ثم استأذن الشيخان في الانصراف وخرجا، فقال النيلي: أراك عابسا جازعا أبا كاظم، فماذا قال لك؟؟ - ماذا قال لي؟؟ إني لم أسمع كلاما، إنما سمعت رعدا وعزيفا وصواعق ... إنها مصيبة جارفة ... هلم إلى فندقنا، فإننا لا نستطيع الكلام في الطريق.
وصلا إلى الفندق واجمين، ودخلا حجرتهما، وأغلقا بابها، وحدث الحراني النيلي بما سمعه من مفلح، فاكفهر وجهه وقال: ضعنا وضاعت زبيد. - الرأي عندي: أن أذهب الليلة مستخفيا إلى زبيد، حتى إذا نزلتها أخذت سمتى قدما إلى قصر فاتك، وطلبت مقابلته وحده، حتى إذا نفضت إليه جملة الخبر عدت من ليلتي غير متوان، ولا معوق ... سأرحل الآن.
ثم قام وذهب إلى سوق البزازين، فاشترى إزارا ورداء، حتى إذا لبسهما لم يكن يميز من أعراب البادية، وودع النيلي، وذهب إلى محط القوافل ليستأجر جملا إلى زبيد.
الفصل الثالث
امتطى الحراني جملا شديد الأسر، موثق الخلق، مارس الصحراء ومارسته، وتحدته بوعورتها، وبعد شقتها، فتحداها بصبره وشدة جلده، حتى لقد أصبح الضرب في الفيافي جزءا من حياته، لا يكاد يجد له ألما، أو يشكو منه عنتا! سار الحراني وقد لفه الظلام برداء حالك السواد، طرز بثواقب النجوم، سار في صحراء لا يسمع بها إلا عواء ذئب برح به السغب، وشفه الظمأ، ولا يرى فيها إلا تهاويل من الخيال، دميمة الوجوه، فاغرة الأفواه، تتراقص أمامها كأنها تستهويه إلى موت محقق، وكان الحراني متجهم الوجه، منقبض الصدر، مضطرب الفكر، يخشى أن يكون بغض أسرة زيدان قد جاوز به حد الحزم، ودفع به إلى ما لا يجمل بالحذر الحريص، وكلما صور الحوادث التي زلقت بها رجله، وزجه فيها حقده، رأى أنها لم تكن من الإحكام ودقة التدبير بحيث يرضى عنها دهاؤه، أو يستسيغها ذوقه الفني في نصب الأشراك، وابتداع الجرائم، وقد كان في متناول ذكائه من ضروب الحيلة وأساليب المكر ما كان أدق صنعا، وأبعد عن العقول إدراكا، وأخفى على الباحث المنقب، ماذا فعل؟ وماذا قدر؟ وماذا دبر؟ مكيدة مكشوفة مهتوكة الستر، كأنها عبث أطفال، لقد نال من عمارة، وانتقصه أمام الحضرمي، وهو له أصدق صديق، وأوفى خليل، فإذا أصاب آل زيدان من فاتك أذى أو ضرر كان من الهين السهل أن تتجه العيون إلى الحراني، وأن تشير إليه بالأكف الأصابع، ثم ماذا فعل بعد هذا؟! ذهب مع النيلي إلى «مفلح»، ومن هذا المفلح؟! بائس تركه مبضع الجرائحي وسطا حائرا بين الرجال والنساء، فلا شهامة الرجل نال، ولا بدهاء المرأة ظفر، ثم إن الذي يفرط في سر سيده - وهو سر دولة - أجدر بأن يهب ما في صدره مسئولا أو غير مسئول، وأن يبعثر ما في نفسه في الأسواق على أن هذا الغر الأحمق مفتون بشيء اسمه السنية عدو خفي للفاطمية.
وبنو زيدان أقوى قبائل اليمن، وأشدها تمسكا بالمذهب السني، فليس في مجال الوهم ببعيد أن يبعث إليهم هذا الجاهل رسولا، يخبرهم بما كان من زيارتي، وزيارة النيلي لداره، ثم إن ما بيني وبين علي بن زيدان من الثأر القديم كفيل بأن يحمله على الاعتقاد بأن لي في هذه المكيدة يدا، وأني كنت أول ساع بعمارة عند فاتك، وأول مؤلب عليه، حقا إنها دسيسة لم تحكم أطرافها، ولم تستر فخاخها، ولكن ماذا أعمل الآن، وقد انطلق السهم الطائش!؟
ألا سحقا لعلي بن زيدان، لقد كان ما أوقعه بأبي منذ سنين من شديد العقاب والخزي الدائم سببا لهذا الحقد الذي يملأ صدري على أسرة زيدان، وكل من يتصل بها. وماذا كان فعل أبي في شبابه؟ أحب فتاة من حيهم وأحبته، فأبوا أن يزوجوه إياها كبرا وصلفا؛ لأنهم يرون الناس جميعا دونهم، ولأنهم لا يصاهرون إلا من كان من قبيلتهم، كأنهم يخشون على هذه السلالة الطاهرة أن تدنس بغير نسبهم، وكان يجدر بأبي - سامحه الله - أن يقابل كبرهم بمثله، وأن يخضع تلك النزوة الطائشة التي يسمونها الحب لسلطان الكرامة والاعتزاز بقومه وقبيلته، ولكنه لم يفعل، واختطف الفتاة من خبائها في ليلة سوداء ، فأحس به القوم فأدركوهما، وقتلوا الفتاة، وهموا بقتل أبي، ولكن شريرا لئيما منهم أشار بأن يستبقوه لحياة هي شر من الموت، أشار بأن يبقى حيا، وأن يوصم وصمة اللصوص؛ فاستطابوا الرأي، وأوقدوا النار، ووسموه فوق جبهته، وفوق خديه بعلامات يوسم بها السراق وقطاع الطريق، ثم تركوه بالصحراء يئن من الألم، ويئن من الخزي والعار. ووالله ما جلست بعد هذا اليوم مجلسا، ولا سرت في طريق إلا وكأني أرى جميع الأصابع تشير إلي: هذا ابن السارق الموصوم! لا ... لا ... لا بد من الانتقام من آل زيدان، كيفما كانت قوتهم، وكيفما كان عديدهم، وسأتخذ من ضعفي قوة للكيد لهم والوثوب عليهم؛ إن البعوضة لا تنال باليد، ولكنها تطن وتلسع، فإذا حاول من لسعته قتلها لطم خديه، وهذا عمارة صيد سهل، سريع الوقوع في الشرك، فإن ما جبل عليه من الصراحة والطموح والتهور في طلب ما يريد كفيل بأن يوقعه في أهون الدسائس حبكا.
كان الحراني يناجي نفسه وهو حزين مطرق، تتناهبه الأفكار، ويؤلمه طائف الذكريات، ويقبضه الخوف من الإقدام فيبسطه الحقد وشهوة الانتقام، وهو بين هذا وذلك يتسمع أحيانا لصوت ضئيل خافت يهتف به ضميره، أو ما بقي له من ضمير، فيقول: ما هذا الذي أنت فيه أبا كاظم؟! وما هذه العربدة التي ستعود عليك نكالا ووبالا؟! أنت تقف أمام أسرة زيدان! وأنت تكيد لها! وأنت تنصب لها الحبائل! لقد جاوزت طورك، وقذفت بنفسك بين براثن الأسود! وألقيت بيدك إلى التهلكة! إن عبدا من عبيد آل زيدان وحده عسي بأن يقضي عليك وعلى أولادك وأهلك، من غير أن يترك لفعلته أثرا، إن أباك مات منذ حين، ودفن معه عاره، ونسي الناس تلك العلامات البشعة الدميمة التي كانت تشوه وجهه، وطوي ذلك السجل المشئوم، سجل الذل والخزي والشنار. مالك تنبش الماضي؟ وكلما نبشته ملأت جيفته الجو خبثا. أنت تعادي آل زيدان!
هذا إذا عادت النمال الجبال، وصاولت الكلاب السحاب!
عد إلى صوابك أبا كاظم، ثم عد من حيث أتيت، واغسل تلك السخائم التي سودت صدرك بماء من التسامح والغفران، واقتل تلك الحيات التي أكلت قلبك، وأقضت مضجعك بسلاح من الصفح الجميل، فإن الحاقد ينال من نفسه فوق ما ينال من عدوه، وهو أشبه بالنحلة تلسع وتموت، والسهم يقتل ويتحطم، لم لا تعود إلى علمك ودروسك أبا كاظم، وإلى الضحك من ذقون الناس، فتنال من عقولهم وأموالهم، وتعيش بين أهلك هانئا سعيدا؟ دع الدسائس، ودع النمائم، فإن من يكثر من إيقاد النار يوشك أن يحرق كفيه. إن حديث أبيك مضى وانقضى ذكره، ولا يعرف الجيل الجديد عن الحراني إلا أنه شيخ المتأدبين، وزين المحافل. إن في الحياة أمورا كثيرة علاجها النسيان، والجرح إذا أكثرت من حكه التهب ونغل، الو زمام بعيرك أبا كاظم، وعد إلى زبيد، وتجنب فيها مواطن الشبهات حتى تهدأ الفتنة، وتسكن هذه الثائرة، ما لك وللنيلي! ومالك ولابن مهدي! ومالك ولفاتك! ... كل هؤلاء لا يستطيعون أن يدفعوا عنك شر بني زيدان. أنت تدعي الحزم، وهذا هو موطن الحزم. أتسمع؟ ... ولكن الحراني كان في ثورة من الغل غظت على عقله، فصاح: لا أسمع، ولن أسمع، ولن أترك عمارة، ولن أترك آل زيدان، سأنتقم لأبي، وسأذهب إلى فاتك، وسأكشف إليه سر المؤامرة، ولن يصدني عما اعتزمت عليه صاد مما يسميه الناس عقلا أو حزما.
ناپیژندل شوی مخ