Series of Faith and Disbelief - Introduction
سلسلة الإيمان والكفر - المقدم
ژانرونه
معنى قول أهل السنة: الإيمان هو التصديق
محال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي ﷺ: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فمن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في تعريف الإيمان: هو التصديق، فعلى ظاهر اللغة، كما قال الله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف:١٧] فهو إنما يقصد التصديق الذي يستلزم الانقياد والإذعان لا مجرد المعرفة كما يقول المرجئة؛ كما في قوله ﵎: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات:١٠٣ - ١٠٥] ومعلوم أن هذه الرؤيا كانت وحي من الله فقط، وما أطلق عليها تصديقًا حتى انضم إليها الانقياد بأن أسلم هو وولده وتله للجبين حينئذ لما انضاف إلى التصديق العمل والانقياد والإذعان، فالقلب هو ملك البدن، فإذا وجد عمل القلب بالإذعان، فلابد أن يذعن في الظاهر بأعمال الجوارح، والدليل هذا الحديث: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، يعني: إذا وجد عمل القلب من الإذعان والخضوع والانقياد والمحبة إلى غير ذلك، ينعكس ذلك على الجوارح، فهذا عكس ما يردده أغلب الناس ويسيئون تطبيق هذا الحديث بعد أن يسيئوا فهمه، فيقولون: الإيمان في القلب، وهذا الحديث حجة عليه، كما قال شيخ الإسلام: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية وحديث لإثبات باطله إلا وكان في نفس الآية والحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه، وهذه من آيات الله أنك إذا عكست الدليل عليه تجد الحجة قائمة عليه تمامًا؛ فكذلك هنا قوله: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، فالقلب يؤثر في البدن، والظاهر أيضًا يؤثر في القلب، هناك تفاعل مشترك بين الأمرين؛ فمثلًا الذي يحلق لحيته ويقول: إن الأعمال بالنيات، وإن قلبي سليم! نقول له: كذبت وخالفت قول رسول الله ﷺ؛ لأن الرسول ﷺ قال: إذا صلح القلب صلح الجسد، وانعكس على ظاهره الأعمال الصالحة سواء من إعفاء اللحية والتمسك بسنة النبي ﵊، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وسائر الأعمال الظاهرة، فهذه تكون عنوانًا على سلامة هذا القلب؛ كذلك القلب السليم ينضح بهذه الأعمال الصالحة.
فالمقصود أن من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق؛ فإنما أراد التصديق على أساس أصل اللغة؛ لكن الإيمان في الاصطلاح هو التصديق المستلزم للانقياد.
وهذا مقياس في الظاهر والباطن ليس فقط في الظاهر، فلم يعنوا مجرد التصديق، والدليل: أن إبليس لعنه الله لم يكذِّب ولم يشك في أن الأمر له بالسجود هو من عند الله ﵎، وإنما الذي تخلف عن إبليس هو عمل القلب وهو بالانقياد في هذا الأمر، لذا كان إباؤه كفرًا واستكبارًا.
كذلك اليهود كانوا يعتقدون صدق رسول الله ﷺ، ولم يتبعوه جحودًا وعنادًا، وفرعون كان يؤمن أن موسى رسول الله حقًا، والأدلة على ذلك موجودة في القرآن الكريم وهي كثيرة، منها: قوله ﵎: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:١٤]، ويقول ﵎ في آخر سورة الإسراء: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:١٠١]، فماذا أجاب موسى وموسى صادق مصدوق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟ ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء:١٠٢]، فهذا دليل على أن فرعون كان عنده يقين ومعرفة أن هذا رسول الله حقًا وصدقًا؛ لكنه لم ينقد له.
وهناك آيات أخرى في سورة الأعراف وغيرها من السور فيها إثبات أن القوم لما كان ينزل بهم سخط الله وعذابه كانوا يهرعون إلى موسى، يقول: ﴿يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ [الزخرف:٤٩]، ثم ينقضون العهد بعد ذلك كما هو معلوم في سورة الزخرف والأعراف أيضًا.
فالشاهد أن هؤلاء كانوا يعرفون صدق الرسول؛ لكن لم ينقادوا إليه، وفرعون كان يعتقد صدق موسى ولم ينقد له، بل جحد بآيات الله ظلمًا وعلوًا، فأين هذا التصديق من تصديق من قال الله تعالى فيه: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر:٣٣]؟ وحتى تتمثل الأمر بوضوح؛ لأنه ربما يلتبس على الإنسان الفرق بين قول القلب وعمله، نقول: فرعون كان عنده القول بالقلب؛ وإبليس كان عنده القول بالقلب، واليهود الذين صدقوا بنبوة النبي ﵊ كان عندهم القول بالقلب، لكن لم يوجد عندهم عمل القلب، وهو الانقياد والإذعان والمحبة وغير ذلك من الأعمال القلبية.
إذًا: تذكر قوله ﷿ في حق فرعون وقومه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:١٤]، وقارن هذا التصديق الذي كان عليه فرعون وقومه بالتصديق الذي جاء في قوله ﵎: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر:٣٣]، قارن أيضًا تصديق اليهود الذين قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [النساء:٤٦]، و: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة:٧٦]، فقارن بين هذا التصديق وتصديق الذين قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:٢٨٥]، فلابد أن نفرق بين قول القلب وبين عمل القلب، قول القلب هو التصديق واليقين، أما عمل القلب فهو الانقياد والمحبة والإذعان لما أمر الله ﵎ به، فهذا خلاصة شرح قول صاحب سلم الوصول إلى الأصول: اعلم بأن الدين قول وعمل فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل يعني: ما اشتمل عليه هذا الكلام من أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح.
5 / 13