هناك طلب أن يرى زوجته وبناته، فقيل له إن ذلك غير ممكن، وقدموا له ترويقة فاعتذر شاكرا، ولكنه قبل فنجانا من القهوة متناولا إياه بيمناه، وأسنده بيسراه. وكانت تسمع للقيد رنات كلما ارتطم بالفنجان.
وكان الزعيم يبتسم صامتا هادئا مجيلا عينيه من وجه إلى وجه كأنه يودعنا مهدئا من روعنا. هنا انفجرت أنا بالبكاء، وبكى معي بعض الضباط، بل إن أحدهم أجهش وانتحب.
وبعد أن شرب القهوة عاد يصر على لقاء زوجته وبناته، فسمع الجواب السابق.
وسئل لمن يريد أن يترك الأربعمائة ليرة التي وجدت معه، فأجاب: إنها وقطعة من الأرض في ضهور الشوير هي كل ما يملك، وهو يوصي بها لزوجته وبناته على التساوي.
وطلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه أن ذك مستحيل، فسألهم ورقة وقلما فرفضوا، قال: إن لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ، فصرخ به أحد الضباط منذرا: «حذار أن تتهجم على أحد لئلا نمس كرامتك.» فابتسم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمس كرامتي، ما أعطي لأحد أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه، وأردف يكرر: «لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ، وأن يسجلها التاريخ.»
فسكتنا جميعا في صمت يلمس سكونه ويسمع دويه.
أصارحك أنني كنت في دوار من الخجل، ومن المؤكد أنني لا أعي كل ما سمعت، ولكن الراهن أني سمعته، سمعته يقول: أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعد السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني. أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاما لموتي. كلنا نموت، ولكن قليلين منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب. يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه يستسقي عروقنا من جديد.
ومشينا إلى حيث انتظرتنا السيارات، والزعيم ماش بخطى هادئة قوية يبتسم. إنه لم ينفعل، كأن الإعدام شيء نفذ به مرات عديدة من قبل. إنه لم ينفجر حنقا أو تشفيا. إنه لم يتبجح شأن من يستر الخوف.
في تلك اللحظات وددت لو خبأته بجبتي، لو تمكنت من إخفائه في قلبي أو بين وريقات إنجيلي. إن عظامي لترتجف كلما ذكرته.
وحين خرجت إلى الباحة، رأيت إلى يميني تابوتا من خشب: من خشب الشوح، لم يخف الليل بياضه، وتطلع الزعيم إلى نعشه فلم تتغير ملامحه ولا ابتسامته.
ناپیژندل شوی مخ