هذه هي الصحراء ... من صخورها خلقت أخلاق العرب، ومن أطيافها تلقوا وحي شعرهم، ومن مداها الفسيح المترامي استمدوا خيالهم، وفي جدبها نبت الإباء العربي، والاعتزاز بالنفس، والكرم، والحمية، والصبر على المكاره.
نظر عمارة أمامه - وهو فوق قتب بغيره - فرأى بحرا مائجا من الكثبان والرمال، ورأى فضاء لا تبلغ العين غايته، ورأى نجوم ليل الصحراء وقد زدن لألاء والتماعا وقربا، كأنها اللؤلؤ اللماح علق بخيوط القدرة بين الأرض والسماء؛ فتنهد وقال: آه أيتها الصحراء!! أين أبطالك الذين ملأوا الدنيا عمرانا وعلما، وشرائع وفنونا؟! أين أبطالك الذين كانوا ملائكة العروش، وشياطين الهيجاء!!
علميني يا صحراء تلك الدروس التي تلقاها خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح!! بوحي أيتها الصحراء لي بسرك الدفين ... فإني عليه جد أمين!!
إني يا صحراء أود أن أكون لك ابنا، فأوصيني بما تشائين ... لي آمال أوسع من مداك، ومطالب صعبة المرتقى كجبالك، فهل أنا بالغ آمالي، فائز بمطالبي؟؟ قولي يا صحراء ماذا يجب أن أفعل!! واهمسي في أذني كما همست في آذان أبنائك الأولين ...
وهكذا ظل عمارة يحدث نفسه، وظلت الإبل تطوي الفلاة، حتى بلغت جدة، فنزل الركب، وتقدم من عمارة نائب الأمير قاسم - وقد سبق إليه خبر قدومه - فأنزله خير منزل، وغمره بصنوف من الحفاوة والإكرام، ثم أعد له سفينة تنقله إلى مصر فأبحر بها في بحر «القلزم»، وكان الجو صحوا، والريح رخاء، فوصل بعد أيام إلى مدينة القلزم «السويس»، ومن ثم استأجر إبلا تحمله، وتحمل أهله ومتاعه إلى القاهرة، وكانت القاهرة في هذا العهد تمتد من ناحية الشمال إلى باب النصر وباب الفتوح، ومن ناحية الجنوب إلى باب زويلة الجديد، ومن الشرق إلى باب البرقية، والباب المحروق، ومن الغرب إلى خليج أمير المؤمنين، وبهذه الجهة باب سعادة، وباب الفرج، وباب القنطرة.
وكانت مزدحمة السكان، واسعة العمران، بها كثير من الجوامع، والربط، والدور العظيمة، والمساكن الجليلة، والأسواق المملوءة بأنواع التجارات، والخانات، والفنادق المكتظة بالمسافرين.
وصل عمارة إلى القاهرة في ظهر يوم من ربيع الأول، سنة خمسين وخمسمائة، وهو شاب في الثلاثين، وسيم الطلعة، مشرق الديباجة، رائع القسمات، معتدل الطول، شديد الأسر، قوي العضل، فسار بأهله من الريدانية إلى باب الفتوح، ونزل في دار تشرف على جامع الحاكم بحارة الريحانية، حتى إذا استراح من لغوب السفر أياما بعث برقعة إلى الوزير ابن رزيك، يطلب فيها شرف المثول أمامه، وأمام الخليفة الفائز، وكتب في آخرها:
دعوا كل برق شمتم غير بارق
يلوك على الفسطاط صادق بشره
وزوروا المقام الصالحي فكل من
ناپیژندل شوی مخ