وفي صباح اليوم التالي حضر إلي الضابطان، فعرضت عليهما خطاب زوجال الذي يطلب فيه مني التسليم وأن أقابله في 23 ديسمبر في حلة الشعيرية حيث يسلمني بيده خطاب المهدي إلي، ومما كتبه إلي زوجال أيضا أنه يضمن حياتي وحياة جميع من معي من الرجال والنساء والأولاد.
ثم طلبت الكاتب وأمليت عليه خطابا لزوجال، أعلنت فيه خضوعي وخضوع الحامية، واتفقت على مقابلته في 23 ديسمبر عند حلة الشعيرية، وسلمت هذا الخطاب لرسول يقوم به لإيصاله إلى زوجال الذي صار اسمه الآن سيد محمد بن خالد.
وفي أصيل الغد جمعت الضباط وأخبرتهم بأنه لما كانت المقاومة غير مجدية فقد قبلت اقتراحهم عن التسليم، ولكني سأغادر دارة في هذا المساء لكي أقابل زوجال في حلة الشعيرية ، وإني سآخذ القاضي معي، أما الضباط فسأتركهم مع الحامية. ثم شكرتهم بكلمات قليلة كانت شجى في حلقي لولائهم واستعدادهم للتضحية بأنفسهم في سبيل خدمة الحكومة وطاعتهم لي، ثم ودعت كلا منهم باليد واحدا بعد آخر، وودعت الموظفين المدنيين جملة وشرعت في السفر.
وكنا في منتصف الليل حين خرجت مع القواصين من دارة، وقد لاقيت المشاق في سفراتي الماضية وأنا بدارفور، ولكن هذا السفر كان أشق ما احتملته؛ فقد كنا جميعا غارقين في تأملاتنا المحزنة حتى لم ينطق أحدنا بكلمة. وعند الغروب استرحنا قليلا ووضع الخدم الطعام أمامنا ولكنا لم نمسه؛ إذ لم تكن لنا شهوة للطعام. ثم استأنفنا السير، ولما اقتربنا من حلة الشعيرية بعثت ياوري لكي يتقدمنا ويرى هل حضر زوجال أم لا، وعاد إلينا في الحال وأخبرنا بأنه هناك ينتظرنا منذ الأمس، وبعد مدة قليلة بلغنا المكان فوجدناه واقفا، وترجلت وتقدمت إليه لكي أحييه، فضمني إلى صدره وأكد لي صداقته ورجاني أن أقعد ثم سلمني خطاب المهدي، ولم يكن في هذا الخطاب سوى تعيين زوجال - أي سيد محمد بن خالد - حاكما على الغرب، وأن المهدي قد عفا عني وأوصى بمعاملتي بالإكرام الذي يليق بمنصبي، وأن يعامل سائر موظفي الحكومة السابقة باللطف والكرم. وبعد أن انتهيت من قراءة الخطاب قال لي زوجال إن المهدي إنما عفا عني للشهادة الطيبة التي شهدها في حقي عنده، وإنه سيقدم لي كل معونة، فشكرت له عطفه. ثم قدم إلي الأمراء والطيب وحسن نجومي، وقد كنت قابلتهم سابقا، ثم تناولنا الطعام وأخبرني زوجال أنه ينوي السفر إلى دارة.
وبينما كنا نتحادث وصل إلينا أحد ضباطي محمد أغا سليمان، فلما رآني لم يكترث لي أقل اكتراث، بل ذهب إلى زوجال وحياه تحية الحفاوة المبالغ فيها، فتذكرت أنه كان قد اتهم مع اثنين آخرين بأنه جاسوس زوجال.
وأخذني محمد - زوجال - وتنحى بي قليلا وخاطبني في شأن أقاربه وأسرته، فأخبرته بأن الجميع في صحة جيدة وأن أقاربه لا يزالون معتقلين، ووافقني على الإجراءات التي اتخذتها وقال إنها أفادتنا نحن الاثنين. ثم قمنا وسرنا إلى دارة وقضينا الليلة في الخيام قريبا منها، ووافانا هناك عدد كبير من الأهالي والموظفين، وكلهم قد لبسوا ملابس الدراويش وحيوا الوالي الجديد.
ولم تغمض عيناي في تلك الليلة، وكانت ليلة عيد الميلاد، فتذكرت أهلي وأعياد الكنائس البهيجة التي يحتفل بها في وطني في ذلك الوقت، في حين أجدني هنا وحيدا مهزوما مضطرا إلى تسليم رجالي وذخائري إلى العدو. وفي تلك الساعات الهادئة التي كانت أحفل ساعات حياتي حزنا وغما، أخذت أعرض أمام ذهني كل ما جرى لي، فتحققت عندئذ أن أولئك الذين قتلوا في ميدان الشرف كانوا أحسن حظا مني.
وفي الغد استقبل زوجال جميع الذين جاءوا إليه لكي يقدموا إليه طاعتهم وولاءهم، ثم احتل الدراويش القلعة فتم له بذلك احتلال المديرية، وتوافد عليه الأهالي لكي يقسموا له يمين الولاء للمهدي، وفي النهاية عرض الجيش وأدى هذه المهمة نفسها.
ولقيت هنا المادبو الذي كان قد لحق بعبد الصمد في برنجل، فشيعني إلى المنزل وطلبت منه أن يقعد فقال: «يبدو عليك كأنك مغتاظ مني، وكأنك تعتقد أني خنتك، ولكن أصغ إلي؛ لقد فصلني إميلياني من وظيفتي باعتباري رئيس المشايخ، فذهبت إلى بحر العرب حيث طلبني المهدي، ولما كنت مؤمنا مسلما اتبعته؛ فسمعت عظاته وتحققت من قداسة رسالته وحضرت هزيمة يوسف شلالي وانتصار رجال المهدي عليه انتصارا مدهشا، فآمنت بدعوته وما زلت كذلك للآن، وقد وثقت أنت بالطبع بقوتك وأبيت أن تسلم بلا قتال، وعلى ذلك تحاربنا، ولكني لم أكن أقاتلك أنت شخصيا وإنما كنت أقاتل الحكومة، والله يعلم أني ما نسيت قط أنك كنت تنظر إلي نظرة الصداقة، فدعك من الغضب وكن أخا لي.»
فقلت: «لم أغضب لما فعلت فإنك واحد من آلاف، ولو كان في قلبي غيظ فإن كلماتك قد أزالته.»
ناپیژندل شوی مخ