وقد يجعل حسن «المصادفة» خاصة من خواص الشعر يعول عليها ولا يستغني عنها، ولا تصلح المصادفة عنده أساسا من أسس الأدب الخالق أو الأدب الناقد؛ لأنه في الحالتين محتاج إلى أعمال الروية وانتظام التفكير.
وأصح ما في مقاييسه للشعر أو للأدب أنه عرف بها حدود فنه وحدود ملكته أو حدود المسموح به وغير المسموح به لشعره وأدبه، فانصرف إلى الشعر والأدب الذي تغني فيه الريشة غناء القلم، وتنقله الألوان من متناول الضمير إلى متناول العيان، فهو مصور في كل سطر من سطوره وكل بيت من أبياته، وهو مصور ألوان قبل أن يكون مصور أشكال أو مصور حركات، وعالمه كله من العوالم التي يحيط بها نظر الجالس على سجيته في ظلة من ظلل الطبيعة، ويده على منظاره يرفعه إلى عينه، كلما أراد أن يقرب ويستوثق دون أن ينتقل إلى بعيد، وسواء هنا بعيد الأمكنة والمطارح، وبعيد الأزمنة والأفكار.
ومن عادته في تصوير اللون أن يستقصي كل مسحة، وألا يدع في الصورة شية من الشيات البارزة أو المطوية بين الجوانب الخفية بغير إشباع وتثبيت؛ فلا يكفيه أن يقول عن الزهرة الصغيرة أنها حمراء، أو ذهبية، أو ذات لون غالب عليها يدل على ما عداه، بل يحصر النظر فيها ولا يحوله عنها إلا إذا فرق عليها ألوانه، وقال لنا كيف تكون حمراء هنا، وصفراء هناك، وضاربة إلى الخضرة أو السواد في هذه الحاشية، أو تحت تلك الزاوية إلى غاية من التدقيق والاستقصاء تمل القارئ أحيانا لولا ما يتخللها من لمسات العطف ونفحات البهجة بالجمال.
وطريقته في فهم شيء من الأشياء - بل في فهم إنسان مجهول أو إنسان معروف - أن يعطيه صورة ويسبغ عليه ألوانا ويرمز إلى أفكاره الباطنة بهيئة من الهيئات التي تقع تحت الحس، أو تقع تحت المنظار من بعيد، في وضوح تارة، وفي غموض لا وضوح فيه تارات.
وكذلك يرسم نقده لمشاهير الأدباء رسما تدركه العين، ثم تدرك معناه من طريق الرموز والإشارات، وفلتات التعبير على انقطاع بينها يكاد يلحقها بالخطوط والنقاط، ويخرجها من عداد الكلمات والحروف، ولكنه تخفف من هذه الرموز في صوره الأخيرة، واستعاض منها بأشكال الخيال التي يبث فيها الحياة، ويرسلها أشباحا في الظلام تستغني بالظلال عن الألوان.
من قبيل هذه الصور التي تنوب فيها الأشباح عن الألوان صورة النوافير في جنة العريف التي ترجمنا سطورا منها في الصفحات التالية؛ فهو إذا وصفها تحت جنح الليل لم ينظر إلى شيء منها يفيض عليه ألوانه وشياته كما تعود أن يصنع بكل منظور تحت أشعة النور، ولكنه يستمع إلى أصوات الماء في صعوده وهبوطه، وفي أنينه وزئيره، وفي انسيابه واندفاعه، فيرسلها ظلالا ويجعل الظلال أشباحا، ويطلق حولها من أوهام الخوف والهرب، أو أصداء الضحك والمرح، أو صرخات الذعر والجنون، أو وسوسة الندم والإعياء، فنونا من القصص تلائم أصوات الظلام، وتتوارى فيها الأطياف غير أشباح وأوهام؛ فهو في تصويره إما ناظر يغرق مناظره في أقواس قزح، وأما سامع تختفي أمامه الألوان، فينتقل بها من عالم النور إلى عالم الظلال، ويصور الظلال من جانب السمع بعد أن خفيت عليه من جانب العيان.
وغاية ما يقال عن دنياه وعن الطبيعة كلها في دنياه إنها خلقة فنية يقيسها بمقاييس الذوق، ولا يعرف لها تقسيما غير تقسيم الحسن والقبح وجودة الأداء وسوء الأداء، وغاية ما تبلغ من رضاه أنها تدعو إلى إعجاب، أو تدعو إلى امتعاض وانقباض، ولكنه امتعاض لا يشتد عنده ولا يثور أبدا ثورة السخط والاشمئزاز؛ لأنه في حدود الذوق يقنع بالاستحسان أو الاستهجان، ولا يتسع وجدانه الفني لثورة من ثورات الشعور تدفعه إلى ما وراء ذلك، فليس عنده لما ينكره الذوق درجة من السخط وراء حد الإعراض، أو تحويل الوجه عن المنظر الدميم!
وهو يسمي هذه العلاقة الفنية بينه وبين الطبيعة وبينه وبين الدنيا كلها بوحدة الوجود.
وتصدق هذه التسمية جد الصدق على اعتبار واحد، وهو اعتبار الوجود كله متحفا واسعا يجري فيه الخير والشر، والحق والباطل، والقدرة والعجز، والإحسان والإساءة على سنة الذوق بمعيار الفن الجميل، ثم يتساوى فيه كل مخلوق وكل شيء، كما تتساوى صورة الملك وصورة الشيطان، أو تتساوى صورة الحورية وصورة الغول في عمل الفنان القدير، إذا نظرنا إليه بمقياس الإتقان وصدق الأداء. فلا محل في هذا المتحف لتنازع البقاء، ولا لعبادة القوة، ولا لسورة البطولة، ولا للصراع بين ما يستحق البقاء وما يستحق الفناء؛ لأنها جميعا في مكانها من المتحف سواء، وكل منها صالح في النهاية لأن يستخرج منه شيء للفن يوضع فيه حيث يضعه الفنان الكبير.
وقد عاش خيمنيز حياته يتعبد بوحدة الوجود، ويتذوق الإيمان بعقيدة الفنان والمتفرج في آن، وارتضى من حياته ما يرتضيه المتفرج الذي يتقبل من الدنيا كل ما تلقاه به غير ما يقطع عليه الفرجة، وينغص عليه متعة التأمل وسكينة العابد الناسك في هذا المحراب، ولم يحفل بوجود قط وراء هذا المتحف المزدحم أمامه بالصور والألوان.
ناپیژندل شوی مخ