أقول بحمد الله معتصما به ، متوكلا عليه : ما زعمه هذا المفتي من أن جماعة من علماء المالكية ذهبوا إلى إباحة سماع الأوتار تقول عليهم باطل ، فقد ذكر أبو العباس أحمد القرطبي أن القول بالإباحة لا يعرف إلا لإبراهيم بن سعد ، والعنبري ، ونص المراد من رسالته ، كشف القناع في أحكام السماع : اعلم أن ما يقال عليه غناء على ضربين ، أحدهما ضرب جرت عليه عادة الناس باستعماله عند محاولتهم أعمالهم ، وحملهم أثقالهم ، وقطع مفاوز أسفارهم ، يسلون بذلك نفوسهم ، وينشطون به على مشقات أعمالهم ، ويستعينون بذلك على مشاق أشغالهم ، كحداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهن ، ولعب الجواري بلعبهن يوم العيد ، وما شاكل ذلك ، فهذا النحو إذا سلم المغني به عن ذكر الفواحش والمحرمات، كوصف الخمر والقينات، فلا شك في جوازه ، وربما يندب إليه إذا حصل منه ما ينشط على أعمال البر ، ويرغب في تحصيل الخير ، كالحداء في الحج والغزو ، إلى أن قال : والضرب الثاني غناء يستعمله المغنون العارفون بصنعة الغناء ، المختارون لما رق من غزل الشعر ، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة ، المقطعون له على النغمات التي تهيج النفوس وتطربها ، كحميات الكؤوس ، فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة : أحدها أنه محرم ، وهو مذهب مالك ، قال أبو إسحاق الصباغ : سألت مالكا عما يترخص فيه / أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق 7 وقال : إذا اشترى جارية ، فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، وهو مذهب سائر أهل المدينة في الغناء إلا إبراهيم بن سعد وحده ، فإنه كان لا يرى بالغناء بأسا ، وإلى تحريم ذلك ذهب أبو حنيفة ، وأهل العراق ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، وحماد ، وسفيان الثوري ، وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك ، وقال الحارث المحاسبي : الغناء حرام كالموسيقى ، إلى أن قال القول الثالث : الإباحة ، وهو المروي عن إبراهيم بن سعد ، والعنبري ، وهما شاذان ، ولا يلتفت إليهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم (¬1) ( إن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ) ، ولأن العنبري مبتدع في اعتقاده ، وهو غير مرضي في علمه ، وإبراهيم بن سعد ليس من أهل الفتيا ، وقد حكى أبو طالب المكي الإباحة عن جماعة من الصحابة : عبد الله بن جعفر ، وابن الزبير ، والمغيرة ، ومعاوية ، وغيرهم ، وقد فعل ذلك كثير من السلف صحابي ، وتابعي ، وقال : لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة ، وهي الآيام المعدودات ، قال المعلى رحمه الله تعالى : وهذا إن صح فإنما هو مسموع على سماع النوع الأول لا الثاني ، وقد حكاه بعض الشافعية ، والقشيري عن مالك ، ولا يصح عنه بوجه ، ولا عن أحد من أصحابه ، ثم قال بعد نحو عشرين ورقة: المسألة الرابعة في حكم سماع آلات اللهو ، أما المزامير والأوتار والكوبة ، وهو طبل طويل ، ضيق الوسط ، ذو رأسين ، يضرب به المخانيث ، فلا يختلف في تحريم سماعه ، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف ، وأئمة الخلف أنه يبيح ذلك ، وكيف لا يحرم سماع ذلك ، وهو شعار أهل الخمور والفسوق ، ومهيج للشهوات والفساد والمجون ، وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ، ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه ، انتهى .
وقد بسط الأدلة ، ورد أدلة الخصم ، وأشنع القول في ذلك ، فليراجعها من أحب .
مخ ۱۰