فقال الخليفة: «لقد فاجأ غوردون الحاج محمد من البر والبحر، وكان البحر الأزرق في الفيضان، وقد أحاط البواخر بما يمنع رصاص البنادق من الوصول إلى جنده، هذا الكافر رجل ماكر ولكنه سينال عقاب الله، وقد تقهقر رجال الحاج محمد، وغوردون الآن في طرب النصر، ولكنه مخدوع؛ فإن الله لا ينصر إلا الذين يؤمنون به وسينتقم الله منه قريبا. وليس الحاج محمد ذا كفاية؛ ولذلك سيرسل المهدي واد النجومي لكي يطوق الخرطوم.»
فقلت وأنا أقصد عكس ما أقول: «أرجو ألا يكون الحاج محمد قد خسر خسائر فادحة.»
فقال الخليفة بحق: «لا حرب بلا خسارة، ولكني لم أقف على التفاصيل بعد.»
وكان انتصار غوردون قد عكر مزاجه، فذهبت عنه دماثته وكان يبدو عليه أنه يخشى النتائج لهذا الانتصار. ولما ذهبت إلى عشتي بعثت خادمي لكي يدعو صالح واد المك سرا لزيارتي، فأخبرته بأن الخليفة يؤيد رواية انتصار غوردون، فقال لي إنه سمع أيضا هذا الخبر من أفراد قرابته، وامتلأ قلبي بهجة وطربا لهذا النصر، ووجدت نفسي أتحدث وأنا كلي رجاء بالمستقبل، ولكن صالح كان يعد هذا النصر وقتيا، وكان يبني اعتقاده هذا على أسباب معقولة.
وأخذ يوضح لي الحالة بقوله إنه عندما وصل إلى الخرطوم بدأ تأثير المنشور عن إخلاء السودان يظهر، وزادت لذلك صعوباته، وصارت قبائل الجعالين تجتمع وقد اختارت لها الحاج علي واد سعد رئيسا، وقد اجتمعت لديه قوة كبيرة، ولكنه لأسباب شخصية كان يميل إلى الحكومة فجعل يسوف في القتال.
ورأى القناصل في الخرطوم أن الحالة تتفاقم فطلبوا من غوردون أن يرسلهم إلى بربر، وقد كان مما يشك فيه أن يصلوا سالمين إلى بربر؛ ولذلك نصح لهم غوردون بالبقاء في الخرطوم فبقوا. أما أهالي الخرطوم فقد أخذوا يتوجسون من غوردون؛ لأنهم تحققوا من المنشور أن غوردون إنما جاء لكي يسحب الحامية، وإن كانوا قد عرفوا بعد ذلك أن غوردون إنما جاء لكي يدافع عنهم أو يموت معهم.
وجمع الشيخ عبيد، وهو من أكبر مشايخ الطرق في السودان، أتباعه في حلفا لكي يحاصر بهم الخرطوم، وأرسل غوردون بعض الجيش بقيادة حسن باشا حسين الذي كان حاكما على شقة لكي يجلوا المحاصرين عن أماكنهم، ووقف غوردون على سطح قصره يراقب جنوده منه بتلسكوبه، فرأى بعض ضباطه يفاوضون الثائرين في التسليم، فأحضرهم في الحال وعقد لهم محكمة عسكرية، ثم ضربوا بالرصاص، ولكنه على الرغم من هذه النكبة تمكن من تخليص الشايجية، وكانوا موالين للحكومة؛ فإنه ندب لهم السنجق عبد الحميد واد محمد فأنقذهم وأحضرهم إلى الخرطوم.
وكان صالح واد المك في فيداس قد طوقه الثائرون، فرجا غوردون أن يفك الحصار عنه، ولكن غوردون لم يتمكن من ذلك فاضطر إلى التسليم ومعه ألف وأربعمائة من الجنود غير النظاميين وذخائرهم، وبعد هذا النصر جمع الحاج محمد أبو حرجة جميع سكان الجزيرة لمحاصرة الخرطوم.
وبينما كانت هذه الأحوال تجري حول الخرطوم كان محمد الخير - معلم المهدي السابق وكان قبلا يدعى محمد الذكر - قد أتى إلى النهر، فعين المهدي تلميذه السابق أميرا على بربر ووضع جميع القبائل في تلك المديرية تحت تصرفه، فجمع محمد الخير جميع أنصاره من الجعالين قبيلته وأمدهم بعدد كبير من البرابرة والبشارية وسائر العرب، ثم طوق بهم مدينة بربر، فلم يمض عليها بضعة أيام حتى سقطت.
وكانت مديرية دنقلة لا تزال ثابتة على ولائها للحكومة؛ وذلك يرجع إلى مكر مديرها مصطفى بك ياور؛ فإنه عرض تسليم المدينة إلى المهدي مرتين ولكن المهدي توجس شرا منه لأنه تركي، وأرسل أحد قرابته سيد محمود علي لكي يشترك هو وأمير الشايجية الشيخ حداي في تسليم المدينة، فلما علم مصطفى بك ياور ذلك - وكان عنده في ذلك الوقت ضابط إنجليزي، هو اللورد كتشنر، يشجعه على القتال - جهز جيشا وأوقع بحداي ثم سحق المهديين في كورش، وقتل الأميران محمود وحداي.
ناپیژندل شوی مخ