وصاح المحقق في الوقت الذي انهال السوط على وجه الرجل الكهل: قل الحق! الحق وإلا ستظل معلقا هكذا طوال الليل! - ألا ترى أنني أعمى؟ - فلتنكر إذن أن يكون القاتل هو الأبله. - كلا؛ فهذه هي الحقيقة ولدى الشجاعة أن أقولها.
وفجرت ضربتان من السوط الدماء من شفتيه ... - إنك أعمى ولكن ... اسمع، فلتقل الحقيقة، اعترف كزملائك! - «وهو كذلك!»
وافق «الذبابة» بصوت منطفئ. واعتقد المحقق أنه كسب الجولة. - وهو كذلك أيها الأخرق. - إنه الأبله ... - أيها الأحمق!
بيد أن شتيمة المحقق لم تجد صدى في آذان هذا النصف مخلوق الذي لن يسمع شيئا بعد ذلك. وحين أطلقوا الحبال، سقطت جثة «الذبابة» - أي الجذع، فقد كان جسده دونما ساقين - على الأرض كالبندول المكسور.
وصاح المحقق وهو يمر بجانب الجثة: «أيها الكذوب العجوز، لم يكن اعترافك بنافع لنا؛ فقد كنت أعمى!»
وجرى ليطلع السيد الرئيس على الخطوات الأولى للتحقيق، واستقل عربة يقودها جوادان هزيلان، وتضيء فوانيسها عيون الموت ذاته. وألقت الشرطة بجثة «الذبابة» في عربة للقمامة ابتعدت به ناحية المقابر. وبدأت الديكة في الصياح. وعاد الشحاذون الذين أطلق سراحهم إلى الشوارع. وكانت الصماء البكماء تبكي من الخوف؛ لأنها تشعر بطفل يتحرك في أحشائها.
الفصل الثالث
فرار الأبله
فر الأبله عبر الطرق الملتوية الضيقة التي تؤدي إلى ضواحي المدينة، بيد أن صرخاته المحمومة لم تفلح في إشاعة الاضطراب لا في هدوء السماء ولا في سبات السكان، الذين كانوا يتشابهون فيما بينهم في نومهم الشبيه بالموت، كاختلافهم مع مطلع الشمس حين يستأنفون الكفاح من أجل الحياة. كان البعض منهم يفتقر إلى أشد مطالب الحياة أساسية، ويضطر إلى اللجوء إلى الأعمال الشاقة كي يكسب عيشه اليومي، بينما البعض الآخر يحصل على ما يفيض عن حاجته عن طريق موارد الكسل المحظوظ: باعتباره من أصدقاء السيد الرئيس؛ أو من ملاك العقارات (أربعون أو خمسون منزلا)؛ أو المرابين الذين يقرضون الأموال بفائدة ستة وستة ونصف وعشرة في المائة؛ أو الموظفين الذين يشغلون سبعة أو ثمانية مناصب حكومية مختلفة في آن واحد؛ أو مستغلي الامتيازات، والمعاشات، والشهادات المهنية، ونوادي القمار، وحلبات مصارعة الديكة، وفقراء الهنود، ومصانع الخمور، وبيوت الدعارة، والبارات، والصحف المعانة من الدولة.
وكانت عصارة الفجر الدموية تجلل قمم الجبال التي تحيط بالمدينة التي كانت ترقد وسط الوادي كأنها أديم القشور. كانت الشوارع تبدو أنفاقا من الظلال، ينبجس منها العمال الباكرون كأنهم أشباح في فراغ عالم يخلق من جديد كل صباح، يتبعهم بعد ساعات قليلة الموظفون والكتبة والطلاب، وفي الحادية عشرة، حين تعلو الشمس كبد السماء، يظهر أكابر القوم بعد أن فرغوا من تناول إفطارهم، تنفتح شهيتهم لتناول الغداء، أو يتوجهون لزيارة صديق من ذوي النفوذ لإقناعه بالاشتراك معهم في شراء متأخرات رواتب المدرسين المدقعين بنصف قيمتها. كانت الشوارع ما زالت تقعي غارقة في الظلال، حين قطع صمتها صليل تنورات بعض النسوة ممن يعملن بلا كلل في رعي الخنازير أو بيع الحليب أو التجول بالبضائع أو بيع فضلات الذبيحة كيما يقمن أود أسرهن، أو يبكرن لأداء أعمالهن اليومية. وبعد ذلك، حين يذبل الضوء ويتحول إلى نور أبيض وردي كلون زهرة البيغونيا، تتردد أصداء قدمي عاملة صغيرة نحيلة، تزدريها السيدات الفضليات اللائي لا يغادرن مخادعهن قبل توسط الشمس كبد السماء، فيبسطن حينذاك سيقانهن في أبهاء البيت، ويحكين أحلامهن للخدم، وينتقدن المارة، ويداعبن القطة، ثم يطالعن الصحيفة، أو يتهن خيلاء أمام المرآة.
ناپیژندل شوی مخ