وكان مسدجاليه بك، وهو رجل إيطالي، حاكما على الفاشر، وقد تلقانا بالبشر وخصص لنا أمكنة في مباني الحكومة، وكنا قد أصبنا بحمى من مسيرنا في الأمطار، فقر رأينا على أن نرتاح بضعة أيام.
وبعد أن استرحنا استأنفنا السفر أنا والدكتور زربوخين إلى دارة، ورافقنا على سبيل التشييع مسدجاليه بك، وأخبرنا أن زوجته ستحضر إلى الخرطوم، وأنه قد طلب إجازة لكي يسافر ويستقبلها فيها ثم يحضر وإياها إلى الفاشر، فاقترحت عليه أن ينتظر حتى تنتهي مسألة السلطان هارون ثم يحضر وزوجته بعد ذلك، ولكنه أجابني بأنه ليس هناك أقل خوف، وأن في البلاد جيوشا كافية لقمع أي حركة، ولكني كنت سمعت بأن نفوذ هارون عظيم، وأن هناك خوفا على جنود الحكومة من ضغطه عليهم. ولما كنت حديث العهد بالمجيء إلى السودان وقليل الخبرة بأحواله، لم أقدر على أن أعطي رأيا باتا في الموضوع، فودعته هو وسعيد بك جمعة الحكمدار وسرنا إلى دارة عن طريق كريوت ورأس الفيل وشعيرية.
وكان لزربوخين هيئة تدل على أنه أكبر مني سنا، وكانت له لحية طويلة سوداء، وكان يضع على عينيه نظارة سوداء. أما أنا فكانت هيئتي تدل على أني أقل عمرا من الحقيقة؛ فلم يكن شاربي قد نبت إلا قليلا، وكانت لي سحنة الصبيان، فكنا لا نسير في أي مكان حتى يظنه الناس أنه هو الحاكم والطبيب أو الصيدلي، ولما قاربنا غاية سفرنا كان الدكتور زربوخين مريضا بالحمى؛ ولذلك تأخر بدابته عني ومشى وئيدا حتى وصلت إلى شعيرية قبله، وشعيرية هذه على سفر يوم من دارة، وكان أهل القرية يستعدون لاستقبالنا، فكنسوا المنازل ووضعوا الحصير، ووضع القاضي والشيخ سجادا لكي يستريح الحاكم القادم، وبرك جملي ونزلت عنه، ولما سألوني عن شخصي قلت إنني أحد حرس الحاكم، وأخبرت من معي من الحرس بألا يقولوا شيئا، وأخذ القرويون يسألونني عن الحاكم الجديد، فقلت لهم: «أظنه سيجتهد بأن يعمل ما في جهده وأنه يميل للعدل والتسامح.»
فقال واحد منهم: «ولكن هل هو شجاع طيب القلب؟» وكان هذا السؤال تصعب الإجابة عليه، فقلت: «يبدو عليه كأنه لا يخاف، ولكني لم أسمع شيئا عن شجاعته، وله هيئة الرجال، وأظن أنه طيب القلب، ولكنه بطبيعة الحال لا يمكنه أن يرضي كل أحد.»
فقال آخر: «لو كان لنا حاكم مثل غوردون باشا لرضي كل واحد، وأمنت البلاد بأنه لم يتوقف قط عن الإنعام على الناس وإلطافهم، وما جاءه فقير قط وعاد خائبا، ولم أسمعه يتكلم بقسوة إلا مرة واحدة؛ وذلك حين كان سليمان زبير في دارة؛ فإنه التفت إلى القاضي وقال إن بين السودانيين من لا يستحق أن يعامل بالرأفة به، فقال القاضي: «أجل سمعته يقول ذلك، ولكنه كان يشير بقوله هذا إلى الجلابة وتجار النيل، الذين كانوا يشتركون مع الزبير وابنه في جميع التجارات غير الشرعية التي كانوا يتكسبون منها».»
وقال شيخ القرية واسمه مسلم ولد كباشي: «غوردون بطل؛ فقد كنت أنا أشتغل معه في القتال مع عرب ميمة والخوابير في سهل فافة في يوم شديد الحر، وتقدم العدو وأجلانا عن الخط الأول، وكانت الحراب تقع علينا كثيفة من كل جانب، ورأيت حربة تقع على قيد شعرة من غوردون فما بالى، ولم ننل النصر إلا لثباته هو واحتياطيه المؤلف من مائة رجل، ولما كانت المعمعة على أشدها أخرج سجارة وأشعلها، إني مارأيت شيئا قط في حياتي مثل هذا. وفي اليوم التالي عندما شرع في توزيع الغنائم لم يغب عن ذهنه أحد، ولم يحفظ لنفسه شيئا، وكان رفيقا بالنساء والأطفال، ولم يأذن بسبيهم كما هي عادتنا في الحرب، بل كان يطعمهم ويكسوهم على نفقته، أو كان يردهم إلى منازلهم عند انتهاء الحرب. وفي أحد الأيام سبينا عدة نساء بدون علمه وحجزناهن، ولو علم بفعلتنا لرأينا منه الويل.»
وبعد سكوت سألت عن الأحوال في دارة وصفات الموظفين؛ لأني كنت سمعت أنهم لا يوثق بهم، وأنهم لا ينظرون بعين الرضا إلى مجيئي.
وهنا وصل الدكتور زربوخين وسائر القافلة، فوقف الشيخ والقاضي وأعيان القرية في نصف دائرة لاستقباله، أما أنا فقد تنحيت جانبا واختفيت، وأخذت أنصت لما يقول مسلم ولد كباشي الذي بدأ يحيي الوالي الجديد ويصف له فرحه بقدومه، وكان زربوخين لا يعرف من العربية إلا القليل، فارتبك أشد الارتباك لهذه التحية وقال لهم: «الحقيقة إنني لست الحاكم، أنا مفتش الصحة، ولا بد أن الحاكم قد وصل قبلي، ولكن بالنسبة لأن الرجال الذين معه قليلون ربما لم يحسبه أحد لذلك أنه هو الحاكم.» فتقدمت أنا عندئذ وشكرت للقرويين، وأنا أضحك، لطفهم وحسن استقبالهم، وأكدت لهم بأني سأعمل جهدي لكي أرضيهم، وأني منتظر منهم أن يعاونوني على إنفاذ الأوامر، وأخذوا بالطبع يعتذرون إلي عن خطئهم، ولكني وضحت لهم أنه ليس هناك ما يدعو إلى هذا الاعتذار، وقلت لهم إني أرغب في أن تكون علاقتي بهم متينة حميمة، وإني أرجو أن تكون هذه رغبتهم أيضا، ومن هذا الوقت صار مسلم ولد كباشي من أعز أصدقائي، وبقي كذلك في أوقات الفرح والحزن على السواء حتى برحت البلاد.
وقد هاجت هذه الحادثة الصغيرة شهوتنا للطعام، وقعدنا وتناولنا طعاما فاخرا من الضأن المشوي، ولما انتهينا امتطينا الدواب واسترحنا في الليل تحت شجرة على مسير ساعتين من دارة، وعند شروق الشمس أرسلت رسولا لكي يخبر بقدومنا، ولما صرنا في أرباض المدينة خرجت الحامية واصطفت واستقبلتنا استقبالا عسكريا وأطلقت سبع قنابل إكراما لنا، وكان معها حسن حلمي الحكمدار وزوجال بك نائب الحاكم والقاضي وبعض أعيان التجار، وذهبنا جميعا إلى القلعة حيث دار الحكومة، وقضينا نصف ساعة في التفتيش، ثم ذهبت إلى مسكني وأمرت بتهيئة بعض الغرف للدكتور زربوخين في مسكني؛ لأني أردت أن ينزل عندي ضيفا بضعة أيام.
وما كدنا ننتهي من العشاء حتى سمعت ضوضاء بين الخدم الذين كانوا يدافعون رجلين من الدخول إلينا، وكان هذان الرجلان رسولين يحملان خطابا من أحمد قاطنج وجبر الله؛ وهما الرئيسان للحامية غير النظامية في بير جوى، وهي على مسيرة ثلاثة أيام في الجنوب الغربي من دارة، وقد قالا في الخطاب إنهما علما أن السلطان هارون سيغير عليهما، وأنهما بالنسبة لقلة عدد الحامية قد قررا إخلاء مكانهما ما لم تأتهم أمداد من الحكومة، وقالا أيضا إنهما إذا تركا مركزهما فإن جميع القرى ستنهب.
ناپیژندل شوی مخ