وبلغت هذه الأخبار السيد محمود في أم درمان، فسافر في الحال إلى الأبيض، وتولى قيادة الجند وسار إلى جبل النوبة، وحاول أن يهزمهم ولكنه فشل في ذلك وقتل هو وعدد كبير من الجند.
ولم يكن الخليفة يجهل تزايد قوة خالد - زوجال - واستقلاله في دارفور، وكان يعرف أنه لقرابته من المهدي يعطف على الخليفة شريف، فتعلل بأنه يرغب في أن يتوسط خالد بينه وبين الخليفة شريف في إيجاد الصلح والوفاق، ودعاه لذلك إلى الحضور إلى أم درمان مع جميع جنوده.
ولكن عندما وصل خالد إلى بارة وجد نفسه محوطا بأتباع أبو أنجة، وكان الخليفة قد أمرهم بأن يأخذوا جنود خالد ويضموهم إلى جيشهم ويذهبوا جميعا إلى جبل النوبة لمقاتلة المتمردين، ولم يكن بد من أن يخضع خالد بعد أن وقع في هذا الشرك، فقيد بالسلاسل وأرسل إلى أم درمان، ثم صودر في أملاكه وبقي سجينا عدة أشهر، ولكن عفي عنه بعد ذلك وعين بدلا منه عثمان واد آدم ابن عم الخليفة.
ونجح أبو أنجة في هزيمة المتمردين، فقتل جميع الزعماء وجعل معظم الجنود المتمردين عبيدا.
وعلمت من تاجر قدم إلينا من كردوفان في ذلك الوقت أن صديقي يوسف أوهروالدر قد غادر الأبيض، وأنه سيصل قريبا إلى أم درمان. ومع علمي بأني سأجد أكبر مشقة في لقائه فقد فرحت بأن أحد بني وطني سيكون قريبا مني، وكنت طول الوقت على باب مولاي الخليفة أنفذ أوامره، وكان يخاطبني أحيانا بلهجة الرأفة ويدعوني إلى الطعام فآكل معه، وفي أحيان أخرى كان ينساني نسيانا تاما أو ينظر إلي نظرة الحقد والغضب بلا مناسبة أستطيع فهمها، ولكني صرت أنسب هذه الأحوال إلى مزاجه الشخصي، وصرت أسوم نفسي على الرضا.
وكنت لا أبدي أقل اكثراث لما يحدث في البلاد من الحوادث؛ وذلك حتى لا يجدوا سببا في زيادة شبهات الخليفة الذي كان على الدوام يتوجس مني شرا ويسأل عن مسلكي، ولكن الحقيقة أني كنت أرقب الحوادث بعين الاهتمام بمقدار ما يسمح لي مركزي، وكنت أحاول أن أنقشها في ذهني حتى لا أنساها؛ لأنه لم يكن يسمح لي بكتابة شيء. وكان الخليفة يقتر علي في مئونة بيتي، وقلما كان يأذن بإعطائي بعض الأرادب من الذرة أو منحي بقرة أو شاة.
وكنت أعرف إبراهيم عدلان مدة الحكومة السابقة فكان يرسل لي كل شهر مبلغا يتراوح بين العشرة والعشرين ريالا، وكان بعض الموظفين والتجار يساعدونني أيضا بالمال من وقت لآخر، وعلى ذلك يمكنني أن أقول إن حالي وإن لم تكن في يسر فإني لم أشعر بالحاجة إلى ضروريات المعيشة، أو كنت أشعر بها قليلا من وقت لآخر فقط. وعلى كل كانت حالتي تفضل حال صديقي لبتون، الذي وعده الخليفة بمساعدته ولكنه لم يف بوعده. وكان لبتون يتمتع بشيء من الحرية؛ يجول أين شاء في أم درمان، ويحادث الناس، ولم يكن مضطرا إلى حضور الصلوات الخمس في المسجد، ولكن حياته كانت مع ذلك مملوءة بالمتاعب والأحزان، وقد رجوت عدلان أن يساعده ويعطيه شيئا من المال ولكن هذا لم يكفه. وكان لبتون يجهل التجارة ولكن الحاجة اضطرته إلى أن يربح شيئا بإصلاح البنادق الفاسدة. ولما كنت أعرف أنه كان مستخدما في السفن الإنجليزية قديما خطر في بالي أنه ربما يعرف شيئا عن الآلات.
والتقيت به أحد الأيام في المسجد، فشكا إلي سوء حاله شكاية مرة، فاقترحت عليه أن أبحث له عن وظيفة في البواخر يستعين بها على العيش، فطرب لمقترحي ووعدته بأني سأعمل جهدي لكي أحقق له ذلك.
وبعد أيام بينما كان الخليفة في مزاج موافق ينظر إلي بعين الرضا؛ لأن أبا أنجة أرسل إليه جوادا عتيقا وبعض المال وعددا من عبيد خالد، فعدت لتناول الطعام معه، وذكرت له حال البواخر وأنها يخشى عليها من التلف؛ لأنه ليس فيها من يفهم آلاتها وكيفية إصلاح ما يفسد منها، فقال لي إنه لا يعرف شيئا عنها مطلقا، وإنه في حيرة ماذا يفعل لصيانتها؛ فإنها ضرورية. فاقترحت عليه في الحال بأنه يمكن أن نستخدم لبتون فيها لصيانتها وإصلاحها، وقلت له إن لبتون كان مهندسا في إحدى البواخر الإنجليزية، فوافقني الخليفة على اقتراحي وأمرني بالبحث عنه.
وفي اليوم التالي بحثت عن لبتون ودعوته للحضور، فحضر وأخبرته بما قاله الخليفة، ولكني نصحت له بألا يعمل شيئا مفيدا للبواخر التي يملكها أعداؤنا.
ناپیژندل شوی مخ