ومضى قدما في هذيانه فرأى نفسه يشق طريقه وسط الصعاب، متقافزا من بركان إلى آخر، ومن نجمة إلى أخرى، ومن سماء إلى سماء، نصف مستيقظ ونصف نائم، وسط أفواه ضخمة وأفواه صغيرة، بأسنان وبدون أسنان، بشفاه وبلا شفاه، بشفاه مزدوجة، بشوارب، بألسنة مزدوجة، بألسنة ثلاثية، صائحا: «أماه، أماه، أماه!»
توت، توت! واستقل القطار المحلي كي يبتعد عن المدينة إلى الجبال بأسرع ما يستطيع؛ فالجبال ستمنحه دفعة إلى أعلى نحو البراكين، فيما وراء الأبراج اللاسلكية، فيما وراء الجزر، فيما وراء حصن المدفعية، تلك الفطيرة المحشوة بالجنود.
بيد أن القطار عاد إلى المكان الذي انطلق منه، كأنما هو لعبة معلقة بحبل؛ وحين وصل: «تشوف، تشوف، تشوف»، كانت هناك بائعة خضروات لاهثة ذات شعر يضاهي؛ بأعواد الصفصاف المصنوعة منه سلتها، تنتظر في المحطة، وصاحت به: «بعض الخبز للأبله، أيها الببغاء الصغير! ماء للأبله، ماء للأبله!» وجرى ناحية «رواق الرب» وبائعة الخضروات تطارده وتتهدده بقرعة مليئة بالماء، بيد أنه حين وصل إلى هناك، دوت صيحة «أماه!»: قفزة، رجل، ليل، صراع، موت، دماء، هروب، الأبله ... «ماء للأبله، الببغاء الصغير، ماء للأبله!»
وأيقظه ما كان يشعر به من ألم في ساقه، وأحس أن هناك متاهة في داخل عظامه. واتسمت عيناه بالحزن في ضوء النهار. وكانت ثمة تعريشات تغطيها أزهار جميلة دعته كيما ينام تحت ظلالها إلى جوار غدير بارد يحرك ذيله المغطى بالزبد كأنما هناك سنجاب فضي يختبئ وسط طحالبه وأعشابه.
لا أحد. لا أحد.
ومرة أخرى، التجأ الأبله إلى ليل عينيه المغمضتين وجاهد ضد الألم، محاولا وضع ساقه المكسورة وضعا مريحا وهو يسند بيديه شفته الممزقة. ولكنه كان كلما فتح جفنيه الحارقين عبرت فوقه سماوات حمراء كالدم. وبين ومضات البرق، كانت أشباح يرقات تمرق هاربة من أمامه كأنها الفراشات.
وأدار ظهره لجرس إنذار الهذيان. ثلج للمحتضرين! بائع الثلج يبيع قربان الوفاة المقدس! القسيس يبيع الثلج! ثلج للمحتضرين! تليلين، تليلين! ثلج للمحتضرين! قربان الوفاة المقدس يمر! بائع الثلج يمر! اخلع قبعتك احتراما، أيها الأخرس ذو اللعاب السائل! ثلج للمحتضرين!
الفصل الرابع
ذو الوجه الملائكي
ومضى الأبله يحلم، في مستودع القمامة الذي استقر فيه، تغطيه أوراق الأشجار، وقطع من الجلد، ومزق، وهياكل مظلات، وأطواق قبعات من القش، وبقايا الحديد الخردة، وقطع خزف مكسورة، وصناديق من الكرتون وعجائن الكتب، وحطام زجاج، وأحذية قديمة لفحتها الشمس، وياقات، وقشر بيض، وندف من القطن وفضلات الطعام، ورأى نفسه الآن في فناء كبير، يحيط به عدد من الأقنعة، سرعان ما تبين أنها وجوه أناس منهمكين في متابعة صراع الديكة. واضطرمت المعركة بين الديكين كالأوراق التي تضطرم وسط النيران. وقضى ديك منهما دونما ألم تحت أنظار المتفرجين الجامدة، سعداء برؤية المهماز المعقوف يخرج مضرجا بالدماء. جو يعبق برائحة الخمر. بصاق بلون التبغ. أحشاء الديك الصريع. إنهاك وحشي. سبات. خور. ظهيرة مدارية. وطاف به في سباته شخص ما، يمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظه!
ناپیژندل شوی مخ