وما كان يضع مثل هذه الخطة السخيفة أحمق أو مجنون أو طفل، فهي خطة دون بداية ولا نهاية، وإذا كان الجنرال وذو الوجه الملائكي قد وافقا عليها رغم سخفها؛ فذلك لأن كلا منهما كان يرى فيها - على حدة - هدفا آخر مختلفا تماما؛ فبالنسبة للجنرال كاناليس، كانت الحماية التي خلعها عليه ذو الوجه الملائكي تعطيه فرصة أفضل للهرب؛ وبالنسبة لذي الوجه الملائكي، كان نجاح الخطة لا يعتمد على اتفاقه مع كاناليس بل مع السيد الرئيس، الذي كان قد أبلغه هاتفيا بزمان الخطة وتفاصيلها حالما غادر الجنرال منزله. •••
تبدو ليالي أبريل في المناطق الاستوائية كأنها أرامل أيام مارس الحارة، مظلمة، باردة شعثاء، حزينة. ووقف ذو الوجه الملائكي في المنعطف الذي يقع بين الحانة وبين منزل كاناليس، وأخذ يحصي أشباح رجال الشرطة ذات اللون الأخضر الداكن، المتناثرين هنا وهناك، ثم سار ببطء خلف ذلك الصف من المنازل، وفي عودته، دلف إلى باب حانة «الخطوتان» الصغير. كان ثمة رجل شرطة في زيه الرسمي على باب كل منزل من المنازل المجاورة، عدا عدد لا يحصى من رجال الشرطة السرية، يسيرون في عصبية جيئة وذهابا على الطوار. وشعر بنذر شؤم. قال في نفسه: «إنني أشارك في اقتراف جريمة. إنهم سوف يقتلون هذا الرجل حين يغادر منزله». وكلما أمعن فكره في تلك الخطة؛ بدت له أشد هولا. وبدت له فكرة اختطاف ابنة رجل محكوم عليه بالموت بشعة وكريهة، على نحو ما كان يمكن أن يكون الأمر سارا ومناسبا لو أنه ساعد الجنرال على الهرب حقا. ولم تكن طيبة القلب هي التي دفعت هذا الرجل، وهو عديم الإحساس بطبعه، إلى الشعور بالكراهة لفكرة نصب كمين في قلب المدينة لمواطن أعزل سلم له ثقته إلى حد أنه يهرب من منزله معتقدا أن صديق السيد الرئيس يبسط حمايته عليه. لا، ولا كون أن تلك الحماية لا بد أن تنكشف في نهاية الأمر وتكشف عن خدعة بالغة القسوة تملأ اللحظات الأخيرة للضحية بالمرارة إذ تجعله يتحقق أنهم قد خدعوه وخانوه وداسوه بالأقدام، وأنهم قد أعدوا طريقة بارعة لخلع مظهر قانوني على الجريمة بالقول إنها كانت الملجأ الأخير للسلطات تحول بها بين المجرم المزعوم وبين الفرار في اليوم السابق لاعتقاله. كلا. لقد كانت الدوافع التي حملت الوجه الملائكي على عض شفتيه إنكارا لتلك الخطة الجهنمية البائسة مختلفة تماما. لقد كان يعتقد بكل حسن نية أنه قد اكتسب - بوصفه حاميا للجنرال - حقوقا على ابنته، بيد أنه يرى الآن أن تلك الحقوق قد راحت ضحية قيامه بدوره المعتاد في كل مرة، كأداة عمياء، كتابع وفي يقوم بدور جلاد السيد الرئيس.
كانت ثمة رياح غريبة تهب عبر وادي الصمت الذي يلفه، حيث أخذت تنمو نباتات برية عطشى عطش الأهداف التي لا تعرف الدموع، عطش الصبار المليء بالأشواك، عطش الأشجار التي لا تسقيها الأمطار. ما معنى هذه الرغبة الحارقة؟ ولماذا يتعين على الأشجار أن تكون عطشى حين تنهمر الأمطار؟!
وأومضت فكرة في ذهنه كالبرق، أن يعود أدراجه ويدق جرس الباب في منزل كاناليس ويحذره من المصير الذي ينتظره. (وتخيل ابنته تبتسم له في امتنان). بيد أنه قد اجتاز بالفعل مدخل الحانة الصغيرة، وشعر بشجاعته تعود إليه مع كلمات فاسكيز الجريئة ووجود الرجال الآخرين. - جربني، هذا كل شيء. إنني من تبحث عنه. أجل، إنني مستعد أن أساعدك في أي شيء، أتسمع ذلك؟ إنني لست بالمرء الذي يتراجع. إنني كالقط، بسبعة أرواح، سليل عربي شجاع!
وكان فاسكيز يحاول خفض نبرة صوته الأنثوي ليعطي كلماته صفة الرجولية. وأضاف في صوت خفيض: لو أنك لم تجلب لي الحظ السعيد، لما كنت أتحدث هنا الآن بمثل هذه الشجاعة. كلا. صدقني. إنك قد أصلحت وضعي مع «ماسكواتا»، وهي تعاملني الآن كما يجب أن يكون.
ورد ذو الوجه الملائكي وهو يصافح يد الجلاد الذي قتل الأبله: «إنني سعيد جدا أن أجدك هنا مليئا بتلك الروح الجسورة. إنك رجل قريب إلى قلبي. لقد أعدت لي معنوياتي التي سرقها رجال الشرطة مني يا عزيزي فاسكيز، إن ثمة رجلا منهم أمام كل باب.» - تعال واشرب شيئا من الخمر الهولندي تدفع عنك الخوف. - أوه! إنني لا أشعر بالخوف على نفسي، فإن هذه ليست أول مرة أجد نفسي في مأزق عصيب؛ إنني خائف على الفتاة. لا أحب أن يقبضوا علينا خارجين من منزلها، أتفهم ذلك؟ - «ولكن، ما هذا؟ من الذي سيقبض عليك؟ حالما سيجد رجال الشرطة شيئا ينهبونه في المنزل لن ترى واحدا منهم في الطريق، ولا واحدا منهم، أراهن بحياتي على ذلك. إنني أعدك أنهم حين يرون ما يمكنهم أن يضعوا مخالبهم عليه، سينشغلون جميعا في حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه؛ لا تكن لديك ذرة من شك في هذا ...» - «أليس من الأفضل أن تذهب إليهم وتكلمهم، ما دمت قد تفضلت وجئت، ماداموا يعرفون أنك غير قادر ...»؟ - «كلام فارغ. لا حاجة إلى قول أي شيء لهم. حين يرون الباب مفتوحا على مصراعيه، سيقولون لأنفسهم: هيا، لا ضرر من ذلك. بل سيرون أنهم يحسنون صنعا. أما إذا رأوني، أنا الذي أصبحت شهيرا منذ اقتحمت مع «أنطونيو ليبيلولا» بيت ذلك القس الضئيل الحجم، الذي بلغ به الخوف مداه حين رآنا نهبط إلى حجرته من الطابق الأعلى ونضيء النور لدرجة ألقى إلينا بمفاتيح الخزانة التي يحتفظ فيها بمدخراته الملفوفة في منديل كبير حتى لا تصدر أصواتا، ثم تظاهر بأنه نائم! أجل، في تلك المرة خرجت منتصرا. والآن، فإن الأولاد عاقدو العزم».
وأنهى فاسكيز كلامه مشيرا إلى مجموعة الرجال الصامتين القذرين المنكودي الحظ، الذين كانوا يعبون كأسا وراء أخرى من البراندي، قاذفين بالخمر إلى سقف حلقهم دفعة واحدة ثم يبصقون باشمئزاز حالما تترك الكأس شفاههم: «أجل، أؤكد لك أنهم جاهزون للعمل.»
ورفع ذو الوجه الملائكي كأسه ودعا فاسكيز أن يشرب نخب الحب. وصبت «لامسكواتا» لنفسها كأسا من «الأنيس»، وشرب ثلاثتهم.
وعلى بصيص النور الخابي؛ إذ إنهم خشوا أن يوقدوا النور الكهربي فلم يبق من نور في الحجرة سوى الشمعة المضاءة أمام صورة العذراء، ألقت أجساد هؤلاء الرجال البائسين ظلالا غريبة، متطاولة كأنها الغزلان على الجدران المائلة إلى الاصفرار، كما بدت الزجاجات كأنها شعلات مختلفة الألوان على رفوفها. وكان الجميع يرقبون مسير الساعة. وكانت بصقاتهم على الأرض تدوي كطلقات الرصاص. وكان ذو الوجه الملائكي ينتظر على مبعدة من الآخرين وظهره إلى الحائط بجوار صورة العذراء وعيناه السوداوان الواسعتان تجولان في الغرفة، تطارد الفكرة التي ما فتئت تهاجمه في تلك اللحظات الحاسمة: إنه بحاجة إلى زوجة وأولاد. وابتسم في نفسه إذ تذكر حكاية السجين السياسي المحكوم عليه بالإعدام، الذي زاره المدعي العسكري العام قبل إعدامه باثنتي عشرة ساعة، عارضا عليه باسم السلطات أن يهبه أي شيء يطلبه، حتى لو كان حياته، مقابل أن يغير شهادته. فرد عليه السجين بحزم: حسنا، إنني أطلب أن أترك ورائي ابنا. فقال المدعي العسكري العام: موافق. وأرسل يطلب له عاهرة، وهو يظن نفسه قد أحسن صنعا. بيد أن السجين أطلق المرأة دون أن يمسها، وحين عاد المدعي العسكري قال له: «يكفي ما هو موجود فعلا من أبناء العاهرات»!
ولاحت ابتسامة أخرى على شفتيه إذ قال لنفسه: «لقد عملت مديرا لمدرسة، ورئيس تحرير صحيفة، ودبلوماسيا، وعضو برلمان وعمدة مدينة، وها أنا الآن رئيس لمجموعة من الأفاقين! هذه هي الحياة في المناطق المدارية!»
ناپیژندل شوی مخ