر بن أبي ربيعة يطوف إذ نظر إليها فوقعت في قلبه، فدنا منها يكلمها فلم تلتفت إليه، فلما كان في الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها فزجرته قائلة: إليك عني يا هذا إنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة. فألح عليها يكلمها حتى خافت أن يشهرها وخرجت بعدها ليلة فقالت لأخيها: اخرج معي يا أخي فأرني المناسك فإني لست أعرفها، فأقبلت وهو معها، فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثلت المرأة بقول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي صولة المستأسد الضاري
فلم يكن صاحبنا بالفاتك في سبيل هواه، وإنما كان لهوا سهلا يستعين عليه باللهو السهل، وكثيرا ما كان يتاح له حظه منه بغير عناء كما حدث الهيثم بن عدي مرة أخرى حين قال: بينما عمر بن أبي ربيعة منصرف من المزدلفة يريد منى إذ بصر بامرأة في رحالة
36
ففتن بها، وسمع عجوزا معها تناديها: يا نوار استتري لا يفضحك ابن أبي ربيعة. فاتبعها عمر وقد شغلت قلبه حتى نزلت بمنى في مضرب قد ضرب لها، فنزل إلى جنب المضرب، ولم يزل يتلطف حتى جلس معها وحادثها، وإذا أحسن الناس وجها وأحلاه منطقا، فزاد ذلك في إعجاب عمر بها، ثم أراد معاودتها فتعذر ذلك عليه وكان آخر عهده، فقال فيها :
علق النوار فؤاده جهلا
وصبا فلم تترك له عقلا
إلى آخر الأبيات. •••
وانتهى بعض هذا اللهو بجد الزواج حين بنى بكلثم بنت سعد المخزومية، التي ولدت له ابنه جوان.
وكان يهواها وتعرض عنه، فأرسل إليها رسولا فضربت الرسول وحلقتها - أي أوجعتها في حلقها - وأحلفتها يمينا ألا تعاود الرسالة بينه وبينها. ثم أعاد ثانية فصنعت بها ما صنعته في الأولى، فتحاماها رسله حتى ابتاع أمة سوداء لطيفة رقيقة فأحسن إليها، وكساها وآنسها وعرفها خبره وقال لها: إن أوصلت لي رقعة إلى كلثم فقرأتها فأنت حرة ولك معيشتك ما بقيت. فسألته أن يكتب لها مكاتبة بما وعد وأن يلحق بالمكاتبة حاجته التي يريدها، فأجابها إلى ما سألت وأعطاها الورقة فأخذتها إلى باب كلثم، واستعانت بإحدى بنات جنسها على إغراء سيدتها بقراءتها فإذا فيها هذه الأبيات:
من عاشق صب يسر الهوى
قد شفه الوجد إلى كلثم
رأتك عيني فدعاني الهوى
إليك للحين ولم أعلم
قتلتنا يا حبذا أنتم
في غير ما جرم ولا مأثم
والله قد أنزل في وحيه
مبينا في آيه المحكم
من يقتل النفس كذا ظالما
ولم يقدها نفسه يظلم
وأنت ثأري فتلافي دمي
ثم اجعليه نعمة تنعمي
وحكمي عدلا يكن بيننا
أو أنت فيما بيننا فاحكمي
وجالسيني مجلسا واحدا
من غير ما عار ولا مأثم
وخبريني ما الذي عندكم
بالله في قتل امرئ مسلم
فلما قرأت الشعر قالت لها: إنه خداع ملق وليس لما شكاه أصل. قالت: يا مولاتي؛ فما عليك من امتحانه؟ فأذنت له وهي تقول: ما زال حتى ظفر ببغيته، فليجلس إذا كان المساء في موضع كذا وكذا حتى يأتيه رسولي، وجاءها في الموعد وقد تهيأت أجمل هيئة وزينت نفسها ومجلسها، وجلست له من وراء ستر، وتركته حتى سكن ثم قالت له: أخبرني عنك يا فاسق! ألست القائل:
لا تجعلن أحدا عليك إذا
أحببته وهويته ربا
وصل الحبيب إذا شغفت به
واطو الزيارة دونه غبا
فلذاك أحسن من مواظبة
ليست تزيدك عنده قربا
لا بل يملك عند دعوته
فيقول أف وطالما لبى
فاعتذر لها ثم مكث عندها شهرا لا يدري أهله أين هو، ثم استأذنها في الخروج، فقالت له: بعد أن فضحتني! لا والله لا تخرج إلا بعد أن تتزوجني، فتزوجها وولدت منه ابنين أحدهما جوان، وماتت عنده. •••
وتتكرر النوادر والأخبار في حياة ابن أبي ربيعة على أنماط شتى من نسق واحد هو هذا النسق الذي مثلنا له بما تقدم، ولكنها تلخص في ختامها بخبرين مختلفين في تشابه أو متشابهين في اختلاف، هما إجمال ذلك الإسهاب في نهاية المطاف.
قال مصعب بن عروة بن الزبير: خرجت أنا وأخي عثمان إلى مكة معتمرين أو حاجين، فلما طفنا بالبيت مضينا إلى الحجر نصلي فيه، فإذا شيخ قد خرج بيني وبين أخي فأوسعنا له، فلما قضى صلاته أقبل علينا فسألنا: من أنتما؟ فأخبرناه، فرحب بنا وقال: يا ابني أخي، إني موكل بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه. ثم قام فسألنا عنه فإذا هو عمر بن أبي ربيعة.
ويلحق بهذا الخبر ما ذكره ابن الكلبي حيث قال إن عمر بن أبي ربيعة كان يساير عروة بن الزبير ويحادثه فقال له: وأين زين المواكب؟ يعني ابنه محمدا، وكان يسمى بذلك لجماله، فأجابه عروة: هو أمامك، فركض يطلبه وعروة يقول له: يا أبا الخطاب أولسنا أكفاء لمحادثتك ومسايرتك؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، ولكني مغرى بهذا الجمال أتبعه حيث كان:
إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه
لا حظ لي منه إلا لذة النظر
ثم مضى حتى لحقه.
هذا أحد الخبرين المتشابهين المختلفين، والخبر الآخر أنه نظر وهو شيخ إلى رجل في الطواف يكلم امرأة، فعاب ذلك عليه وأنكره، فقال له: إنها ابنة عمي! قال: ذلك أشنع لأمرك. فأنبأه أنه خطبها إلى عمه فأباها عليه إلا بصداق أربعمائة دينار، وهو غير مطيق لهذا الصداق، وشكا إليه من حبها وكلفه بها أمرا عظيما، واستشفع به عند عمه فسار معه إليه وكلمه فقال العم: هو مملق وليس عندي ما أصلح به أمره. فسأله عمر: وكم الذي تريده منه؟ فلما سمع منه أنه أربعمائة دينار تكفل بها وترك الرجل بعد أن قبل زواج الفتيين.
وكان عمر حين أسن قد حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة، فانصرف يومها إلى منزله يحدث نفسه، وجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابا، فقالت له: إن لك لأمرا وأراك تريد أن تقول شعرا، فجرى لسانه بهذه الأبيات:
تقول وليدتي لما رأتني
طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت شوقا
وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذو عزاء
إذا ما شئت فارقت القرينا
بربك هل أتاك لها رسول
فشاقك أم لقيت لها خدينا
فقلت شكا إلي أخ محب
كبعض زماننا إذ تعلمينا
فقص علي ما يلقى بهند
فذكر بعض ما كنا نسينا
وذو الشوق القديم وإن تعزى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وكم من خلة أعرضت عنها
لغير قلى وكنت بها ضنينا
أردت بعادها فصددت عنها
ولو جن الفؤاد بها جنونا
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم واحدا لكل بيت.
هذان الخبران يختلفان ويتشابهان في تصوير ختام هذا العمر المديد الذي قيل: إنه بلغ الثمانين، فلم يزل عمر في شيخوخته كما كان في صباه، ولم يعرض عن حظ الشباب والجمال إلا على كره منه وحنين يعاوده كلما تناساه أو حاول أن يتناساه. (9) بعض شعره
تتلخص أغراض المنتخبات الشعرية في ثلاثة: أحدها أن نختار للشاعر ما ينبئ عن حاله وله فائدة في التعريف بحقيقته النفسية، أو بحقيقة عصره وسيرة حياته.
وثانيها أن نختار له الحسن من شعره، وإن لم ينبئ عن شيء من سيرته وخلقه.
وثالثها أن نختار له ما هو حسن مستجاد من الوجهة الفنية سواء نظرنا إليه، أو نظرنا إلى الحسن المستجاد من أقوال جميع الشعراء. فهو فن حسن في الشعر عامة، وليس حسنه بمقصور على ما قاله الشاعر المختار له على التخصيص.
وقد حاولنا أن نوفق فيما اخترناه هنا بين جميع هذه الأغراض جهد ما يستطاع التوفيق بينها في كلام شاعر واحد، وهو مع هذا لا يستقصي كل جيد مختار من كلام ابن أبي ربيعة، ولكنه الشيء الذي لا غنى عنه في عجالة تتناول سيرته وأدبه ومكانته بين أئمة الكلام، بعد ما أسلفنا اقتباسه خلال الفصول المتقدمة من هذه العجالة.
ليلة خطرة
وبت أناجي النفس أين خباؤها
37
وكيف لما آتي من الأمر مصدر
فدل عليها القلب ريا
38
عرفتها
لها، وهوى النفس الذي كاد يظهر
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت
مصابيح شبت بالعشاء وأنؤر
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه
وروح رعيان ونوم سمر
39
وخفف عني الصوت أقبلت مشية ال
حباب وشخصي خيفة القوم أزور
40
فحييت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمكنون التحية تجهر
وقالت وعضت بالبنان فضحتني
وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف
رقيبا، وحولي من عدولي حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة
سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لها بل قادني الشوق والهوى
إليك، وما عين من الناس تنظر
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها
41
كلاك
42
بحفظ ربك المتكبر
فأنت - أبا الخطاب - غير منازع
علي أمير كيف شئت مؤمر
فبت قرير العين أعطيت حاجتي
أقبل فاها في الخلاء فأكثر
فيا لك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس
لنا لم يكدره علينا مكدر
يمج زكي المسك منها مفلج
رقيق الحواشي ذو غروب مؤشر
43
يرف إذا يفتر عنه كأنه
حصى برد أو أقحوان منور
وترنو بعينيها إلي كما رنا
إلى ربرب وسط الخميلة جؤذر
44
فلما تقضى الليل إلا أقله
وكادت توالي نجمه تتغور
أشارت بأن الحي قد حان منهم
هبوب، ولكن موعد لك عزور
45
فما راعني إلا مناد برحلة
وقد لاح مفتوق من الصبح أشقر
فلما رأت من قد تثور منهم
وأيقاظهم قالت: أشر كيف تأمر
فقلت أباديهم فإما أفوتهم
وإما ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت أتحقيقا لما قال كاشح
علينا، وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بد منه فغيره
من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقص على أختي بدء حديثنا
وما لي من أن تعلما متأخر
لعلهما أن تبغيا لك مخرجا
وأن ترحبا سربا
46
بما كنت أحصر
فقامت كئيبا ليس في وجهها دم
من الحزن تذري عبرة تتحدر
فيا لك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
وقامت إليها حرتان عليهما
كساءان من خز دمقس وأخضر
47
فقالت لأختيها أعينا على فتى
أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا
أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر
فقالت لها الصغرى سأعطيه مطرفي
ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر
48
يقوم فيمشي بيننا متنكرا
فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر
فكان مجني دون ما كنت أتقي
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
49
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي
أما تتقي الأعداء والليل مقمر
وقلن: أهذا دأبك العمر سادرا؟
أما تستحي أو ترعوي أو تفكر
50
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فآخر عهد لي بها حين أعرضت
ولاح لها خد نقي ومحجر
وليلة غير خطرة؟
قد عرفت القبول منها لعذري
إذ رأتني منها أريد اعتذارا
ثم قالت وسامحت بعد منع
وأرتني كفا تزين السوارا
فتناولتها فمالت كغصن
حركته ريح عليه فحارا
وأذاقت بعد العلاج لذيذا
كجنى النحل شاب صرفا عقارا
51
واشتكت شدة الإزار من البه
ر وألقت عنها لدي الخمارا
52
حبذا رجعها إليها يديها
في يدي درعها تحل الإزارا
حد السر
السر يكتمه الاثنان بينهما
وكل سر عدا الاثنين منتشر
والمرء إن هو لم يرقب بصبوته
لمح العيون بسوء الظن يشتهر
اتفاق نادر
ذات حسن إن تغب شمس الضحى
فلنا من وجهها عنها خلف
أجمع الناس على تفضيلها
وهواهم في سوى هذا اختلف
عمر فوق كل شيء
وأنها حلفت بالله جاهدة
وما أهل له الحجاج واعتمروا
53
ما وافق النفس من شيء تسر به
وأعجب العين إلا فوقه عمر
فذاك أنزلها عندي بمنزلة
ما كان يحتلها من قبلها بشر
الشهادة المقبولة!
يا قضاة العباد إن عليكم
في تقى ربكم وعدل القضاء
أن تجيزوا وتشهدوا لنساء
وتردوا شهادة لنساء
فانظروا كل ذات بوص رداح
فأجيزوا شهادة العجزاء
54
ليت للرسح
55
قرية هن فيها
ما دعا الله مسلم بدعاء
ليس فيها خلاطهن سواهن
بأرض بعيدة وخلاء
عجل الله قطهن وأبقى
كل خود خريدة قباء
56
تعقد المرط فوق دعص من الرم
ل عريض قد حف بالأنقاء
57
زعموا وزعم
زعموا أنني بغيرك صب
جعل الله من أحب فداكا
فلو أن الذي عتبت عليه
خير الناس واحدا ما عداكا
ولو اسطاع أن يقيك المنايا
غير غبن بنفسه لوقاكا
حب أشمط
استقلوا ودموعي
قد أربت بانهمال
58
من هوى خود لعوب
غادة مثل الهلال
أشبه الخلق جميعا
حين تبدو بالمثال
إنما ألوت بعقلي
بعد حلم واكتمال
حين لاح الشيب مني
في شواتي وقذالي
59
أيها الناصح! قبلي
فتنت شمط الرجال
60
ففؤادي من هواها
هائم أخرى الليالي
المنبر أخيرا
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي
فأعرضن عني بالخدود النواضر
وكن إذا أبصرنني أو سمعنني
سعين فرقعن الكوى
61
بالمحاجر
فإن جمحت عني نواظر أعين
رمين بأحداق المها والجآذر
فإني لمن قوم كريم نجارهم
لأقدامهم صيغت رءوس المنابر
بصر مغطى
قالت وأبثثتها حبي وبحت به
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها
غطى هواك وما ألقى على بصري
مقايضة
بنفسي من شفني حبه
ومن حبه باطن ظاهر
ومن لست أصبر عن ذكره
ولا هو عن ذكرنا صابر
ومن إن ذكرنا جرى دمعه
ودمعي لذكرى له مائر
ومن أعرف الود في وجهه
ويعرف ودي له الناظر
الأقربون أولى
حي طيفا من الأحبة زارا
بعد ما صرع الكرى السمارا
طارقا في المنام تحت دجى اللي
ل ضنينا بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا
قبل ذاك الأسماع والأبصار
قال إنا كما عهدت ولكن
شغل الحلي أهله أن يعارا
نصح ضائع
زع
62
القلب واستبق الحياة فإنما
تباعد أو تدني الرباب المقادر
فإن كنت علقت الرباب فلا تكن
أحاديث من يبدو ومن هو حاضر
أمت حبها واجعل قديم وصالها
وعشرتها أمثال من لا تعاشر
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
من الدار أو من غيبته المقابر
فإن أنت لم تفعل ولست بفاعل
ولا قابل نصحا لمن هو زاجر
فلا تفتضح عينا أتيت الذي ترى
وطاوعت هذا القلب إذ أنت سادر
وما زلت حتى استنكر الناس مدخلي
وحتى تراءتني العيون النواظر
شراب شاف
كيف اصطباري عن فتاة طفلة
بيضاء في لون لها ذي زبرج
63
نافت على العذق
64
الرطيب بريقها
وعلى الهلال المستبين الأبلج
لما تعاظم أمر وجدي في الهوى
وكلفت شوقا بالغزال الأدعج
65
فسريت في ديجور ليل حندس
متنجدا بنجاد سيف أعوج
66
فقعدت مرتقبا ألم ببيتها
حتى ولجت به خفي المولج
حتى دخلت على الفتاة وإنها
لتحط نوما مثل نوم المنهج
67
فوضعت كفي عند مقطع خصرها
فتنفست نفسا فلم تتلهج
فلزمتها فلثمتها فتفزعت
مني وقالت: من؟ فلم أتلجلج
قالت: وعيش أبي ورحمة إخوتي
لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خوف يمينها فتبسمت
فعلمت أن يمينها لم تحرج
فتناولت رأسي لتعلم مسه
بمخضب الأطراف غير مشنج
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
68
حبذا
ألا حبذا حبذا حبذا
حبيب تحملت منه الأذى
ويا حبذا برد أنيابه
إذا أظلم الليل واجلوذا
69
أكبر الكبائر
إن من أعظم الكبائر عندي
قتل حسناء غادة عطبول
قتلت باطلا على غير ذنب
إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
70
مفتون فاتن
وغضيض الطرف مكسال الضحى
أحور المقلة كالريم الأغن
مر بي في نفر يحففنه
مثل ما حف عباد بوثن
راعني منظره لما بدا
ربما أرتاع بالشيء الحسن
قلت: من هذا؟ فقالت: بعض من
فتن الله بكم فيمن فتن
قلت: حقا ذا؟ فقالت قولة
أورثت في القلب هما وشجن
يشهد الله على حبي لكم
ودموعي شاهد لي والحزن
قلت يا سيدتي عذبتني
قالت: اللهم عذبني إذن!
معالم الطريق
إن لي عند كل نفحة ريحا
ن من الورد أو من الياسمينا
نظرة والتفاتة أترجى
أن تكوني حللت فيمن يلينا
اختصار!
جعلت طريقي على بابكم
وما كان بابكم لي طريقا
صرمت الأقارب من أجلكم
وصافيت من لم يكن لي صديقا
على سنة الناس
أراني وهندا أكثر الناس قالة
علينا وقول الناس بالمرء يلحق
فإن نحن جئنا سنة لم تكن مضت
فنحن إذن مما يقولون أخرق
وإن كان أمرا سنه الناس قبلنا
ففيم مقال الناس فينا: تفرقوا
أحق بأن لم تهو غانية فتى
وأن أناسا لم يحبوا ويعشقوا
ولو في الطريق
أحب لحب عبلة كل صهر
علمت به لعبلة أو صديق
ولولا أن تعنفني قريش
وقول الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذا التقينا قبليني
ولو كنا على ظهر الطريق
فما قلب ابن عبد الله فيها
بصاح في الحياة ولا مفيق
زينبه وعمرها
بعثت وليدتي سحرا
وقلت لها خذي حذرك
وقولي في ملاطفة
لزينب نولي عمرك
فإن داويت ذا سقم
فأخزى الله من كفرك
فهزت رأسها عجبا
وقالت هكذا أمرك؟!
أهذا سحرك النسوا
ن قد خبرنني خبرك
وقلن إذا قضى وطرا
وأدرك حاجة هجرك
وهل يخفى؟
قلن يسترضينها منيتنا
لو أتانا اليوم في سر عمر
بينما يذكرنني أبصرنني
دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قلن: تعرفن الفتى ... قلن: نعم
قد عرفناه، وهل يخفى القمر
ذا حبيب لم يعرج دوننا
ساقه الحين إلينا والقدر
فأتانا حين ألقى بركه
جمل الليل عليه واسبطر
71
ورضاب المسك من أثوابه
مرمر الماء عليه فنضر
في المسجد
لقيته صاحبته في المسجد ينظر إلى نساء وفي يدها خلوق - أي طيب - من خلوق المسجد، فمسحت به ثوبه ومضت تضحك، فقال:
أدخل الله رب موسى وعيسى
جنة الخلد من ملاني خلوقا
مسحته من كفها بقميصي
حين طافت بالبيت مسحا رقيقا
غضبت أن نظرت نحو نساء
ليس يعرفنني مررن الطريقا
وأرى بينها وبين نساء
كنت أهذي بهن بونا سحيقا
في الحلم
أيا من كان لي بصرا وسمعا
وكيف الصبر عن بصري وسمعي
يقول العاذلون نأت فدعها
وذلك حين تهيامي وولعي
أأهجرها وأقعد لا أراها
وأقطعها وما همت بقطعي
وأقسم لو حلمت بهجر هند
لضاق بهجرها في النوم ذرعي
ناپیژندل شوی مخ