وكان ضرغام فارس عصره، شجاعا جميل الطلعة، أديبا شاعرا، فوقف وقال: يا سيدتي إن لدي من الجنود البرقية عشرة آلاف، وهي تكفي لمحو هذا الطاغية، ومحو عصابته، فقالت سيدة القصور: أني لا أقنع إلا برأس شاور.
خرج ضرغام وقضى أياما في إعداد جيشه في الخفاء، حتى إذا تمت أهبته، وثب فجاءة على شاور، فجمع شاور جيشه، ولكنه لم يستطع الوقوف أمام ضرغام، بعد أن ناصره أهل القاهرة، وجمع له الشيخ عبد الحكم جموعا من أحياء العطوف، وبرجوان، والفرحية، والريحانية، فهزم شاور، وقتل ضرغام ابنه طيا، وفر شاور بجيشه إلى الشام للاستنجاد بنور الدين محمود بن زنكي.
وعاد ضرغام إلى القاهرة فائزا تدق أمامه الطبول، وترفع له الرايات، ووصل إلى القصر، وقابلته الأميرة مرحبة مهنئة، وولاه الخليفة الوزارة.
وكان ابن دخان في ذلك الوقت في داره، فالتفت إلى باسمة وقالت: لقد أكثرت من نصح شاور يا باسمة، ولكنه لم يسمع!! - ما دام حيا فلن أفقد أملا ... إنه صل مخادع يعرف متى يدخل جحره، ومتى يخرج منه، ويجب علينا أيضا أن ندخل جحرنا الآن حتى تزول هذه العاصفة. - أتظنين أن لشاور عودة؟؟ - إنه لما حزبه الأمر، وضايقه جيش ضرغام، دعاني فنصحت له بما يعمل، وقد استجاب لنصحي في هذه المرة. - حسنا ... هلم ندخل جحرنا الآن لنعيش سعيدين متعانقين، فقد شغلتك المؤامرات عني.
الفصل الحادي عشر
ترك شاور بعد هزيمته جيشه بالفرما، واتجه مع أخيه نجم، وابنه شجاع، وبعض خاصته إلى دمشق، فدخلها في أصيل يوم من أيام الصيف، ورأى جنود ابن زنكي منتشرين بخيامهم وأثقالهم وخيولهم في أرباضها، ولهم ضجيج وعجيج وحركة. وما زال يسأل عن خيمة العادل محمود نور الدين حتى بلغها، وكانت في غوطة دمشق بين أشجار الفاكهة والرياحين، فنزل شاور ومن معه بخيمة الحاشية، وطلب من حاجب نور الدين أن يعلمه بقدومه، فجاء الإذن بعد ساعة.
ودخل شاور فرأى نور الدين جالسا القرفصاء في صدر الخيمة، وفي يده سبحة تتحرك حباتها بحركات لسانه، وقد جلس إلى يمينه العلماء والفقهاء والمحدثون، وإلى يساره القواد وكبار الجند، وكان نور الدين طويل القامة، أسمر اللون، وسيم الطلعة، فأدى شاور التحية فحياه العادل ورحب بمقدمه، وأخذ العلماء يتناقشون في تفسير آيات في الجهاد، ونور الدين يشاركهم بعض المشاركة، حتى عجب شاور وكاد يظن أنه في صومعة زاهد لا في عرين قائد، حتى إذا انفض المجلس؛ التفت نور الدين إلى شاور وقال: كيف حال مصر؟؟ - مصر يا مولاي في اضطراب مستمر، وأخشى أن ينتهز الإفرنج فرصة ضعفها فينقضوا عليها من الساحل، فإن ضرغاما اللخمي - وهو نصير الفاطميين وعدو أهل السنة - غدر بي وأخذني على غرة، ففزعت إليك، وقد علمت من أيام وأنا في الطريق أنه يراسل الإفرنج ليمدوه بجيش يستعين به على محاربة كل من تحدثه نفسه بإنقاذ مصر. - لا حول ولا قوة إلا بالله!!
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . صدق الله العظيم. - ثم إن الخليفة العاضد ضعيف الرأي، مهزول العزيمة، وعمته سيدة القصور تسيطر على الدولة، وهي حقود مستأثرة، تنظر إلى انتصارات مولاي هنا على الإفرنج بعين البغض والضغينة، وكأن الإفرنج أبناء عمومتها، أما العقيدة الفاطمية التي أكرهت عليها العامة إكراها، فسيدي أعلم بدخائلها وبدعها، وإذا كان مولاي العادل قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، ومحاربة أهل الزيغ، فمصر تدعوه لإنقاذها من الظلم والإلحاد، ومصر تدعوه لحمايتها من غزو الإفرنج، الذي أصبح منها قاب قوسين. - ولكني في شغل شاغل بمحاربة الإفرنج، ولو أرسلت معك جيشا إلى مصر لوثب علينا الإفرنج هنا، واستعادوا ما استنقذناه من أيديهم من البلاد. لا يا ابن مجير ... كل إنسان أولى بمداواة جراحه. - إني لا أطلب إلا جيشا صغير العدد، ينضم إلى جيشي المرابط في مدينة الفرما. - ولا هذا يا ابن مجير، فقد جئت في وقت توالت فيه الأمداد على أصحاب الصليب وقويت شوكتهم. - ما كنت أحسب قبلك يا سيدي أن إنسانا يرفض ملك مصر!! لأكن معك صريحا ... أتحب أن أكون نائبا عنك في حكم مصر، وأن أبعث إليك بخراجها في كل سنة، وأن يخطب الخطباء باسمك فوق كل منبر؟؟
فحملق نور الدين في وجه شاور، ولكنه رأى وجها سمحا متواضعا، ليس فيه أثر للكذب ولا للخديعة، فأطرق وقال: يكون خير إن شاء الله!! وفي الصباح دعا نور الدين أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين، وأخبرهما بما كان من أمر شاور، وأمرهما بتجهيز جيش للذهاب إلى مصر بعد أربعة أيام، وقد حاول صلاح الدين أن يدعو نور الدين إلى التريث في الأمر؛ حتى يظهر صدق شاور، أو إلى أن يطلب من شاور ودائع ثمينة لتكون ضمانا لصدقه، ولكن هيبة ابن زنكي والرهبة منه حبستا لسانه فلم يستطع تكلما.
سافر الجيش الشامي مع شاور وعلى رأسه أسد الدين، وصلاح الدين، والتقى عند الفرما بجيش مصر، ووثب الجيشان على القاهرة، وجمع ضرغام جموعه ووثب في مقدمة جيشه على جيش شاور، فطالت الحرب بينهما، ودمر كل منهما كثيرا من مباني المدينة، وأحرق كثيرا من قصورها، وظفر شاور في النهاية بضرغام فقتله، وشتت جموعه، واستولى على القاهرة.
ناپیژندل شوی مخ