أما «شارلوت» فلا تكاد تسمع هذا النبأ حتى تذعر، وتريد أن تنصرف؛ لأنها تكره أن ترى هذه الجثة. وقد انصرفت مع «سان فوان»، وخلا الفيلسوف إلى القسيس، فهما يتحاوران وينتظران الجثة.
وهل أترجم لك الحوار؟ أم هل ألخصه؟ ولم أترجمه أو ألخصه؟ وما نفع هذه الترجمة أو هذا التلخيص ؟ الفيلسوف يدافع عن مشورته الفلسفية، والقسيس يدافع عن مشورته الدينية، وكلاهما مخلص في دفاعه، وكلاهما غير مقنع لصاحبه، وكيف يستطيع أحدهما أن يقنع الآخر؟! فإذا عجز الدين عن أن يوفق بين سعادة الناس ومنافعهم، فليست الفلسفة أقل عجزا منه عن التوفيق بين هذه السعادة وهذه المنافع؛ ذلك لأن في الحياة عقدا ليس إلى حلها من سبيل. وهما يتحاوران والحوار يشتد بينهما، ولكن حركة تدنو، وإذا القسيس يطلب إلى صاحبه الصمت، ويشير بيده إلى قوم يدنون وقد حملوا الجثة.
مايو سنة 1924
الرقص في نصف الليل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «شارل ميري»
حدثتك عن هذا الكاتب منذ حين، يوم حللت لك قصة من قصصه هي «الأمير جان».
1
ولست أدري أتذكر هذه القصة أم قد نسيتها، ولكني أذكرك بأني أشرت حين كتبت عن هذه القصة إلى أن هذا الكاتب ليس من الكتاب الذين يقصدون إلى فكرة فلسفية أو إلى نظرية من النظريات، فيدرسونها ويبعثون فيها الحياة، وإنما هو يريد أن يلهى لا أكثر ولا أقل، أو قل هو يريد أن يلهى دون أن يخلو لهوه من نفع خلقي ما، ولكن هذا النفع الخلقي ليس هو الذي يعنى به أو يقصد إليه، وليس هو الغرض الأساسي من القصة، إنما قصصه حركة متصلة قلما يكون فيها وقت للتفكير والروية أو للبحث وتحليل العاطفة، فإن عرض لشيء من ذلك فهو لا يعرض له ليتخذه موضوع قصته، وإنما يعرض له لأنه احتاج إليه احتياجا. هو كاتب عملي لا يريد أن يتخذ ملعب التمثيل مدرسة فلسفية أو اجتماعية، وإنما يريد أن يتخذه ملعبا ينفق فيه الجمهور شيئا من وقته لاهيا عابثا دون أن يضيع هذا الوقت أيضا.
ولقد قرأت هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم، والتي وصلت إلينا في الأسبوع الماضي، فترددت في أن أتخذها موضوعا للحديث؛ فقد يكون من الناس من يميل إلى هذا النحو من القصص الذي تكثر فيه الحركة ويتصل فيه العمل، ولكنه يخلو أو يكاد يخلو من فكرة قيمة تكون موضوعا لهذه الحركة أو هذا العمل. قد يكون من الناس من يميل إلى هذا النحو من القصص، أما أنا فلست أحبه ولا أميل إليه، ولست أرضى عن قصة تمثيلية إلا إذا جمعت إلى الحركة والعمل معنى فلسفيا قيما، أو جمالا فنيا خليقا بالإعجاب. ولا أستطيع أن أقول إن في هذه القصة جمالا فنيا خلابا، ولا أستطيع أن أقول إن فيها فكرة فلسفية قيمة مبتكرة، وإنما هي قصة عادية إن يكن لها امتياز فهو سرعة الحركة واتصالها. ومع ذلك فسأحدثك عنها، لأنها ظهرت حديثا، وعني الناس بها وأكثروا الكلام فيها، ومن حقك علي أن أظهرك من حين إلى حين على ما يعنى به أهل التمثيل ومحبوه في باريس.
ثم إن هذه القصة قد لا تخلو من نفع؛ فهي إذا لم يمكن أن تقرن إلى القصص التي يكتبها زعماء الفن، ك «فرنسوا دي كوريل» و«موريس دونيه» و«ألفريد كابو» و«بول هرفيو»، فليس معنى هذا أنها خليقة أن تطرح وتزدرى. وأنا بعيد كل البعد عن إطراحها وازدرائها؛ فقد وجدت فيها شيئا من اللذة غير قليل، وكل ما أريد أن أقول هو أنها لا تحقق المثل الأعلى الذي أسمو إليه عندما أفكر في القصص التمثيلي، على أنها لا تخلو من تحليل دقيق ومن مواضع خلابة مؤثرة. ولعلها لا تخلو من شيء آخر أريد أن أشير إليه مع احتياط شديد؛ فالاحتياط الشديد واجب على الكتاب المصريين في هذه الأيام، لا تخلو من إشارات إلى الحياة السياسية الفرنسية، بل لا تخلو من عبث بالبرلمان الفرنسي وبالحكومة الفرنسية وبنظام الحكم في فرنسا بوجه عام، فلنشر إلى هذا أثناء التحليل حذرين محتاطين؛ حتى لا ينالنا ما نال قوما آخرين، وإن كان البرلمان الفرنسي لا البرلمان المصري، هو موضوع هذا العبث الذي سنمر به مضطرين في هذا التحليل، وربما لم نكره أن يظهر القراء على هذا النحو من العبث الذي يسمح به الكتاب الفرنسيون لأنفسهم بالقياس إلى مجالسهم النيابية وإلى وزاراتهم المختلفة، ففي هذا مثال لشيء من الحرية السياسية في البلاد التي تفقه الحرية السياسية وتقدرها وتريد أن تستمتع بها حقا، وفي هذا مثال لهذا التصور الديمقراطي الصحيح، الذي نتمنى أن نصل إليه في بلادنا غدا أو بعد غد، وهو هذا التصور الذي لا يجعل أعضاء المجالس النيابية آلهة، ولا أنصاف آلهة، ولا أرباع آلهة؛ بل لا يجعلهم مقدسين أو كالمقدسين، بل لا يعصمهم من النقد، ولا يجعلهم بمأمن من عبث العابثين ولهو اللاهين.
ناپیژندل شوی مخ