يقول الأستاذ (جب) في الفصل الذي كتبه عن الأدب من مجموعة التراث الإسلامي:
إن أول هذه القضايا أصعبها وأوفرها حظا من الخلاف والمناقضة؛ فهناك نموذج جديد من الشعر له مجال جديد ونزعات اجتماعية جديدة وفن جديد يظهر فجأة إلى الوجود في جنوب فرنسا عند نهاية القرن الحادي عشر، ولم يكن في شعر فرنسا قبل ذلك بادرة تتجه إلى هذه الوجهة، ولكنه من الناحية الأخرى على مشابه قوية من بعض نماذج الشعر العربي المعاصر في البلاد الإسبانية، فأي شيء أقرب إلى المعقول من الظن بأن شعراء پروڤنس الأوائل كانوا يقتدون بالنماذج العربية.
إن هذا الرأي كان يلقى القبول الذي لا يتعرض لغير القليل من المناقشة عدة قرون، وكان أشد مؤيديه ومقرريه جياميري باربييري في إبان النهضة السلفية (الكلاسيكية)، كما بسط في كتابه عن أصول الشعر الذي طبع سنة 1790، وكانت الأذهان لا تزال مشبعة بسحر الشرق حين اتجهت الأفكار عامة بقيادة سسموندي وفرييل إلى القول بالشبه القريب بين الشعر العربي وشعر پروڤنس، ولم يتغير هذا الاتجاه إلا بعد فترة حوالي منتصف القرن التاسع عشر؛ إذ بدت بين المستشرقين ودعاة الأدب (الرومانتيكي) ومباحث اللغة التي تدور عليه حركة معارضة لذلك الرأي، وراح النقاد يطالبون أصحابه بالأسانيد التي تثبت الصلة بين پروڤنس والأندلس ولا يجدونها، فيذهبون إلى الطرف الآخر منكرين مفرطين في الإنكار، وإذا عزونا ذلك بغير نية سيئة إلى الحماسة الوطنية التي كانت تعم شعوب الغرب يومئذ، فمن العسير مع هذا أن نجد ناقدا (رومانتيكيا) يقدم على الدفاع عن فكرة التأثير العربي أمام آراء المستشرق المشهور دوزي الذي ينفيه ويسخر منه.
إلا أن الرأيين - على إفراطهما في الإثبات والنفي - لا يعتمدان في الحقيقة على سند غير مجرد التخمين ، فلم يأت من قبل البحث التحليلي الذي يجريه المستشرقون غير سند قليل، أو لا سند على الإطلاق. ولكن البينة الحديثة التي تبرز الآن إلى الضوء تذهب بعيدا إلى إزالة كل شك في وجود أثر محقق لشعر الجنوب على شعراء پروڤنس؛ فإن جدة شعرهم لا تظهر في موضوعاته، بل في الأساليب التقليدية التي يصاغ فيها. فليست هذه الحرارة النابضة تعبر عنها تلك اللهجة المصقولة الغنية بالأخيلة والصور شيئا مألوفا قبل ذلك في الأغاني الشائعة على سذاجتها واندفاعها؛ إذ هي نظرية عاطفية، ونحلة مجازية رومانتيكية، وعارض من داء النفس تمكن إثارته بالوسائل الفنية، ولا يجنح إلى الهيام بالبنت العذراء بل بالمرأة الزوجة التي يستمد الشاعر من رعايتها وخدمتها زادا يستوحيه ويسمو به ويعيش عليه، فمن أين جاء فن العشق هذا؟ ومن أي مصدر صدرت نحلة (السيدة) هذه بعد نحلة العذراء؟ إنها لم تصدر من تقاليد القوم كما تعرضها آدابهم، سواء أكانوا من التيوتون أم الرومان؛ فقد كان نساء القرون الوسطى - كما قال بروتنيير - يحنين الرءوس إلى أهون حضيض هبطن إليه تحت شريعة العسف والحيوانية، ولم يكن لتلك الرعاية أثر في عرف الفروسية التي كانت يومئذ آخذة في الظهور بين أبناء الطبقات العليا. فما كان هذا الحنين العاطفي على وفاق مع عقيدة الصولة والقتال، وما كانت هذه المثالية التي تتعلق بالأنثى المرأة إلا على نقيض المثالية التي تشيد بها الكنيسة حول البنت العذراء، ولو أنها نشأت من شغف الشاعر بسيدة القصر التي ترعاه لقد كانت خليقة أن تصاغ في قالب أقرب إلى التواضع والاستكانة، ولم يؤثر عن أدب اليونان واللاتين بين عصريهما الذهبي والفضي ما يحسب أساسا لمثل هذا الشعور، بيد أنه ولا شك مستمد من تقليد أدبي مقرر، وإن ذلك التقليد الأدبي لحقيق أن يبحث عنه على الأقل في شعر الأندلس العربية؛ إذ كان الشعر العربي في القرن الحادي عشر قد مضى عليه زمن طويل وهو ينمو ويتطور على تقاليده الموروثة، ومهما يكن من طول هذا الزمن، فما من عهد غبر عليه كان خلوا من نظم قوامه العشق والغزل.
وأقدم ما عرف منه شعر البادية بصوره المترددة في لغته المصقولة وتشبيهاته الدقيقة وأوزانه المركبة وقوافيه المحكمة؛ لأن اللغة العربية كانت أول لغة حرصت على القافية المتواترة التي لا تسمح بالخلل، وكانت كل قصيدة من قصائده تفتتح بالشكوى من فراق الحبيبة التي تتجدد ذكراها عند مشهد الأطلال في الربوع المهجورة، ولما انتقل الشعر من البادية إلى الحاضرة لازمته نغمة الغزل، وازدادت فيه توكيدا وتكرارا مع الصقل والتهذيب الذي أحل الرقة الملطفة محل المتاع الحسي الصريح في غزل الصحراء، ونشأت المقطوعة الغنائية التي يتحدث فيها الشاعر عن نفسه وعن عاطفته بعد القصيدة المطولة، ومضت بضع عشرات من السنين استنبط فيها الشعر العربي نبعا جديدا من الفكاهة وصدق الوصف لأحوال الحياة قبل أن تستقر المقطوعة الغنائية على أسلوبها وتقاليدها، وتولد منها في نظم شعراء القصور الملكية ضرب من الغزل واللهو الظريف، يشترك فيه النغم الموسيقي وطلاوة الصناعة لتحل محل البواعث النفسية القوية. أما جمهور الشعراء من سواد الأمة فقد استخدموا مقطوعة الغزل للتعبير عن هوى الشاعر المدنف الذي ذهب الحب العذري بلبه شوقا إلى حبيبة مثالية لا مطمع فيها، واستخدمها المتصوفة للتعبير عن معان أخرى من الحب الروحاني الرفيع رمزا لأشواق الروح وتقديسها للمحبوب، وغلبت نغمات الحب الحسي الجريء وأخيلته على شعر المتصوفة من العرب والفرس على السواء. وأحق أطوار هذا الشعر الغنائي بالتنويه نشوء أدب واضح المعالم حول الحب الأفلاطوني ممتزجا بالفكرة الاجتماعية الأخلاقية عن الحب التي هي حصة بلاد العرب من المساهمة في هذا الأدب.
وقد كان بعض شعراء القصور في بغداد في زمن لا يرجع إلى ما قبل القرن الثامن قد عكفوا على النظم في هذا الضرب من الغزل، ولم يكد ينقضي على ذلك قرن واحد، حتى كان شاعر فتى لم يعد سن الصبا الباكر يدون منظومات هذا الغزل في كتاب شائق سماه كتاب الزهرة، وقسم فيه ألوان الحب مع الشرح والتعليق، ذلك الفتى الشاعر هو ابن داود، ابن الرجل الذي أسس مدرسة من أشد مدارس الإسلام تزمتا وغيرة على الدين وخليفته على مدرسته، وقد فصل في الكتاب سجايا الحب وآدابه وأساليب التعبير عنه على هدى الحديث الذي أسنده إلى النبي، وفحواه أنه «من عشق فكتم فعف فمات فهو شهيد».
وإن وحدة الثقافة في العالم الإسلامي قمينة أن تنبت بذور هذا الضرب من الغزل كذلك في بلاد الإسبان، وإن كان قد تطور هنا على نحو آخر يلائم الامتزاج بين العناصر العربية والعناصر الإسبانية مع الحافز الدائم من الشعور بالصراع مع الدول المسيحية في الشمال، ولم يحدث قط في عصر من عصور الأدب العربي أن شاع بين جميع طوائف الناس ولع بالشعر كهذا الولع به بين ربوع الأندلس، ولا استعداد كهذا الاستعداد لتلقي وحي الجمال والقدرة على أدائه باللفظ الذي يجمع بين الأناقة وجيشان الشعور، ومن الشعراء المعروفين وغير المعروفين ممن نظموا في هذه المقاصد سعيد بن جودي الذي ذكره دوزي، وكان مثلا يحتذى فيما تقرر هنا أيضا من أدب الغزل العذري، وقد تحدث الناس بابن حزم، وسار بذكره المثل في الصلاح وشدة المراس، كما سار بذكره المثل في الغرب لاعتباره مؤسسا لبحوث المقارنة بين الأديان، وإن هذا الرجل مع هذا ليتصدى للكتابة في موضوع العشق، ويسوق الشواهد عليه من نظمه على نمط ينافس به كتاب الزهرة وقد يعلو عليه، وهو يتقبل مبدأ الحب الأفلاطوني، ويراه سببا من أسباب ائتلاف أجزاء النفس الموزعة وبلوغها مبلغ الوحدة الكاملة في الحياة الأرضية، ويبسط على هذه القاعدة من (الرومانتيكية) الصافية تحليلا للحب يعتبر من وجوه كثيرة أنه هو الحب الذي تغنى به الشاعر الجوال - التروبادور - في القرن التالي، وإن كان الشعراء الجوالون قلما ارتفعوا إلى أوجه في آفاقه المتوهجة.
ورأي الأستاذ جب في هذه المدرسة الغزلية التي انفردت بها آداب العرب هو الرأي الغالب بين فئة راجحة من المؤرخين المتخصصين لدراسة القرون الوسطى في أمم الغرب، ولا سيما الأمة الإسبانية، ومن أشهرهم وأوفرهم دراسة للأداب الإسباني الأستاذ جيرالد برينان
Brenan
صاحب كتاب آداب الأمة الإسبانية،
ناپیژندل شوی مخ